هذه المقالة الثانية في سلسلة مقالات «قراءة في المدونة الإسلامية» التي استهللتها بمقالة تعليقًا على مقالة الشيخ أنس السلطان «جيل يعاني العجز وقهر الرجال»، وأثني بمقالة «الإسلاميون والرؤية المادية» للأستاذ عبد الرحمن أبو ذكري.

ما أحاول استنباطه في هذه القراءة أنه برغم الثنائية الظاهرة بين نموذجي الفقيه/ المُفَكِر إلا أن المشترك الكامن بين كليهما كبير جدًا في رؤية الواقع

ولأنني حريص على رؤية البنية الكامنة وراء التعدد المعرفي، جذبني إعادة كتابة المقالة المنوط بها القراءة في هذا المقال، للكثير من الأسباب، أهمها في ظني هو إبراز حقيقة أن المشترك الكامن -بين ما يُظَن للوهلة الأولى فيه قدر من التباين- أكبر بكثير من الاختلافات القائمة بين المشارب المعرفية والمقدمات الكلية المبثوثة في أثناء مقالة ينطلق صاحبها من قاعدة شرعية مذهبية، والثانية صاحبة النفس المعرفي الفكري كما في مقالة أستاذ عبد الرحمن أبو ذكري.

وما أحاول استنباطه في هذه القراءة أنه برغم الثنائية الظاهرة بين نموذجي الفقيه/ المُفَكِر إلا أن المشترك الكامن بين كليهما كبير جدًا في رؤية الواقع برغم اختلاف الأدوات وتباين التوصيف ورؤية المآلات المترتبة على الفرضيات المُسبَقَة لكل منهما وهذا ما سأحاول إبرازه.

وليس هدفي من إبراز المشترك الكامن وراء التنوع الظاهر من عينة «يابخت من وفق راسين في الحلال»؛ فلا أفعل ذلك للخلوص إلى محاولة تقريب بين الاتجاهات المختلفة والمتباينة، ولا أسعى لنفي الثنائية التي لا زالت قائمة حتى الآن في حالة توتر العلاقة بين الفقيه/ المُفَكِر، وهي واضحة جلية في الانتقاد الضمني لأستاذ عبد الرحمن في مقاله لمن ينتسبون للفقه الرياضي وهم ما وضعهم في زمرة من يتبنون الرؤية المادية كرؤية معادية للتصور الإسلامي السليم، ولكنني أصبو للوصول إلى أنه برغم هذا التباين في المنطلقات الذي يصل لحد النفور، وتتعالى حدته في النقد حين تستدعي الحاجة، وتخفت كالجمار الملتهبة المتحفزة لأي ريح في استثارتها إلا أن كلتا هاتين الرؤيتين يتفاعلا مع الواقع بمضامين قريبة جدًا بعضها بعضًا باختلاف الوسائل ودرجة دقتها التي تصف مواضع الخلل ومناطق العِلل.

ولهذا أجدني لهذا السبب لا أتقيد بالمنهجيات النقدية المستقرة رغم معرفتي بها بحكم الدراسة وتعمقي فيها بحكم الهمة وكثرة المطالعة وإعادة تمثيل المقروء ليغذي إيماني إجمالاً، وأعتمد على تحليل تتمازج فيه مكونات كثيرة بداية من رؤيتي الشخصية للأمور مرورًا بتقاطع رؤيتي مع هموم واقعي المحيط وصولاً للحديث عن تفاعل الذات والموضوع مع فهمي للشرع عامة في كُل مُرَكَب من تلك العناصر.

كانت هذه المُقَدِمة بداية مهمة حتى يتكون لمن يقرأ هذه السلسلة تصورًا عامة من الغاية من كتابتها، ويظل الخيط الناظم وراء المقالات التي أعيد قراءتها أكثر جلاء.

