دخل المئات إلى الحرم المكي جماعات وفرادى، يكبرون بشكل يعبر عن إيمانهم العميق، عن الصدق بوعد الله، ضمن 50 ألفًا من بقايا الحجيج الذين ظلوا في مكة بعد أدائهم فريضة الحج. أثناء صلاة الفجر سمع المصلون أصوات 39 بابًا تُغلق بالسلاسل والجنازير، ويُسحب السجاد. ارتفع بعض الغبار في بعض مناطق الحرم فأعطى شكلًا رخيمًا للحرم.

أثناء الصلاة خلف الشيخ محمد بن السبيل بقراءته الرتيبة الهادئة، سُمع صوت جلبة خفيفة، ثم بعدها بعض التكبيرات الناشزة عن موضعها في الصلاة. ثم ما إن أنهى ابن السبيل صلاته وتلا أذكاره، تقدم ليؤم الناس في صلاة جنازة. هرول رجلان إليه وأزاحاه فجأة عن الميكروفون، وبعد لحظات تقدم أحدهما ويُدعى خالد اليامي، شاب متحمس وبصوت فيه انفعال وفرح أعلن ظهور المهدي، ثم بعدها أعلن الأحاديث والأدلة على ذلك، في صوت شديد الحماسة.

فجأةً سُمع دوي رصاصة، وبعدها خيّم السكون على المكان. توقف الطواف للحظات حول الكعبة. حدث ارتباك والتقط أحدهم الميكروفون، ليعطي تعليمات مباشرة لأشخاص بعينهم للصعود إلى أماكن محددة، وإطلاق الرصاص على من يتمرد، كان ذلك الصوت لجهيمان، أحد قادة الحركة.

هز حادث اقتحام الحرم أركان المملكة وأثر سلبًا على السلطة والحكم فيها. كانت أيام الاقتحام الـ 16 كفيلة لغرس الرعب في نفوس العائلة الحاكمة لا سيما الأسرة السديرية[1] التي حسب مؤرخ العائلة الحاكمة روبرت ليسي في كتابه «المملكة من الداخل» هي التي كانت تقود التغيرات العلمانية والبيروقراطية في المملكة.

هذه التحولات كانت سببًا في وجود جماعة السلفية المحتسبة، الذي بلغ تطورها أوجه في مشهد اقتحام الحرم. كانت ظاهرة جهيمان وأتباعه هي النتيجة الواقعية للتحولات الدينية التي حدثت في الستينيات، وهي بالتالي تستخدم نفس المنهج الديني الرسمي. لا يمكن اعتبار هذه الظاهرة مستوردة من الخارج، بل هي جزء لا يتجزأ من المجتمع السعودي، يحملون نفس ثقافة أبناء السعودية، من الاستعلاء على الجنسيات الأخرى، وظهر ذلك داخل الحرم من خلال فرض السيادة لهم، ومنع أي فكر أو اقتراح من خارجهم. وفيما يلي بعض القراءات للظاهرة.

خبر القبض على جهيمان العتيبي في حادثة الحرم
تغطية صحيفة الندوة السعودية لأحداث اقتحام الحرم بعد انتهائها

ثورة المهمشين

لم يكن حادث جهيمان واحتلال الحرم المكي في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 حدثًا منقطعًا من سياقه، وكأنه رد فعل على الثورة الخمينية كما يُصور البعض، أو مثالًا للتكلس والجمود داخل المجتمع السعودي، إنما كان ثورة لها جذور في المجتمع السعودي نفسه.

سمى جهيمان الجماعة المحتسبة بالإخوان، ويُقصد بهذه التسمية الامتداد التاريخي لإخوان مَن طاع الله، الذين قامت على أكتافهم المملكة، أولئك البدو من قبائل مطير وعتيبة الذين انقلب عليهم عبدالعزيز آل سعود، بعد أن رفضوا إيقاف «الفتوحات» عام 1929، بعد معاهدته مع بريطانيا لترسيم الحدود مع العراق.

رفض جزء منهم عمليات تحويلهم لجيش نظامي، ورفضوا إطاعة أوامره، ولأنه لم يعد لهم حاجة أمرهم بالانضمام إلى الحرس الوطني وإلا سيحاربهم، وما إن رفض جزء منهم حتى أرسل إليهم قوات بأسلحة بريطانية في مارس/ آذار 1929 ليقتلوا ويأسروا منهم المئات. كان أحد الأسرى والد جهيمان كما ذكر روبرت ليسي[2].

