الحكايات بشكلها الكلاسيكي دينية كانت أو فلكلورية تقوم بشكل أساسي على صراع ما، أحياناً ما يكون صراعاً بين شخصين، أو بين أفكار متعارضة تتمثل في الشخصين، لكن كل حكاية تؤسس لعالم الأخلاقيات الخاص بها، فهي تهيئ لنا الخير والشر وتساعدنا على التماهي مع من تراه على حق، ومع تطور وسائل الحكي البصرية من مسلسلات وأفلام أصبح الخط الفاصل بين مفاهيم الخير والشر رفيعاً، لأن الحياة أعقد من التباينات الحادة، كما أن صناعة الترفيه والفن تتجه كلما تطورت إلى ترك مساحة للمتلقي لكي يحكم بنفسه وبمنظومته الأخلاقية الخاصة على مفاهيم الحق والباطل.

المسلسلات عامة والرمضانية منها خاصة وسيطها الأساسي هو التلفزيون، حتى مع صعود منصات البث الإلكتروني التي تجعل تجربة المشاهدة أكثر ذاتية وفردية ما زالت الأسر تشاهد المسلسلات بشكل جماعي أمام التلفزيون خاصة مع تزامنها مع أوقات الإفطار والسحور، يعطي ذلك من الحكايات التي تعني بالعائلات أولوية أكبر، وفي هذا العام يوجد عدة أعمال تشترك في تيمات الصراعات العائلية وديناميكيات العلاقات الداخلية بينها، لفتت بعض الأعمال الأنظار بشكل خاص لارتباط تيمة دراما العائلة بتيمة الانتقام والشر المطلق الذي يصعب تصديق حدوثه في العالم الواقعي نظراً لعنفه الشديد وسهولة وصوله الى حد إراقة الدماء.

يتناول كل من البرنس، خيانة عهد وفرصة ثانية قصصاً تتعلق بالانتقام والعنف الأسري يمكن وصف الأعمال التي تتناول الصراعات العائلية في ذلك الموسم بالأعمال الميلودرامية، فهي تجنح إلى المبالغة واستدرار المشاعر وتتجنب فكرة الواقعية حتى وإن رسمت شخصياتها بشكل واقعي فهي تقع في دائرة من الأحداث المتطرفة، يصف بيتر بروكس أحد الباحثين في مصطلح الميلودراما في عنوان كتابه الخيال الميلودرامي بأنها حالة من الإفراط، فهي تتمحور حول إفراط في المشاعر وفي الأحداث التراجيدية وفي ردود الأفعال الناتجة عن تلك الأحداث، هي الشطح في الخيال المأساوي إلى حد الوصول إلى أكثر نتائجه تطرفاً، تستهدف الميلودراما بشكل خاص المتفرجين من الإناث، نظرا لطبيعتها المنزلية، فالصراعات فيها عادة ما تكون داخل البيوت المغلقة، الميلودراما هي عادة صراع بين خير وشر ويؤجج الصراع شخصيات شريرة نمطية من نوعية النساء المغويات أو الرجال بالغي الثراء لا تترك  مجالاً للمشاعر أو الأفكار الخفية بل الكل ينطق بما يخفي قلبه في خطابات مطولة بعيون دامعة.

البرنس والشر الأسطوري

أحمد زاهر ومحمد رمضان من مسلسل البرنس
أحمد زاهر ومحمد رمضان من مسلسل البرنس

في البرنس من كتابة وإخراج محمد سامي، تلقى عدة دلائل للتلميح أن العمل إعادة حكي لقصة سيدنا يوسف القرآنية، على الرغم من أن التيمة أوسع من ربطها بقصة تراثية أو دينية فإن ذلك الربط أثار بعض الجدل وربما أضفى أهمية شبه وهمية على عمل لم يتوقع له الكثيرون النجاح، تدور القصة حول أب متعدد الزيجات يفضل أحد أبنائه وهو رضوان القائم بدوره محمد رمضان بطل العمل بالطبع على بقية الإخوة، رضوان طيب ملائكي، شهم ومناصر للحق، ويبدو إخوانه كأنهم من تربية رجل آخر، يملؤهم الحقد والشر تجاه أخيهم المدلل من أبيهم، يشدد الأب على حبه لرضوان أكثر من إخوته بل ومن والديه هو شخصياً.