وإذا ما انتقلنا لمقالة أ.عبد الرحمن، فإنها أول ما استدعته من ذاكرتي مقولة كتبها الشاعر والناقد الأمريكي «عزرا باوند» في مقال له بعنوان «A Retrospect» ناقلاً عن Mr. Hewlett طبيعة الشعر الحديث الذي يصبو إليه واصفًا إياه بكونه شعر «ينخر في العظام»؛ فإذا ما كان عمل مقال الشيخ أنس «جيل يعاني العجز» أشبه بأشعة X-Ray فإن توصيف أ.أبو ذكري أشبه بتحليل الـ DNA لهذا الواقع الذي نحياه؛ فلقد استطاع النفوذ إلى البنية الكامنة في الأطروحات الإسلامية المعاصرة وأدرك البنية المادية المستبطنة المعادية لجوهر التوحيد، والتي إن وجدت تقضي على فاعلية الإسلام وحيويته وقدرته على الهيمنة على الواقع باختلاف تنوعاته وتباين تحدياته باختلاف الزمان والمكان.

استهل أ. أبوذكري مقالته بعنوانه الصدامي «الإسلاميون والرؤية المادية» إلا أنه باغتني بالاستهلال الهادئ الحاني بالحديث عن الموسيقى الشرقية، ولقد كان هذا الاستهلال موفقًا لحد بعيد في سحب وتيرة الغضب كرد فعل على العنوان من جهة، ومن جهة أخرى فإنها لم تنفي حقيقة الصدام الذي شنه كاتب المقال بداية بالطبول المنذرة له مع القارئ في العنوان، وإن كانت أكسبت الصراع طابعًا «أكثر إنسانية»؛ فالصدام الذي يرنو إليه أ.أبو ذكري ليس من جنس الصراعات البشرية الدامية ولكنه صدامًا كأمواج البحر المتلاطمة؛ فهدوء البحر لا يعني سكونه، كما تغير حالته بين الفنية والأخرى هي الأصل في تخيل طبيعته.

المُشكِل في هذا النمط الثنائي ضعف مقدرته التفسيرية وعدم قدرته لرصد الإشكالات في صورتها الحية ولكنه يلتقطها في أكثر الأنساق نضوجًا ككاميرا عالية التقنية.

وإذا ما انتقلنا للمرتكزات الفكرية القائم عليها المقال، يتضح بعض النزوح غير الكُلي للثنائيات الفكرية، وهي معضلة في الأنساق الفكرية لم يتم تجاوزها حتى في أكثر الأنساق الفكرية نضوجًا وشمولاً كما هو الحال في فكر المسيري. وتتجلى الثنائية تقسيم أ.أبو ذكري للشرق والغرب على نمط الشرق/الغرب وفَرَع عليها الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، والغرب المادي والشرق الروحاني، وفي الوقت نفسه تتفتق أوليات محاولات النزوح عن هذه الثنائية في قوله «بصورة ما» و «في سياقات معينة». والمُشكِل في هذا النمط الثنائي ضعف مقدرته التفسيرية وعدم قدرته لرصد الإشكالات في صورتها الحية ولكنه يلتقطها في أكثر الأنساق نضوجًا ككاميرا عالية التقنية.

واتسعت محاولات الخروج من الثنائية من مستوى الألفاظ الموحية لعدم تغليب كاتب المقال لمثل تلك الثنائية وعدم وثوقه اليقيني على قدرتها التفسيرية إلى مستوى النموذج التفسيري. والنموذج كما يعرفه المسيري هو «بنية تصورية أو خريطة معرفية يجردها عقل الإنسان (بشكل واعي أو غير واعي) من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق (الموضوعية)، فهو يستبعد بعضها بحسبانها غير دالة (من وجهة نظره) ويستبقي البعض الآخر. ثم يربط بينها وينسقها تنسيقًا خاصًا، ويجرد منها نمطًا عامًا».