بالرجوع إلى الجماعة السلفية المحتسبة سنجد غالبية المنتمين لها من ذلك النسب ومن الحرس الوطني، الذين حافظ البعض منهم على خصومته – وإن كانت شعورية – مع آل سعود.

على جانب آخر كانت طفرة البترول، قد أحدثت نموًا استهلاكيًا وتمدنًا سريعًا في السعودية، مما استدعى أثرًا لرفض التمدن وحياة الرفاه الغربية. كان أول من تصدر لهذا السلفية المحتسبة، وقد غض الطرف عن سلوكيات الجماعة ابن باز، كونهم يدافعون عن حوزة الدين في نظره.

أصبحت الجماعة تتشدد منذ عام 1974 مع تصاعد مظاهر الترف، إلى أن بلغت القطيعة ذروتها عام 1978، وفي ذلك الوقت حاول ابن باز دعوتهم إلى التخفيف في أسلوبهم، لكنهم أبوا، فقطع عنهم الدعم. ورغم ذلك توسط عند الملك خالد للإفراج عن 30 شخصًا منهم قُبيل اقتحامهم الحرم.

يُلاحظ في غالبية من اقتحم الحرم أنهم شباب حديثو السن، لذا يجب تسليط الضوء على تهميش دور الشباب في حياة المؤسسة الدينية والسياسية. بل إن غالبيتهم استُبعدوا من سياسات التوظيف للدولة، وذلك كونهم رفضوا الاعتراف بالدولة بمؤسساتها ومنها المؤسسة التعليمية[3]، ولم تسعى الدولة من جانبها إلى ضمهم لجسدها، (كانت سياسات التوظيف أداة لتوزيع الريع في السعودية النفطية)، وجراء استبعادهم وجدناهم ناقمين على الدولة ورافضين حتى للتفاوض معها أثناء اقتحامهم الحرم.

لم تكن هذه التحركات دينية محضة، بل تمتعت بامتداد مجتمعي واقتصادي يؤكد أنها كانت ذا طابع ثوري، وإن لم يكن ثوريًا بالكامل. في تلك الفترة كان الملك خالد قد قرّب منه الجناح السديري من الأسرة الحاكمة، وهو جناح ذو ترف ويُفضل التيار العلماني والانفتاح على الغرب. وكان خالد يسير على نهج فيصل، فكان يستجيب بسرعة للمؤسسة الدينية وعلى رأسها ابن باز.

أدركت العائلة الحاكمة بُعيد انقضاء أحداث جهيمان والسيطرة على ثورة الشيعة في المنطقة الشرقية أن حكمها على وشك السقوط، فسعت إلى ضم المؤسسة الدينية إليها بشكل مطلق وضرب أي تيار خارجها، والتضييق على المؤسسة الرسمية نفسها التي أدت إلى ظهور هذه الجماعة، مع إدراكها لمدى افتقارها وحاجتها لهذه المؤسسة التي تستمد من وجودها بعض الشرعية.

أدركت العائلة أن حالة الثورات تلك لن تنتهي إلا بإصلاحات سياسية، فأعلن الملك وقتها عن إنشاء مجلس الشورى، وسعى لإجراء بعض عمليات التحديث السريعة في ظل بسط النفوذ على المؤسسة الدينية، كما تم قبول التيار الإصلاحي التدريجي كبديل شرعي للتيار الراديكالي.

مدخل نفسي

أكثر ما ميز ظاهرة جهيمان ورجاله اعتمادهم على الأحلام[4] كمرجع للتصورات الدينية والمجتمعية، فهم ينكرون السياسة وينكرون أدواتها، ولذلك فإن أي محاولة لإعطاء بعُد سياسي للحادث، تُعد نوعًا من الإخلال والتسطيح لظاهرة جهميان. تجدهم يعتمدون على الأحلام باعتبارها جزءاً من النبوة، ومحركاً أساسياً لإيمانهم العميق بفكرة المهدي، فغالبية من اقتحموا الحرم كانوا شبابًا، يتمتعون بالحماسة والإيمان بفكرتهم.

