صارت لدى الجمهور عادة في انتظار الأعمال الدرامية الجديدة فور حلول الشهر الكريم. الأمر الذي تطوَّر قليلًا منذ بضع سنوات، حيث فطن المعلنون والشركات لأهمية عرض إعلاناتهم بحلول الموسم بالنظر بالطبع لارتفاع نسب المشاهدة والمتابعة. الموسم الرمضاني لا يقارن، حتى مع المنافسة التي فرضها مؤخرًا ظهور منصات المشاهدة، وإنتاج المسلسلات بتكلفة إنتاجية واهتمام كان حكرًا فيما مضى على الأعمال الرمضانية وحدها . صارت المنصات وشركات الإنتاج تتبنى ظهور أعمال درامية طول السنة، لا تقل جودة، بل نراها تزيد عما يعرض في رمضان.

على الرغم من ذلك ما يزال الموسم يحتفظ بأهميته في نسب المشاهدة، لطقوسه المعروفة من التجمعات العائلية والرغبة في السهر تعويضًا للنهار الشاق، والأهمية العاطفية لتلك الطقوس، والتي صارت الأعمال الدرامية أهمها، ومؤخرًا جدًّا … الإعلانات.

إذا تدخلت العادة فسد الفن

تجاهلًا لأصل أن الواجب والضرورة يفسد الفن، صار على الجميع أن يقدِّم شيئًا، «يتفنن» كل ذي صلة في جعل الفكرة أكثر ابتكارًا، فأكثر إبهارًا، فألوان ومناظر تخطف العيون، أو تزيغها، ونجوم «التريند» بالطبع حاضرون.

أما عن النتيجة، فصارت باهتة، افتقدت الساحة وعيها في العمل بالقاعدة البديهية، «البساطة وصدق المحتوى»، تأسَّدت الكلاشيهات، حتى إن أحدًا فيهم لم يفطن للجملة التي تكررت بحذافيرها لثلاث سنوات متتالية، «رمضان السنة دي غير أي رمضان»، إصرارًا على أن الشهر مختلف هذه السنة، بلا أي محتوى مقنع لتلك الفكرة، نجوم ترقص، وألوان مبهرة، غناء وسعادة، لا شيء يربط المشاهد بما يراه، أناس سعداء قرروا السفر فجأة، أو الغناء في وسط الشارع، أو ترك مكاتبهم بحرية تامَّة، والسبب؟ «عشان رمضان السنة دي غير كل سنة»!

النوستالجيا: التكرار وغير الشطَّار

في سنوات ماضية تفوقت إعلانات الموسم حين قررت ببساطة أن الواقع مُزعج، فماذا يحدث إن أعدنا المشاهد وهو ما اتفق على تسميته «زمن الفن الجميل»، تحركت مشاعر الجميع وأعادتهم الصورة وذكرى نجوم الفترة لسنوات طفولتهم وشبابهم. وهكذا بدأت متاهة النوستالجيا، والتكرار واستهلاك الفكرة وحلبها تمامًا حتى صارت بلا معنى.

ضم إعلان إحدى شركات الاتصالات جمعًا من نجمات، ومجاميع سعيدة، وتنفيذًا لأمر النوستالجيا، لعبت التيمة على أفلام «سعاد حسني»، لكن الاهتمام بالفكرة لا التنفيذ، جعل الإعلان في نظر المشاهدين بلا روح، كلمات تعارض الأغاني الأصلية، ورموز تتشابه والنجمة الراحلة المحبوبة «التيمة»، وكأنها قائمة يتأكدون من تحقيق كل شرط فيها، عملية حسابية أو عقلية، وصفة لا يفترض أن تخيب إن أوجدت المكونات وتتبعت الخطوات. لنحمِّل المشهد نجومًا من أعوام مرَّت، وستأتي القلوب راكعة وكله في مصلحة المنتَج الذي لا يتذكَّره أحد في الحقيقة. من الملاحظ مؤخرًا أن يهتم صانع الإعلان بالرسالة ناسيًا في لحظة تقمُّص أن يربط منتجه بمحتوى الإعلان.

الهوَّة الفاصلة اجتماعيًّا

اتَّسعت مؤخرًا الفجوة بين فئات الجمهور المستهدف، فصارت فئتان واضحتان على طرفي نقيض. الطرف الأول هي الطبقة الاجتماعية الأعلى التي يمكنها أن تتحمَّل الثمن الباهظ للوحدات العقارية والمجتمعات العمرانية التي لا تتوانى عن التزايد فصرنا لا نميِّز أيًّا فيها، بذخ في المشاهد المتخيَّلة لواقع الحياة في تلك المدن، بذخ يظهر بوضوح في المشاهد وفي اختيار نجوم إعلاناتها.

بينما تأتي الإعلانات في الطرف الآخر مستكينة ومسكينة، تشكو الفقر وقلة الموارد أو انعدامها وتطلب إلى المشاهد أن يتبرَّع بثمن وجبة أو جرعة دواء لمريض، وكأننا لم نرَ تلك الموارد منذ ثوانٍ متوفِّرة بمزيد في الإعلان السابق، لا منطق هنا، «البيزنس» يتحدَّث، وفكرة أن تمتنع شركة ما عن إنتاج إعلانات للسنة فتصب الميزانية لأجل الآخرين ذوي الحاجة، فكرة مثالية للغاية، حتى وإن جلبت تعاطفًا، حتى وإن حققت أحد أغراض الإعلان نفسه من خصم ضرائبها مثلًا أو تخفيضها. لا أحد يهتم «للمحتاج مشاهد يحميه».

أما عن المفاجأة التي ظنها الجميع مزحة حتى أكدتها عيونهم في آخر لحظات الإعلان، فكان ذلك الإعلان الفاخر الذي أنتجته شركة تعتني بالفرد ورفاهية مكانه أيضًا، ولكن «بعد عمر طويل»!

