الميلاد في ليْلة أسطوريَّة

في ليلةٍ موغِلة فى عمق التاريخ، كاحِلة، ذاتَ نسائم صيفية قاهريَّة خرج قائد الجيوش «جوهر الصِّقلي» والحاشية الفاطميَّة، وورائهم عدد من مناصريهم من الشعب رجالاً و نساءً، حاملين قناديل نُحاسية توقدها مئات الشموع، تُبدد ظلمات الليلة السابعة من رمضان فى العام الهجرى 362.فمازال القمر طفلاً لا يقوى ضوئه على تبديد ظلمات الليل وحده، ويحتاج لأضواء القناديل لتنير الحدث الكبير، فلا يوجد ما هو أهم من استقبال الخليفة الفاطمي «المعز لدين الله» على حدود القاهرة الغربيَّة، فهو حدث ولا شك عظيم فقد جاء الخليفة المنتسب لفاطمة الزَّهراء بنت النَّبي محمَّد «عليه الصَّلاة والسَّلام» مزودًا بألفٍ وخمسمائة جمل محمل بالذهب، مصطحبًا معه رفات أجداده ليدفنها بجوار محل إقامته ومقر دولته الجديدة بأرض مصر، فى هذه الليلة الأسطورية وبين أيدي الحاشية والأتباع السَّعيدة، وُلد «فانوس رمضان».


فاطميَّة فانوس رمضان

أجمعت الشواهد على فاطميَّة فانوس رمضان فبالإضافة لقصَّة الميلاد السَّابق ذكرها، فقد تناثرت عبر التَّاريخ، حكايات الخلفاء الفاطميين مع القَنْديل ذو الشَّمعة الذى أسْماه المصريين فانوس رمضان. أولى هذه الحكايات تقول أن الخليفة الفاطمى كان يخرج إلى شوارع القاهرة ومعه المشايخ احتفالاً باستطلاع رؤية هلال رمضان، وكان الأطفال يخرجون بفوانيسهم ليضيئوا له الطريق وهم يغنون أغانى مبهجة لاستقبال الشهر الفضيل. أما الحكاية الثانية فتخبرنا عن أحد الخلفاء الفاطميين الذى أراد أن يضيء شوارع القاهرة فى رمضان فأمر جميع التُّجار وملَّاك العقارات وشيوخ المساجد بتعليق قنديل مضيء فوق أبواب منشآتهم طوال أيَّام شهر رمضان احتفالاً بالشَّهر الكريم. لكن تظل حكاية «الحاكم بأمر الله» مع فانوس رمضان ونساء مصر هى الأغرب، فيحكى أنَّ الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أمر بعدم خروج نساء القاهرة ليلاً، إلا فى شهر رمضان، فقد سُمح لهن بالخروج لأداء صلاة التَّراويح شرط أن يتقدم السَّيدة منهن صبيًا يحمل قنديلاً مضاءً ينبئ المارة بأن هناك سيِّدة تمر فيُخلون لها الطريق، ومرَّت الأيَّام وذهب الحاكم بأمر الله إلى صفحات التاريخ وبقى فانوس رمضان فى أيدي الصِّبية على أرض مصر، يحملونه طوال ليالي الشهر الفضيل جيلاً بعد جيل.