ولقد جَرَد أ. أبو ذكري نموذجه التفسيري للسبب الرئيس وراء تقويض النموذج المادي للرؤية التوحيدية المتجاوزة في ارتكاس فطرة الإنسان في قوله «هذا النزوع الهندسي الطوباوي ليس مجرد «شر» غربي، وإن كنا تأثرنا في تطبيقاته وتمثلاته المعاصرة بالغرب؛ لكنه صورة من صور انتكاس الفطرة الإنسانية برغبتها في تنظيم الكون وفق رؤية هندسية وضعية مسبقة؛ تنظيمه في معادلات رياضية وقوالب وأشكال هندسية منتظمة لا نتوءات فيها ولا بروز»، وهذا يدلل على أن رصد الكاتب لمعضلة الثنائيات ومقدرتها التفسيرية المختزلة ، ومكابدة نماذج «أكثر تفسيرية» وإن كان هذا النزوح لا زال في طور لا يعبر عن النضوج الكامل إذا إنه لم يحتل صدارة التفسير ولم يرتكز عليه كما ارتكز على الثنائية في بنائه للمقال.

والمثال المذكور لكاتب المقال في حديثه عن زيارته للأردن والندوة المقامة للحديث عن أعمال راسم بدران يعكس تصورًا مستبطنًا عن رؤية الكاتب للمجتمع المنوط به هذا الخطاب؛ فهو يقول بهذا المثال ضمنًا أنه لا يعبأ بالتقاطع مع متلقي المقال إذ أن المثال المسوق لا يتقاطع مع كثير من متلقي المقال، إذ أن المثال شخصي جدًا، وظني أن قلة ممن قرؤوا المقال قد سمعوا براسم بدران وحتى وإن سمعوا فلا يتقاطع هذا المثال مع وجدانهم في الكثير، فثراء وجدان المُفَكِر لا يعني بالضرورة قدرته على التقاطع مع بيئته، وضرب المثال من أهم الأدوات التي يُفَهم من خلالها إذا ما كان المُفَكِر يرصد الظواهر ويفككها حتى يُري المتلقي العلل لمحاولة العلاج أم أنه غاضب من المتلقي، فليقي عليه تحليله بما يشير عدم اكتراثه بحالته مثله مثل الطبيب الحانق على مدخن شره أصيب بسرطان الرئة بسبب تدخينه قائلاً له المصطلح العلمي الدقيق لحالته دونما اكتراث منه أن يفهم حقيقة مرضه. وأحسب أن أ.أبو ذكري أميل للمثال الأول والاستدلال عندي بمثال لا يتقاطع مع كثير من القراء دلالة على ذلك حتى إن لم يتعمد ذلك بسوقه للمثال بشكل واعٍ.

في ندوة أقيمت للحديث حول «التصوير الفني في القرآن الكريم» لسيد قطب لـ د. محمد صفار و أ. أبو ذكري طرح أحد الحاضرين سؤالاً على د. صفار مفاده أن فترة السجن صاغت فكر قطب لحد بعيد، فكان تعقيب د. صفار موفقًا جدًا حين قال ما معناه أن الأسئلة الملحة على الإنسان هي –بتعبيري الشخصي– جزء من خلقه وأقداره ، وتفاعله الجاد معها أصل ركين من قبوله وإيمانه بأقدار الله، لهذا فإن «تفصيص» حياة المُفَكِر إلى وحدات منطقية ومحاولة ربط كل فترة بدقة هندسية بآثارها على المُفَكِر، كأن نقول مثلاً كتب قطب «أشواك» في المرحلة الرومانسية ثم «التصوير الفني في القرآن» في مرحلة الانتباه للإسلام، ثم «معالم في الطريق» في مرحلة السجن بعدما سادت الرؤية الظلامية عليه…إليه، فهذا التصور يشوه التفسير ويجعله حسبة رياضية دقيقة ولكنها تعبر عن شيء آخر غير الإنسان.