تجد كذلك تصديقهم للرؤى كنوع من العجز وغياب الخيال السياسي، فهم ينكرون تكفير الحاكم ويرون المجتمع مسلمًا، بل حتى ينكرون الخروج على الحاكم بالسلاح. لذا لجأت مخيلاتهم إلى اللجوء الى الرؤى وتصديقها، من دون أدنى مسؤولية منهم، فنجد جهيمان بعد القبض عليه لا يقول إلا «قدر الله وما شاء فعل» في إشارة إلى أن الحادث فعل رباني وفقط، وبأنهم مسيرون وليسوا مخيرين.

أثر منهج أهل الحديث واتباعهم لأحاديث آخر الزمان على تصوراتهم، فهم منذ بادئ الأمر يتحركون في إطار تلك الأحاديث، كاختيارهم للمدينة المنورة للسكن فيها، لأن المسيح الدجال لن يدخلها. هذا الانعكاس انقلب في هيئة رؤى وأحلام، كما يشير زيغموند فرويد إلى أن الأحلام تعبر عن العقل اللا-واعي، ومن خلال تفسيرها يمكن فهم تخوفات الإنسان وهواجسه، كذلك يمكن انعكاسها على الواقع السياسي كما حدث في هذه القصة.

تعطي الرؤى والأحلام[5] توهماً بالسيطرة على المصير، كما تُستخدم كأسلوب دفاعي لمواجهة قهر السلطة، والتغيرات التي لا يستطيعون مواجهتها على أرض الواقع. فالدليل على شدة العجز والتصديق بالأحلام أنّ العديد ممن اعتقلوا ظلوا معتقدين أن المهدي لم يمت، بل كانوا يرون رؤى بذلك وهم في السجون، وأنه قادمٌ لتحريرهم. حتى أن ناصر الحزيمي أحد أتباع الجماعة، أشار إلى أن المحاصرين في الحرم كان عندهم اعتقاد في اليوم السادس في الخلوات أن جيش «تبوك» قد خسفه الله، بناءً على رؤى، وظلوا مصدقين لهذا حتى في السجن بعد ذلك.

حتى لا يعود جهيمان: البعد القياموي

من الملاحظ في سرد الأحداث أنهم نتاج للمؤسسة الرسمية الدينية، فكيف ذهبوا لاحتلال الحرم، والرد على القوات بالسلاح؟

يشير الباحثان هيغهامر ولاكروا[6]، إلى أن طبيعة التدين السعودي هي السبب في ظهور جماعة جهيمان، بل إنه من الوارد أن يعود جهيمان مرة أخرى. فالوهابية منهج سلفي في العقيدة فقط، لكنه أغفل الجانب الفقهي. ونظرًا لاستنادهم إلى الإمام أحمد بن حنبل، فقد وجدوا أنفسهم متقاربين مع مدرسة أهل الحديث الفقهية في الهند.

بُني المنهج الوهابي على تحالف الدين والسياسة، أما مذهب أهل الحديث فقد وُجد في بيئة الاحتلال الإنجليزي للهند، وكان أتباع هذا المذهب قد جنحوا بعيدًا عن السياسة ومواجهة الإنجليز، الذين بدورهم تركوهم يتدارسون الحديث. وبدلًا من ذلك اكتفوا بمواجهة القاديانية (أحد المذاهب التي ساهم الاحتلال الإنجليزي في وجودها، ليُخضع الجزء المسلم من الهند لاحتلاله). وبالتالي استعاض أتباع مدرسة أهل الحديث عن ممارسة السياسة بمواجهة نتائجها، من خلال المناظرات وخلافه من الأدوات العلمية.

أشهر من درس في الهند من الوهابية كان سعد بن حمد بن عتيق، وهو أستاذ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة قبل ابن باز، وهو أستاذ ابن باز أيضًا. كان من أثر ابن عتيق افتتاح مدرسة دار الحديث بمنهج هندي وبأستاذية هندية في المدينة المنورة سنة 1934 بعد وفاة ابن عتيق، إضافةً لمعهد أهل الحديث في مكة 1933 التابع لأنصار السنة المحمدية المصرية تحت نظر الشيخ أبوالسمح. سبقت تلك المدارس إنشاء كلية الشريعة 1953، والجامعة الإسلامية 1959.

