«ستيفن سبيلبرج – Steven Spielberg»، اسم شهير للغاية لكل من سمع عن سينما هوليوود، بحيث يبدو من الصعوبة بمكان ألا تكون قد شاهدت له فيلمًا واحدًا على الأقل، حتى لو كنت من متابعي القناة الثانية المحلية المصرية وفقط، فاسم هذا الرجل ظل مرتبطًا بمجموعة من أكثر أفلام هوليوود نجاحًا على المستوى الجماهيري، كما نجح أيضًا بالارتباط بالإشادة النقدية على جانب آخر وحصد جوائز الأوسكار عن أفلامه الجادة والحربية، ونقصد هنا على الخصوص فيلميه اللذين يدوران حول الحرب العالمية الثانية «قائمة شيندلر»، و«إنقاذ الجندي رايان».

وبنظرة قريبة على عالم سبيلبرج الجماهيري، بدءًا من موسيقى «الفك المفترس» الأيقونية، التي يكفي سماعها لإثارة نوستالجيا الرعب والتشويق، مرورًا بالكادر الشهير للطفل الصاعد للسماء مصاحبًا كائنًا فضائيًا ودودًا للغاية في صندوق دراجته، وصولاً لكل لحظات إنديانا جونز البطولية، ومطاردات الديناصورات العملاقة في حديقتهم المبهرة. يبدو الرجل إذن كصانع ماهر للغاية لحكايات الخيال والتشويق. ربما يكون، وبمسافة ليست بالقليلة عن أقرب منافسيه، هو الأمهر والأنجح في خلق هذه العوالم في سينما هوليوود، ولكن ما أقلق كثيرين أن كل هذا بدا وكأنه قد توقف في العشر سنين الأخيرة.

الآن يعود سبيلبرج إلى اللعبة، بفيلم يدور في المستقبل ولكنه يتشبث بكل نوستالجيا الماضي، إنه فيلم «Ready Player One» الذي تصدر وبعد أسبوعيين فقط من عرضه إيرادات أفلام سبيلبرج في آخر عشر سنين، كما تصدر أيضًا تقييم الجماهير لأفلامه على موقع IMDb في آخر 15 عامًا.


التوقف عن السير في عكس الاتجاه

خطوة للأمام بدلاً من السير في عكس الاتجاه. هذا ما يمثله هذا الفيلم بالنسبة لسبيلبرج ، فالرجل الذي تخطى عمره السبعين عامًا، كافح في العشر سنين الأخيرة ليقدم منتجًا يروق لجمهور جديد يبدو أن لسبيلبرج لم يكن يخاطبه، صنع الرجل مجموعة من الأفلام التي بدت وكأنها قادمة من الماضي، من مغامرات تان تان، إلى عملاق محبوب ولكنه كان غريبًا على أطفال ومراهقي اليوم. بدا الرجل كمن يجاهد ليجد فكرة جديدة تصلح لأن تحقق نجاحًا جماهيريًا في عصر الأفلام ثلاثية الأبعاد، وأفلام الأبطال الخارقين.

لجأ الرجل خلال هذه السنوات أيضًا لتيمته المفضلة لحصد الجوائز، الأفلام التاريخية والحربية، فعاد لحكايات الحرب العالمية بفيلم War Horse في عام 2008، ثم صنع فيلمًا عن الرئيس الأمريكي الأول إبراهام لينكولن في 2012، قبل أن يستعين بمحبوب الأكاديمية ورفيق رحلته السينمائية الممثل الأمريكي توم هانكس في فيلمين هما Bridge of spies في عام 2015، وThe Post في عام 2017.

كل هذه المشاريع لم تُنسِ سبيلبرج أنه لم يعد بعد محبوب الجماهير في شباك التذاكر، لم يعد صانع أحلام الأطفال والشباب، لم يعد صانع العوالم السحرية كما اعتاد، لهذا لم يتوقف الرجل عن محاولته للعودة.


لعبة المستقبل/ نوستالجيا الماضي

حكاية تدور في المستقبل، بلغة المستقبل، ولكنها تحمل كل نوستالجيا الماضي، هذا ما يقدمه سبيلبرج في فيلمه الجديد Ready Player One.

عالم شبه مُدمر، وبشر يهربون من حياة بائسة لعالم افتراضي أكثر رحابة، يمكن أن يشعر كل شباب ومراهقي اليوم بألفة مع تيمة مثل هذه، ولكن الجديد أن هذا العالم الافتراضي يشعرك بالألفة تمامًا مع كل الأفلام المحبوبة التي صُنعت في هوليوود في السبعينات والثمانينات وحتى خلال التسعينات.