مصريَّة صناعة فانوس رمضان

كانت وظيفة الفانوس الأصلية هى إضاءة الشَّوارع ليلًا،ثم بدأت صناعة الفوانيس تأخذ مسارًا إبداعيًا أكثر دقة وأجمل صنعة فى العهد الفاطمي، وتبلور شكل الفانوس عبر العصور حتى اتخذ شكله الحالي في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، وأصبحت مصر أهم بلد تصنع الفوانيس التى توقَد بالشموع أو الزّيت، وازدهرت هذه الصنعة فى مناطق القاهرة الفاطمية، ومنطقة «تحت الرَّبْع»، ومنطقة «القلعة»، وشارع «السَّد البرَّانى»، ومنطقة «بركة الفيل» بالسَّيدة زينب، حيث اشتهرت هذه المناطق بورش صناعة الفوانيس وشوادر بيعها الضخمة، و يسمى حرفيِّ صناعة الفوانيس «السَّمكرى البلدى»، و استخدم فى صناعة الفوانيس: النَِّحاس، والقصدير، والصفيح، كما استُخدم فى تزينيها وتقفيلها الزُّجاج الملوَّن والزُّجاج المبلور، بينما ظهرت حاليًا بجوار ما سبق ذكره، الفوانيس المصنوعة من الحديد المطروق المطلي «الفِيرفورجِيه»، والخشب المفرَّغ «الأركِيت»، والخشب المعشَّق «الأرابيسك»، والفانوس المصنوع من قماش الخيَّامية المطبوع. تبدأ صناعة الفوانيس فى الورش المصرية بعد انتهاء عيد الفطر مباشرة وتستمر طوال العام، استعداداً لوقت الذّروة قُبَيْل شهر رمضان.


مراحل صناعة فانوس رمضان

يمرُّ الفانوس بثلاث مراحل أساسيَّة عند صناعته:المرحلة الأولي هي مرحلة (القصْ) أو قص هيكل الفانوس على النموذج المعَد سلفًا للتنفيذ وتسمى مرحلة (تفصيل العفشة)، حيث يُقَص المعدن وفقًا لشكل قطع أجزاء الفانوس المختلفة بطريقة منظمة ومرتبة،بحيث يكون الناتج كله نفس الشكل والقياس. أما أجزاء الفانوس فهى من أسفل لأعلى: كعب الفانوس، القبّة، الشُرْفة، الدّلاية، البُلبُلة، والجوانب تسمى الجِدار. ثم تدخل أجزاء الفانوس إلى (المَكبس) لتشكيل وتخريم قطع المعدن المقصوص، ثم تحدد قطع المعدن فيما يسمى عملية الكُردون، و هى عملية ضروريةلتسهيل عملية اللِّحام فيما بعد.والمرحلة الثانية (السَّندقة) وهى عملية ثني الحواف المدببة لقطع المعدن، ثم يقوم الحرفي بضبط حواف الزجاج. أما المرحلة الأخيرة وهى مرحلة تحتاج لحرفي ماهر، وهى عملية تحديد فتحات الفانوس وعمل المفصَّلات المطلوبة فيه ويستخدم فيها الحرفي أدوات المطرقة، والسنبك، والمطرقة، والدقماق، وكلها أدوات للطرق، يتبع ذلك ثني المعدن بواسطة ماكينة تسمى «ثنَّاية» تقوم بعمل برواز للمعدن ذو مجرى يدخل قطع زجاج الفانوس بداخلها.


رسم وتجهيز زجاج الفانوس

فى الماضى كان يستخدم فى رسم وتلوين الزجاج الرَّسم اليدوي والألوان كانت من البُويَة البلدي المصنوعة من السِّبرتو والألوان، أما الأن فأصبح يستخدم تقنية فصل الألوان بـ«الشبلونة»، وهى عبارة عن قماش من الحرير يُشَد على إطار خشبي ويحاط بها إطار خشبى أخر، ويُرسم عليها التَّصميم المطلوب، و تُحدد عدد الشبلونات لتلوين الفانوس طبْقًا لعدد الألوان فى التصميم الواحد، فيخصص لكل لون شبلونة مستقلة يُصَب فيها اللُّون المطلوب، أما الألوان فتُشتَرى من محلات البُوية والدِّهانات وتُخَفَّف بالتِنر، والتصميمات عادةً ما تكون أغلبها تحتوى على لفْظ الجلالة وعبارات الحمْد والتَّوحيد والزخارِف ذات الموتيفات الشَّرقية، وقد غلب على زخارف فوانيس هذا العام استخدام الألوان البراقة مثل الذَّهبي والفضِّي و إضافتها للألوان المعْتادة مثل الأحْمر والأزْرق فتُصبح ذات بريقٍ خاص.