اختارت الشركة المذكورة اسم «سكنة»، وأعلنت عن توفر مقابر مريحة وفاخرة وفي مناطق هادئة، وعددت في وصف ومديح خدماتها. يصر الوعي الجمعي الإعلاني فيما يبدو على تجاهل غير القادرين، أحياءً وأمواتًا.

الإعلانات المسيئة: ظاهرة سنوية

بعد معارضة وامتعاض صاحب أحد إعلانات شركات إنتاج الملابس، قررت الرقابة وقف الإعلان لما حوى من تصرُّف مسيء وسخرية نالت الأفراد في العموم والأطباء بوجه خاص. تكررت تلك الظاهرة بالذات مع ذات الشركة في أحد المواسم الماضية، وبنفس التفاصيل. الأمر الذي يجعلك تتساءل كم من عين واعية أو عقل رشيد قد مر عليه الإعلان دون أن يتبين أحد الإساءة أو أن تعترض عليه ذات الرقابة وتوقفه قبل إذاعته أصلًا، لماذا علينا كل سنة أن نسير لموضع الجرح أو للخدش في اللوحة حتى يراه الفنان الذي هو بالافتراض أشدنا بصرًا وبصيرة.

الأمر ببساطة يعود إلى محاولة حشر النكتة والسخرية أو المبالغة فيها، فصاحب الإعلان هنا يتعامل مع شعب «ابن نكتة»، لا يتوانى مؤخرًا عن السخرية من أي شيء وكل شيء، حتى من نفسه وأوضاعه الاجتماعية والمادية … إلخ، راقصًا بين كيانه الضاحك في الأساس، وعجزه عن تغيير واقعه فيواجهه بالسخرية. يبالغ المعلن في السخرية و«التعلية» على النكتة، وتلك تحديدًا أقصر الطرق لتتحول المزحة إلى إساءة واضحة.

التأويل والموعظة حاضرين، فتغيب المتعة

نقدِّر هنا الإعلان باعتباره عملًا فنيًّا يمكننا تحليله، يبدأ من فكرة ومطوِّر لها، ومنتج وصنَّاع ومتلقٍ … غالبية الشروط تتوافر هنا. يملك صانع الإعلان كل أدواته، صورة وصوتًا، يسهب فيها، يتلوَّن، تتابع المشاهد، والمتلقي يجلس مستمتعًا أو ممتعضًا أو حتى بلا شعور محدد، لكن كيف تفرِّق الصانع الجيِّد عن غيره، نظنه ذلك الذي يمكنه استخدام أدواته المذكورة في أن تصل لي رسالة الإعلان، الهدف منه، أهمية المنتج وخلافه دون أن يضطر ذلك الصوت الرخيم في نهايته ليعلن ذلك صراحة، تأويلًا أو تأكيدًا أو مانحًا عظة ما. في دنيا الإعلانات قد يختلف الأمر قليلًا عن الأعمال الفنية الدرامية مثلًا، وذلك لأن الشعار الأخير في نهاية الإعلان مهم بالفعل، وعليه أن يكون ذا قيمة ومسجوعًا ليلتصق بالأذهان، لكن المهارة الحقيقة هي أن يصل لي مضمون الشعار من الإعلان نفسه قبل أن تمنحني إياه الموعظة النهائية، «أهلك هم كل حبايبك»، «البيت هو أهم مكان في الدنيا»، «متبطلش تحلم»، وهكذا.

ارتباط الإعلان بالمضمون واختيار النجم

يمكن للمشاهد كل عام أن يتوقَّع نجوم العام، نجوم «التريند» الذين ظلَّت أخبارهم لسبب أو لآخر حديث صفحات الفن أو السوشيال ميديا. قرر البريد المصري هذا العام اختيار «عمرو دياب» قصة النجاح الأشهر والأوضح والأقدم، محاولًا أن يقتبس بعضًا من نوره، فأظهره شابًّا فتيًّا يقطع أميالًا دون تعب، وهكذا البريد الذي يحاول أن يجدد شبابه وخدماته ويعلن عن نفسه بعد تقاعس طويل، بلا حلول واضحة في الحقيقة للروتين القديم الذي اعتاد ممارسته على المنتفعين، قوم إعلانات لا أفعال. 

وهنا يظهر السؤال الذي تفترضه الإعلانات الخالية من أي مضمون يخص ما يعد به المنتج، إلا من صورة النجوم وغنائهم وابتساماتهم التي تملأ الكادر، «هل ستقرر عزيزي المشاهد أن تختار خدمات البريد المصري من أجل عيون «دياب»؟ أو أن تختار المؤسسة الذي تغنِّي لها «شيرين» دون باقي المؤسسات المتشابهة، بواقع «مطربتي المفضلة تغني لها لا يمكن أن تكون مؤسسة سيئة؟» أو أن تختار شركة الاتصالات التي اختارت نجمًا وسيمًا، فالواجهة مهمة لا محالة؟

وفي النهاية نطرح آخر سؤال، لمن يعلن المستفيد، إن كان الجمهور صار يتوخى الإفلات من الإعلانات، إما بقلب القناة متابعًا عملًا آخر حتى انتهاء الفقرة، أو مضحيًّا باشتراك في منصات ذات فترات إعلانية أقصر، أو منتظرًا نزول الحلقات مسرَّبة بلا فواصل، فيخسر الجميع ويربح هو وقته دافعًا الملل، والوعظ، والنصائح المتجددة بأن «ابتسم، تفاءل، عافر، ارمي الهموم، فجّر الأحزان، افرح ارقص غنّي قد ما تقدر عيش»!