جاء حديث إبراهيم منير القيادي الإخواني والموصوف بـ «نائب مرشد الجماعة» عن المصالحة السياسية بين النظام في مصر وبين الجماعة، في حواره الصحفي المنشور صباح أمس، ليثير لغطًا وتكهنات كثيرة عن موقف الجماعة، وما ستؤول إليه الأوضاع بينها وبين النظام في المواجهة الممتدة منذ يوليو/تموز 2013، لتدفع الكثيرين للجزم بأن حديث الرجل لا يعني سوى أن شيئًا جديًا يحدث على الأرض.

لكن لم تمضِ ساعات من إلقاء الرجل لحجارته في مياه السياسة والجماعة الراكدة، حتى خرج الرجل مرة أخرى ليعيد تأويل حديثه الذي لم ينفِ دقة ما ورد فيه، مقدمًا جملة من التفسيرات والتوضيحات في أكثر من مداخلة تلفزيونية حاول من خلالها نفي المعنى الذي أراده من كلماته وجمله التي تعلقت بشق «المصالحة».

لكن رغم هذه الردود والتعقيبات التي اعتبرها القريبون من منير كافية لكف الحديث عن الأمر، وفقًا لتأكيده أن «الجماعة لم ولن تطلب المصالحة من النظام»، فإن ما قاله منير يستحق الانتباه والتوقف ومحاولة قراءته وقراءة الصورة الأوسع عن توقيت الحوار وما أراده إبراهيم منه، لاسيما إذا عُرِف أن إجابات الرجل كانت مكتوبة ومراجعة منه، أي أنه أراد فعلا قول ما كتب وفي هذا التوقيت، ومن ثم تعد كل تأويلاته هي هامش على متن ومضمون دقيق في التوقيت والتعبير.


سياق الحوار والتصريحات

جاءت تصريحات منير في سياق دولي وإقليمي متغير لا تعد جماعة الإخوان بعيدة عنه، أوله حالة عدم الاستقرار وعدم الوفاق التي يعيشها النظام مع أهم حلفائه، وهو السعودية، وظهور تحولات عميقة في تحالفات أو انحيازات النظام السياسية والاقتصادية، جعلته يجهر بما كان يخبئه في قلبه من رغبته في مقاربات للقضايا الإقليمية والدولية تقترب من إيران وحلفائها ولا تتماهى مع الموقف الخليجي حتى لو اقتربت من بعض الأطراف فيه كالإمارات التي باتت هي أيضا في حالة عدم وفاق «اقتصادي» مع مصر.

وثانيًا، خروج البرادعي عن صمته، وبروزه المتكرر للإدلاء بشهادته عن فترة ما بين الإطاحة بمرسي واستقالته من منصب نائب الرئيس، وهي التي بغض النظر عن مغزاها، تدين النظام بشكل واضح، لاسيما ما جرى في فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.

ثالثًا، انتهاء الانتخابات الأمريكية وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية وسيطرة الحزب الجمهوري على الكونجرس الأمريكي بغرفتيه، وظهور ترشيحات الفريق الرئاسي لترامب للعلن، وهي التي اشتملت على مستشارين وسياسيين يكنُّون العداء للإسلاميين بما يعني أن المتغيرات التي ستطرأ على السياسية الأمريكية في الداخل والخارج لن تكون بالهينة، وهو ما سيتطلب جهدًا حقيقيًا لتلافي هذه الآثار الناجمة عن هذا الصعود اليميني.

ما قصده منير في رسائله على المستوى الخارجي هو أنه على أي طرف فاعل أن يخاطبه هو ورفاقه في حال أراد أي من الأطراف أن يفتح ملف المصالحة في مصر.

لا يمكن فصل قبول منير بنشر حوار بهذا المضمون عن هذه المتغيرات الثلاثة التي ترتبط تصريحات منير بكل منها في شق حواره الذي بطبيعة الحال يعلم أن الكل سيطلع عليه وسيتداوله بحكم موقعه وتاريخه واتصالاته، ومن ثم فحديث منير يمكن قراءته على جملة من المستويات تتضمن بعض الرسائل تبعًا لما يراه تأثيرًا محتملًا نتيجة المتغيرات السابقة.

يأتي المستوى الأول في إطار القضية الأهم والأبرز بين تيار القدامى من القيادات التاريخية، وهي مسألة «ترسيخ الشرعية» لهذا الفريق. وبالرغم من أن هذا الأمر حدث داخليًا على مستوى الجماعة بعد أن فرض هذا الجانب رؤيته، سواء بسيف المعز أو بذهبه، واستعاد السيطرة على المنابر الإعلامية، وأكمل سريعًا عملية «استكمال الهياكل» الخاصة به، وبالفعل أصبح مسيطرًا فعليًا على «هياكل الجماعة»؛ إلا أنه ما زال يشبه النظام المصري على مستوى عدم القدرة في بناء إجماع داخلي وخارجي على كونه مُعبِّرًا «وحيدًا» عن الجماعة، وبات الأمر «فرضًا» أكثر منه «طوعًا».