في البرنس يتمثل الشر في مجموعة متجانسة يترأسها فتحي (أحمد زاهر) أقلهم عاطفة وأكثرهم قدرة على نبذ أي مشاعر أو معوقات في الطريق لتحقيق هدفه، يبدو الشر هنا أسطورياً، سببه الرئيسي انعدام العدل، تبدأ الخطة الشيطانية عندما يتوفى الوالد تاركاً ثروته لابنه المقرب سالباً حق بقية أولاده، يملك الأشرار مبررات وحكايات خلفية لكن لا يمكن التعاطف أو الاتحاد معهم بأي شكل، يمكن اعتبار فتحي  مظلوماً لكن الظلم الناتج منه أكبر أضعاف من الواقع عليه، وهو في صراع مع  نموذج ملائكي، خطاء لكن تفرض له الكتابة مبررات لكل شيء، تعمل الظروف وتلتوي لكي لا ترى تصرفاته أياً كانت باعتبارها أخطاء، تموت زوجته بفعل إخوته الحاقدين فتخلق أمامه فسحة وللمتلقي في تقبل عودته في نقطة ما من الأحداث لحبه الأول، نعلم نيته في إصلاح ما أفسده أباه لحظات قبل وقوع الفاجعة الكبرى التي خطط لها إخوته.

بجانب عصبة الإخوة توجد العقل المدبر فدوى (روجينا) وهي مثال للمرأة الشريرة المغوية التي تعج بها القصص الميلودرامية، وهي مثلهم تملك قصة خلفية لا تترك فرصة إلا وحكت شذرات منها لفتحي لكن بشكل أساسي على المشاهدين في مونولجات طويلة تصاحبها موسيقى حزينة مبتزة للمشاعر، أنه العنف الأسري دائماً الذي يمثل دائرة يصعب كسرها،  شخصية فدوى المعلمة تاجرة المخدرات شديدة الدهاء بالإضافة للجمال الذي تغوي به الرجال فيلتفوا حولها ويطيعون أوامرها.

تؤدي روجينا الشخصية بشكل جذاب فعلاً، يصعب معه كرهها فهي بشكل ما مع كل شرها ومكرها خفيفة الظل لا تأخذ الحياة بجدية وتبحث فقط عن ملذاتها مهما كلفها الأمر فحولها من يحميها ويقوم بالأعمال القذرة بدلاً منها، لكنها لم تخلق ساحرة شريرة بل أسهم في ذلك ماضي من العنف الأسري الشديد الذي لم تستسلم له هي الأخرى بل ردت بأعنف منه، تظهر حكايات فدوى عن أبيها الذي تسبه بألفاظ مثل (الرخيص) وزوجته القاسية في سياقات عشوائية للتخفيف عن فتحي مثلاً حكايات ظلم أهله، تحكي حكايات يملأها العنف الجسدي الحادث من زوجة الأب  لكن الأب المهمل لا يفعل شيئاً تجاهها فتضطر هي لأخذ حقها بعنف مقابل وهو ما جعلها تكبر لتصبح امرأة مستقلة بذاتها لا تعتمد على الرجال بل تتلاعب بهم.

في شخصية فتحي تتنحى فكرة صنع شرير جذاب لصالح شرير أكثر كلاسيكية، يملك أسباباً لشره لكنه غير مثير للتعاطف أو حتى لإثارة أسئلة عن طبيعة منظومته الأخلاقية، الخير والشر واضحان وتمثيلاتهما واضحة، يلعب أحمد زاهر الشخصية باعتبارها شريراً شيطانياً فعلاً، لا يملك جوانب أخرى، ذا صوت عال ووجه متجهم، تتغير ملامحه فقط عندما يمكر أو يخادع، وتصفه الشخصيات بالشيطان بشكل مباشر.

فرصة ثانية والحلقة المفرغة للعنف

من مسلسل فرصة تانية
من مسلسل فرصة تانية

يقدم  مسلسل فرصة ثانية من إخراج مرقس عادل وتأليف مصطفى جمال هاشم مجموعة من الآباء الكارتونيين مسطحي الكتابة والأوجه، وجودهم مجرد مكملات درامية لضرورة سير الأحداث، نرى أحد الآباء في مشهد واحد عاجزاً في دار مسنين وهو والد شخصية مدحت (دياب) الزوج العنيف المؤذي غير المسئول، وظيفة ظهور الأب الوحيدة في الحكاية هو تبرير العنف الدموي والصفات الشريرة الغير أخلاقية الكامنة فيه ولا يستطيع تغييرها فهو يتلذذ بإيذاء الغير وحسب كلامه فوالده هو السبب الرئيسي بسبب استمتاعه هو الآخر بإيذاء صغيره وحبسه في الخزانات، كونه زير نساء لا يخلو بيته منهن، وهو ما كبر مدحت ليكونه هو الآخر.