ووافقه أ.أبو ذكري على ما قال، واتفقا أن العوامل «البرانية» من ظروف حياتية وسياقات مجتمعية ليست كافية لتفسير دافعية قطب نحو مكابداته وكتابته المولدة ولادة عضوية على غرار الإلحاح المستمر لبعض الأسئلة على قطب دفعه صدقه –ولا نزكيه على الله– قبولها من جملة قبول أقدار الله عليه والعزم على محاولة إجابة من خلال تكوين تصوره عن تلك القضايا المبثوثة في كتاباته.

وبرغم إقرار أ.أبو ذكري لما قال د. صفار بل إثراؤه بقوله بحسب تعبيراتي لما فهمت إن معظم ما قيل عن قطب هو جراء القراءة الأمنية المستبطنة تصورات فاسدة والتي انتقلت لكثير من الإسلاميين بشكل لا واعي إلا أنني أحسب وقوعه في الفخ نفسه في حاشيته حين أقرن الرؤية المادية المستبطنة للبنا والألباني وعملهما في مجال تصليح الساعات؛ فهذا الإقران وإن كان يقفز على الأقيسة المنطقية في محاولة جيدة لتجاوز المنطق الجاف والاستعاضة عنه بالمجاز الإنساني المُرَكَب إلا إنه لا يمكن اختزال هذه التجارب في مجرد هذا التصوير حتى وإن كان يعلم صاحب المقال ذاته هذا ولكن التنبيه على الأقل كان واجبًا، وكان يلزمه القيام بذلك عن طريق استخدام ألفاظ أقل يقينية مثل «فعمد البنا إلى هندسة المجتمع…» إلى لعل السياق بأكمله كان تربة خصبة لحلول الرؤية المادية داخل النسق التوحيدي، ولنا في عمل البنا كساعاتي لمحة من ذلك ، فالقطع على مستوى الألفاظ والدلالات لا يتناسب مع طرح صاحب المقال نفسه عن الرؤى «الأكثر إنسانية» و«الأكثر تفسيرية» التي يكابدها ولعل هذا يمثل صدق الكاتب أيضًا في كونه يكابد الكتابة لا يكتبها، ولهذا لم يسري التصور الذي يسعى إليه في تكوينه بقدر يسمح باتساق التفاصيل مع كليات التصور.

وختامًا أرى أن المقالين برغم اختلاف وسائلهما كلية لدرجة بعيدة (أشعة X-Ray في مقالة الشيخ أنس السلطان و تحليل الـ DNA في مقالة أ.أبو ذكري) إلا أن رؤيتهما للمجتمع لم تتجاوز ثنائية الفقيه/المجتمع أو المفكر/المجتمع؛ فمقالة الأول تجسد رجلاً غريبًا نزل وسط قوم وسمع منهم ما سمع ثم أخرج بوقه ونفخ فيه بقوة مخرجًا نغمة حماسية تحفز الإرادة وتهيج الوجدان ولكنها لا تنطلق من واقع القوم أنفسهم، والمقالة الأخرى أشبه بمقولة الأستاذ «محمود شاكر» (أبو فهر) لـ «لويس عوض» واصفًا إياه قائلاً: «صبي المبشرين أجاكس عوض»؛ فالمتلقي المنوط به مقالة أ. أبو ذكري لن ينتفع أكثرهم بالطرح المتضمن في المقالة –في ظني- بسبب غضبه المستتر وراء الكلمات غير العابئ بتفهيمه والتفاعل معه بغية الوصول لفهم يولد حركة يدعو لها صاحب المقال نفسه. فإذا كان وصف أ. شاكر للويس عوض بـ«أجاكس» موفقة في سياق الاستعلاء على الخصم فإنها صورة ليست الأفضل في حال مقال أ.أبو ذكري خاصة وإن كان الغرض التفاعل الجاد مع الحالة الحالية للإسلاميين وليس الغضب منها وعدم الاكتراث لتفهيم المتلقي لما يدعو إليه في المقال.

والله أعلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.