لذا فإن من بين ما قصده منير في رسائله على المستوى الخارجي هو أنه على أي طرف فاعل يظهر أو يقوى على سطح المتغيرات الكثيرة الحادثة، أن يخاطبه هو ورفاقه باعتبارهم العناوين التي يجب أن تُخاطب حال أراد أي من الأطراف أن يفتح ملف المصالحة في مصر، ولاسيما مع الإخوان.

أما المستوى الثاني فمتصل بسابقه. فالبيانات المرحبة بأحاديث وشهادات البرادعي الفترة الماضية، وحديث منير عن عدم تخوين الجماعة لأحد، وإشارته إلى أن من قاموا بـ «تمويل الإنقلاب» هم من بيدهم أمره، إضافة إلى حتمية وجود «شرفاء داخل الجيش»، كلها أمور تشير بأن منير ومجموعته ربما ترى أن العد التنازلي لوجود السيسي على رأس النظام قد بدأ، وسينتهي سواء قبل انتهاء مدته الأولى أو في عام 2018 مع انتهاء المدة، وهي فترة ليست بالطويلة في مسألة تحضيرات وترتيبات انتقال السلطة في بلد بحجم مصر.

فالطريقة التي ينظر بها الإخوان للبرادعي هي أن تحركه دائمًا ليس محض صدفة أو قرار شخصي فقط، بقدر ما هو دليل على أن ثمة قوى دولية أو طرفًا دوليًا، لديهم تحرك ما، أو مقدمة على تفاوض ما مع مصر، والبرداعي يمثل واجهتهم.

وسواء صحت هذه النظرة أم لا، أو كانت تعكس نظرة الإخوان بشكل جزئي أو كلي لما يمثله البرادعي دوليًا، لكن القيادات القديمة والفاعلة الآن تؤمن بأن البرادعي سيكون له دور ما في مسألة حلحلة المشهد في مصر أو ترتيب أي انتقال للسلطة على المستوى الدولي، بوصفه «شاهد عيان» على الفترة التأسيسة للنظام الحالي منذ الإطاحة بمرسي.

وتعكس نظرة منير في هذا المقام الرؤية الكلاسيكية للجماعة، التي عبر عنها بدوره في الحوار حين أشار إلى أن السياسة تتطلب «مناورات» وتخضع «لمتغيرات»، وأن التنازلات واردة لكن «دون أن تمس المبادئ والقيم والحقوق»، وهي صيغة فضفاضة تؤصل لهذا المنحى الكلاسيكي في الخطاب الذي أيضًا تحدث عن «رفقاء الوطن الذين اكتشفوا الحقائق»، والواجب «التعاون معهم»، لذا فإنه عاد وأكد في أحد أحاديثه التلفزيونية على أنه «لا تخوين لأحد».

لا ينفصل عدم إغفال منير ذكر وجود «شرفاء في الجيش» في حديثه «عمن ساهموا في تمويل الانقلاب»، فالرجل يعرف أن البدائل العسكرية من داخل المؤسسة.

أما ثالث المستويات فهو إبداء التعقل والاستعداد لاحتواء الموقف وتقديم تنازلات وعدم الصدام، وإثبات أن ثمة «مؤسسية» الآن تتحكم في أطراف الجماعة، وهي رسالة المقصود بها خارج مصر أكثر من داخلها، لاسيما بعد صعود اليمين السياسي في أماكن عدة، الأمر الذي ينذر باقتراب الجماعة من مواجهات قانونية وإعلامية، على نحو تلك التي خاضتها في انجلترا قبل خروج تقرير لجنة الشؤون الخارجية للبرلمان البريطاني منذ عدة أيام الذي جعلها تتنفس الصعداء بعد حالة التأرجح التي شهدتها في بريطانيا، وهو ما يبدو أنها ستُقدم عليه بقوة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، التي وإن كانت لا يوجد بها تنظيم إخواني بالشكل الكلاسيكي المعروف أو قيادات بوزن منير، لكنها تضم عددًا كبير من المراكز الدعوية والجمعيات الإسلامية التي تنشط في العمل الدعوي والخيري العام، وتمثل حاضنة للعمل الإسلامي العام بما فيه الإخواني، وله صداه في أماكن كثيرة حول العالم، بما يعني أن أية هزة تتعرض لها سيكون لها صدى آخر، فضلا عما هو متوقع من استهداف الجماعة الأم من النظام السياسي الأمريكي الجديد الذي سيطر عليه اليمين المتطرف وباتت مسألة مواجهته مع الإسلاميين مسألة وقت، ابتداء من سيناريو حظر كل التنظيمات الإسلامية واعتبارها إرهابية، انتهاء بالتضييق عليها ووضعها دائمًا في الزاوية.

ولا ينفصل عدم إغفال منير ذكر وجود «شرفاء في الجيش» في حديثه «عمن ساهموا في تمويل الانقلاب»، فالرجل يعرف أن البدائل العسكرية من داخل المؤسسة، أو حتى المدنية التي قد تقدم نفسها بوصفها بديلًا سياسيًا عن الإخوان، لا يمكنها تجاوز الخارج سواء كان عربيًا ( شفيق – عنان)، أو دوليًا ( مدني/ليبرالي يقبل بدور فاعل للعسكريين).