لا غرابة في هذا، فالفيلم عن رواية للكاتب «إرنست كلين» وهو من مواليد السبعينات؛ أي أنه تربى على أفلام صنعها سبيلبرج، وكوبريك، كما تأثر أيضًا بالحقبة الذهبية لبداية أفلام الأبطال الخارقين وحكايات العوالم الموازية. نرى بوضوح شخصيات وإشارات من كل هذا في العالم الموازي الذي يهرب إليه أبطال فيلم Ready Player One، نشاهد «كينج كونج» وهو يقتحم سباق سيارات في هذا العالم، يسبقه الديناصور العملاق الشهير «تي ريكس» القادم من عالم Jurassic Park، قبل أن نفاجأ في النهاية بجودزيلا والدمية المخيفة تشاكي، كل هذا في خلفية تحمل طوال الوقت لمحات من موسيقى وأزياء هذه الأفلام.

الحوار أيضًا ينتمي للمستقبل، طوّر سبيلبرج من لغته في هذا الفيلم، فاستعان بكاتب حوار أقرب لأجيال الألفية الجديدة وهو «زاك بين»، الكاتب الذي اشتهر بكتابة قصص وحوارات لأفلام مارفل الناجحة للغاية، ومنها على سبيل المثال Avengers Assemble في 2012، سبق ذلك The incredible Hulk في 2008، وX-Men في 2006.

شارك زاك بين في كتابة الحوار مع مؤلف الرواية إرنست كلين، فشاهدنا حوارًا طازجًا، ساخرًا، مليئًا بالنكات، وعاطفيًا في بعض الأحيان، هذه هي الخلطة التي ضمنت نجاح أفلام مارفل مؤخرًا، ولا عيب في أن سبيلبيرج قد أدرك هذا فاستعان بأحد صناعها.


صانع الأحلام يعود من جديد

لا زال سبيلبرج يملك القدرة على صنع حكايات مشوقة، والآن ها هو يفعلها بقواعد المستقبل. يقدم الرجل في هذا الفيلم على مستوى الصورة تجربة مبهرة لعالم افتراضي، تكتمل التجربة بمشاهدة الفيلم في نسخته ثلاثية الأبعاد، سباقات متتالية في مقاطع طويلة يتخللها قطعات سريعة، ومشاهد قليلة من عالم الواقع نرى من خلالها شوارع شبه مدمرة، وبنايات متهالكة، وبشر مدمنون لهذا الهروب الإلكتروني.

يصاحبنا في هذه الرحلة بطل صغير هو واد واتس أو كما يسمي نفسه في عالم Oasis الافتراضي: «برازافيل»، ويقوم بدوره ممثل شاب من مواليد عام 96 هو «تاي شيردين»، قبل أن يلتقي بفتاة مغامرة تسمى أرتميس وتقوم بدورها ممثلة شابة أيضًا هي «أوليفيا كوك». يجمعان فريقهما برفقة أبطال صغار آخرين للفوز بالمسابقة التي أطلقها صانع هذا العالم الافتراضي قبل أن يموت، وهو صانع يبدو شبيهًا بمزيج بين سبيلبرج نفسه ومؤسس أبل الراحل ستيف جوبس، يقوم بدوره الممثل الفائز بالأوسكار وصاحب اللكنة المميزة للغاية «مارك ريلانس».

تبدو لمسات سبيلبرج واضحة طوال الحكاية، بدءًا من سرد الحكاية من خلال أبطالها الصغار، مرورًا بصنع حبكة تتمحور حول لغز مخبأ داخل اللعبة أو كما يسميها محبو الألعاب Easter Egg أو بيضة فصح، وصولاً لنهايتها الأيقونية كما اعتدنا من سبيلبرج الذي طالما فضل نهايات حكايات عوالمه الخيالية بلمحات إنسانية تؤثر عاطفيًا في مشاهديه.

وربما تكون أكثر لحظات هذا الفيلم إبهارًا هي اللحظات التي اصطحبنا فيها سبيلبرج في رحلة داخل عقل «هاليدي» صانع عالم Oasis الافتراضي، رحلة في أفلام سينمائية قديمة وألعاب فيديو جيم اندثرت اليوم، ومن بينها رحلة كاملة داخل فيلم ستانلي كوبريك الشهير The Shining، لو كنت من محبي هذه الحقبة ستشعر بالقشعريرة تلقائيًا بمجرد رؤية هذه الرحلة على الشاشة.

يحكي مساعدو سبيلبرج في صنع هذا الفيلم أنهم كانوا يحاولون تسريب بعض العلامات والإشارات من أفلام سبيلبرج الأيقونية في السبعينات والثمانينات إلى داخل العالم الافتراضي في Ready Player one؛ لأن سبيلبرج كان يحذف كل ما يقابله من أفلامه. ولكن على الرغم من هذا نجح القليل منها في الوصول إلى النسخة النهائية، صرح سبيلبرج أنه فعل هذا لأن الهروب للعالم الافتراضي لا يجب أن يكون جميلاً ورائعًا دائمًا، يجب أن يعود البشر في النهاية للاستمتاع بحياتهم الحقيقية، فالواقع هو المكان الوحيد الذي يمكن أن تحظى فيه بوجبة لذيذة على سبيل المثال.