يؤذي مدحت زوجته جسدياً ومعنوياً ويرى لنفسه سلطة كاملة عليها في حالة كلاسيكية  من العنف الأسري، مرة أخرى تصعد تيمة الحلقة المفرغة للعنف الأسري، في إطار ساذج غير مدروس، يضع المسلسل شريراً آخر متمثلاً في فتاة مدللة جميلة، ريهام (أيتن عامر) وهي شخصية سيكوباتية مكتوبة دون أي قصة خلفية مقنعة، تصرفاتها مؤذية لذاتها ولغيرها وتبدو ممسوسة بحب زياد (أحمد مجدي)، في حالة ريهام  لا وجود للعنف أو الإهمال الأسري، هي تسكن بيتاً فارهاً مع أبيها (أشرف زكي) وهو شخصية كاريكاترية لأب مرتبك لا يملك أي فكرة عن كيفية التعامل مع ابنته ولا يملك حياه خارجها، ربما تكون مشكلاتها نتيجة غياب الأم، لكن الإمعان في تحليل ذلك سيكون تجني على كتابة لم يبذل فيها مجهود من الأساس، يقع فرصة ثانية بأشراره وأبطاله تحت إطار الافراط الميلودرامي مثل البرنس، لكنها ميلودراما أقرب للمسلسلات الهندية أو المكسيكية المبتذلة.

خيانة عهد: الشر الأسري

مسلسل خيانة عهد
مسلسل خيانة عهد

مثال آخر على الشر النابع من غياب العدالة الأسرية هو مسلسل خيانة عهد إخراج سامح عبدالعزيز وتأليف أحمد عادل سلطان، تسعى فرح (حلا شيحا) لإيذاء أختها غير الشقيقة عهد (يسرا)، والأخيرة هي الأغنى والأرفع مكانة لكنها تبدو كشخصية ذات دوافع إيجابية ونوايا طيبة تجاه إخوانها وأخواتها ومن حولها وحتى تجاه المجتمع، يظهر الشر العائلي هنا في صورة نساء متحجرات القلب وفاتنات، تستخدم فرح شيرين (جومانا مراد) في دور المغوية الميلودرامي النمطي لإغواء هشام ابن عهد وإيقاعه في عدد من الرذائل التي من الممكن أن تودي بحياته منها الإدمان، لكنها تريد بشكل أساسي أن تؤذي عهد في ابنها فيحدث ذلك بشكل مخطط بدقة وبطء.

شر خبيث ومستتر عكس شر فتحي في البرنس الذي يكاد يقفز من كل كلمة ونظرة منه لكنه أكثر مباشرة وذو أهداف أوضح، ينطلق الانتقام من لأسباب مشابهة للبرنس، ظلم أسري وعنف طفولي سواء كان جسدياً أو رمزياً، تفرقة في المعاملة واحتفاظ بالحقد والكراهية لسنوات وسنوات، القصتان متشابهتان بشكل كبير، ربما يكمن الفرق في طبيعة الطبقة التي يتم تناول خلافاتها بالإضافة إلى النوع التي تأخذ القصة مكانها داخله، فالبرنس يميل إلى الميلودراما العائلية  المباشرة، نعلم دوافع وأهداف كل شخص منذ اللحظة الأولى، أما خيانة عهد فعلى الرغم من نزوعه أيضاً إلى الميلودراما خاصة مع تصاعد التصرفات العنيفة التي تؤدي إلى نتائج تراجيدية إلى أنه يؤجل كشف معلوماته عن دوافع الكل، نعلم فقط أنهم مجموعة من الإخوة غير الأشقاء ربتهم والدة عهد بعد وفاة والدتهم بتفرقة واضحة مما ترك في نفوسهم ترسبات يصعب محوها.

الخير والشر هنا يمكن أن ينقلب في أي لحظة عن طريق التواء حبكة مفاجئ، من الممكن أن تظهر شخصية عهد كشرير مستتر في هيئة بطل، لكن نظراً لوقوع المسلسل في حالة من الإفراط في الشر والمشاعر فإنه من الصعب تقبل دوافع إيذاء منذ ذلك النوع من شخصيات من المفترض أنها سوية بشكل أو بآخر، لكن المشاعر البدائية مثل فقدان الأم لابنها تجذب قطاع كبير من المشاهدين، وتفرض تعاطف آلي بعيد عن أي منطق أو تفكير عقلاني.

تصنع الصراعات الحادة ما بين الخير والشر في الإطار الأسري من الحياة العادية مادة للدراما وخلق الأحداث المثيرة وعلى الرغم من سذاجة الطرح أو غياب الدوافع المقنعة فإن ذلك النوع من الأعمال لطالما وجد جمهوراً واسعاً ومن الواضح أنه لا يزال كذلك رغم تطور أساليب الحكي في أعمال أخرى وتخطيها للميلودراما المباشرة.