ومن ثم أراد الظهور بمظهر ممثل الطرف «العاقل» الذي يجب التفاوض معه، مقدمًا دليلًا على ذلك بإظهار البحث عن «الحكماء» سواء من «الشعب» أو «الدنيا» عند أي مصالحة. وقد نال هذا التعبير قدرًا من السخرية عند تداول حواره، لكن الرجل بدا منهمًا بأن يقدم دعوة، على من يرغب أن يلعب دورًا في دمج الجماعة مرة أخرى أو حلحلة الوضع معها أن يتلقفها، وبمعنى آخر، يقول: ها نحن موجودون لمن يريد أن يكون وسيطًا حال تعقد الأمور أو انفراط العقد من يد السيسي.


ماذا عن الداخل الإخواني؟

ربما يعلم منير أن الداخل الإخواني المنقسم على نفسه بفعل الخلاف على إدارة الجماعة لا يعني غالبيته من يقود الجماعة بقدر ما يعينه أن يجد خلاصًا لحال المعتقلين والمطاردين من الجماعة، لاسيما أنه ليس ثمة رؤية واضحة متماسكة قُدِّمت من أي من الجهتين اللتين تنازعتا إدارة الجماعة.

لذا فإن أحاديث المصالحة تحمل قدرًا من الإيجابية والأمل لدى الكثيرين داخل الجماعة حتى ممن لا يصطفون مع منير ورفاقه، وبالتالي لا يبدو الشكل العاقل الذي قدم منير نفسه به بعيدًا أيضًا عن الداخل الإخواني الذي أراد ضمنيًا أن يقول له: إذا كان ثمة انفراجة فستكون من خلالنا، أي أنه يمثل الطرف الأكثر عقلانية الراغب في تخليص المعتقلين؛ ذلك أن أول بند في بنود أي تصور للمصالحة عند أي طرف، يأتي المعتقلون على رأسه.

وكما يخاطب منير الداخل الإخواني بشكل غير مباشر، فإنه يفعل ذلك أيضًا مع بعض الأطراف الغاضبة من النظام، إذ يقوم «برمي الكرة» في ملعب النظام، بإعلانه القبول بالمصالحة، وهو يعلم أن السيسي والدائرة القريبة منه لن تقبل المصالحة مع الإخوان بمنطق الند، ولكن السيسي منذ اليوم الأول ظهر أنه أراد تركيع الإخوان وإذلالهم لاسيما مع تحديهم له بالمواجهات معه.

إذن ماذا أراد منير تحديدًا وهو يعلم أنه لا مصالحة مع السيسي ولا غضب من جموع الإخوان مع المصالحة كفكرة ومبدأ؟ فيما يبدو، فإن أحاديث المصالحة المتصاعدة منذ رمضان الماضي وما قبله بقليل من معسكر منير، لا يمكن قراءتها إلا في ضوء دراسة وجس نبض التنازلات والمناورات التي يريد هذا الجناح الإقدام عليها في ظل ما يعلمه من وجود حالة غضب ضد هذا الجناح وتحميله مسؤولية دفع الشباب للمواجهات مبكرًا مع النظام دون خطة واضحة أو رؤية متماسكة؛ الأمر الذي أدى لتصاعد رغبات الانتقام بين الشباب فولدت حالات المواجهة بالعنف المتصاعد والمجموعات النوعية التي جاءت لاحقًا.


خاتمة

تحمل أحاديث المصالحة قدرًا من الإيجابية والأمل لدى الكثيرين داخل الجماعة حتى ممن لا يصطفون مع منير ورفاقه.

لا يبدو أن الحديث أو التصورات أو الرسائل التي خرجت من منير تحمل شيئًا يتعلق بالحاضر أو بشيء يتم إعداده حاليًا. هي جس نبض للمستقبل ومعرفة مدى تقبُّل الصف الداخلي للمصالحة بسقوفها العالية وتنازلاتها المؤلمة، وما حجم الشقوق التي ستنتج عنها، إضافة إلي إرسال رسائل للأطراف الفاعلة مستقبلًا في المتغيرات الإقليمية والدولية القادمة.

لكن واقع الحال يقول أنه لا مصالحة مع السيسي أو في وجوده، فكلمة المصالحة مع الإخوان بالنسبة للسيسي تعني الخضوع الكامل وطلب التطهر من «الإثم المفترض» بين يديه، بينما لا يقوى أي طرف داخل الجماعة على الإقدام على هذا الأمر حتى لو كان المقابل هو خروج المعتقلين كافة، فالثمن داخل الجماعة سيكون ضخمًا وأكبر مما هو الآن، لاسيما على مستوى التأثير النفسي والاجتماعي والعقدي بين الجماعة وأفرادها، فيما يقف مَن هم داخل السجن حائرين، فمنهم من يريد الخروج بأي ثمن، ومنهم من هو على استعداد لأن يدفع ثمن المواجهة لآخرها بغض النظر عن رؤيته لمن يدير الجماعة.