استضاف ابن باز في الجامعة الإسلامية الشيخ ناصر الدين الألباني، والذي سيؤثر بشكل مباشر في الجماعة المحتسبة كأشهر المحدثين في العصر الحديث. تأثرت الجماعة المحتسبة بتيار مدرسة أهل الحديث الهندية، من خلال إلقاء خطبهم في الحرم فكان مسموحًا لهم في الستينيات والسبعينيات بذلك. كما تأثرت بشدة بجماعة أنصار السنة المحمدية، ونشاط وحركة التبليغ والدعوة التي كان ينتمي لها أغلب أعضاء الجماعة السلفية، قبل أن ينقلبوا عليها فكريًا في وقتٍ لاحق.

أهل الحديث لا يبيحون الخروج على الحاكم، بل إن غالبيتهم لا يكفرون الحاكم. فجهيمان لم يكفر حكام السعودية على الإطلاق، بل حمل ضدهم السلاح للحماية كما يتأول ذلك شرعًا، وليس للقتال ضد الدولة، فلا يمكن وصف حادثة جهيمان بالثورية بمعناها الواسع، كما ذهب فهد القحطاني[7] في كتاب زلزال جهيمان.

منهج أهل الحديث لا يملك تصوراً للواقع، وينكر العمل بالسياسة، بالرغم من ممارسته لها، وفي ناهية المطاف هو منهج قياموي، أي أنه يسعى لتسريع أحداث آخر الزمان حتى ينتصر الله لأهل الحق.

سنجد أن ذلك الأمر القياموية يعني القدرية، أي أنهم مُسَلِمون بالقدر، لا يصنعون مصائرهم كما السياسة، في تخلٍ واضح عن المسئولية. لذا سنجد جهيمان وجماعتهم كل ما كانوا يمتلكونه هو الإيمان الشديد بأن هذا المهدي، وأنهم يضحون من أجله بالغالي والنفيس، وليس لهم مطلب دنيوي فيه. فهذا مبدأ راسخ في مدرسة أهل الحديث، الذين لا حل عندهم للتغيير إلا بالرجوع الى مبشرات النبي وتصورها، مع غياب إعمال العقل والفعل الإنساني، وانتظار المخلّص، وإخلاء المسئولية.

سنجد ذلك الأمر عند المدخلية والجامية التي اتخذت من الحديث موطئًا لدعم ولاة الأمر، وانتظار التغيير من الله وحسب، من دون السعي، بل يعتمدون على الرؤى والأحلام مثلهم، وهم لا يُعملون العقل في التعامل مع النص، بل يتصلبون أيضًا في فهم الحديث.

ما نشير إليه أن جهيمان تحدث بنفس خطاب المؤسسة الدينية الرسمية، كذلك نفس خطاب المداخلة الموالين الآن للحكام، وأنه لم يكفر الحاكم، ولم يكفر الشعب السعودي.

وأخيرًا إن البيئة الدينية التي أفرزت جهيمان لا تزال موجوده في السعودية وقد تفرز من هو أشد منه، مع نفي اتصال جهيمان فكريًا مع تنظيم القاعدة، لأن الأخيرة بُنيت على أيديولوجية ثورية دينية، وليست مثل جماعة جهيمان، قدرية تنتظر المخلص، وتنبذ السياسة بل تهاجمها وتستنكرها، كما استنكر جهيمان عمل الإخوان المسلمين في السياسة وشنع بهم أكثر مما شنع بآل سعود في رسائله!

المراجع
  1. الأسرة السديرية هي من ينمتي لها الملك فهد والملك سلمان والأمير نايف والأمير سلطان والأمير عبد الرحمن والأمير أحمد.
  2. روبرت ليسي، المملكة من الداخل، ترجمة خالد العوض، مركز المسبار للدراسات والبحوث دبي 2011م.
  3.  رفعت أحمد، رسائل جهيمان: قائد المقتحمين للحرم المكي، مكتبة مدبولي 1988م.
  4. ناصر الحزيمي، أيام مع جهيمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت 2010م.
  5. مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي 2005م.
  6. ت. هيغهامر و س. لاكروا، حتى لا يعود جهيمان، ترجمة حمد العيسى، منتدى المعارف بيروت 2013م.
  7. الكتاب ممنوع من التداول، ويشار الى أن كاتبه شيعي في لندن ،إنتحل إسم شخصية سنية لكي يقبل ذلك العمل على مستوى واسع.