أشكال فانوس رمضان

قدَّمت مصر عبر العصور أشكالًا لا نهائية من تصميمات فانوس رمضان أشهرها على الإطلاق «الفانوس الملكي» أو «تاج الملك» وهو فانوس يتميز بالضَّخامة والاستدارة وتعدُّد الأوجه ذات الأضلاع الخماسية. وهناك فانوس البرج والذى تتعدد أشكاله ومسمياته وفقا لحجمه، فالصغير منه يسمى «البرج الأربعيني»، أما الكبير جدًا فيسمى «البرج السبعيني» وقد اكتسب اسمه من شكل قبته المتدرجة على شكل برج أو هرم مدرج. أما الفانوس المسمى «أبو ولاد» فهو فانوس غاية فى جمال الصنعة والتصميم، فهو رباعي الشكل ملحق كل ركن من أركانه الأربعة فانوس أصغر حجمًا ملتصق به ومن هنا اكتسب اسمه الطريف. بينما الفانوس النَّجمي يعتبر امتدادًا لأجيال الفوانيس الفاطمية ذات الزخرفة والتكوين التشكيلي الهندسي المشهور فى الفن الفاطمي. ويعتبر الفانوس المثلث، و«الفانوس المقرنص»، و«الفانوس البطيخة» المدور والمربع من أشهر أشكال الفوانيس سواءً زجاجه مرسوم ومزخرف أو من الزجاج الملون فقط، وينتشر بالأسواق أيضا الفوانيس المتناهية الصغر وتسمى «فوانيس سهاري».وجدير بالذكر أن أغلب الفوانيس التراثية المتوفرة بالأسواق حاليًا مصنَّعة من الصَّفيح المطلي والزُّجاج متعدِّد الألوان، أو الحديد المطروق المطلي المحلِّى بالزجاج ذو اللُّون الواحد، وجودة الفانوس تحدد سعره فالفانوس المُتقْن ذو الحواف الناعمة المصقولة أغلى ثمنًا من ذلك الشَّعبى الصَّنعة والذى تكون حوافه حادة أحيانًا أو قطعه غير محكمة اللِّحام والتركيب.


تراجع ثم عودة

تراجع الفانوس التُّراثي ذو الشَّمعة فى سبعينيات القرن الماضي ليُفسح المجال لزائرٍ جديد وهو الفانوس البلاستيك المضاء بالبطَّاريات الجافة، و سرعان ما حاز على إعجاب الأطفال لألوانه الجذابة و لخفة وزنه و سهولة إضاءته، و تراجعت سطْوة ومكانة الفانوس التقليدي ولكنعلى الرغم من كل هذه المميزات السابقة إلاَّ أنَّ هذا الفانوس البلاستيك الَّذى صُنع في مصر وبعض دول شرق آسيا، لم يصْمد طويلا أمام تاريخ، وفن، و جمال صنعة الفانوس التقليدى المُضاء بالشُّموع فعاد مرةً أخرى لأيدي الأطفال واستطاع استعادة مكانته، و بقوة عند مطلع الألفية الجديدة وأصبح يُصنع منه أنواعًا جديدة فى عِدَّة بلاد أخرى غير مصر. ونافست الفوانيس القادمة من الصين الفانوس المصري على أرضه، منافسة ضارية، فقدمت الفانوس الخفيف على شكل ألعاب محببة للأطفال ومصنوعة من البلاستك الملون الجذاب وتضاء بالبطاريات الجافة، أو الفانوس التراثي الثقيل ذو الزخارف من المعدن المطروق المحلَّى بالأحجار الصناعية الملونة، أو المصنوعة من المعدن المشكَّل بزخارف مفرَّغة ذات الزُّجاج المرسوم برسوم الزُّهور وغيرها من الزخارف، هذا غير الأنواع المتناهية الصغر التى تَصلُح كميدالية للجيب وكلها تعمل بالبطاريات الكهربية الجافة. وعلى الرغم من هذه المنافسة الخارجية الكبيرة إلاَّ أنَّ الفانوس التقليدي المصري يبقى هو المفضَّل في الصَّنعة والفنِّ بين أيدى المتداولين، والأول فى ذكريات وقلوب المصريين و شعوب المسلمين.


جميع الصور من تصوير رحاب البارودي باستثناء صور مراحل الصناعة وصورة المقال الرئيسية