في روايته الجديدة القصيرة؛ «حالات ريم»، يقدّم «عادل عصمت» تصويرًا موجزًا وجديدًا للحياة متمثلاً في علاقةٍ استثنائية تربط بين بطل العمل «مهاب» وحبيبته/زوجته «ريم» التي تتغيّر حالاتها بشكلٍ غير مبرر بالنسبة له، ويقف هو على الجانب الآخر بعيدًا حائرًا متأملاً تلك الحالات، محاولاً الوصول إلى فهم ذلك التغيّر بغير جدوى!.

يأخذنا الكاتب إلى قصة حياة أبطال روايته منذ منتصف الحكاية، منذ عقدتها تمامًا، عند تلك اللحظة الفاصلة التي يدرك فيها «مُهاب» أن حبيبته ابتعدت عنه، ويبدأ في رحلة سعيه الحثيث لاستردادها بشتى الوسائل، وينتقل بنا من تلك اللحظة المأزومة إلى ذكريات بطله التي يستعيد فيها بداية علاقته وتعلقه بحبيبته كيف كانت، وماذا كانت تمثّل بالنسبة له.

تفتّحت حواسه وشعر بحماسةٍ عندما رقصت «ريم»، أثارت صخبًا وكشفت عن حيويّة جسدها وتناسق تفاصيله. الخصر النحيل مركز الحركة. مركز إطلاق الذبذبات في الهواء، شعرها يدور حولها مثل الأجنحة، وجسدها يبتكر لكلّ نغمةٍ شكلاً، حركة مرتبطة بأخرى، جملة واحدة تتموّج بلا توقف، تترك وهجًا في الهواء. حركات جسدها حيويّة حتّى يخيّل إليه أثرها سوف يبقى في المكان بعد انتهاء الرقص. تغمض عينيها وتدور دورة كاملة. يغطي شعرها الكثيف وجهها. تزيحه بأطراف أصابعها وتوجّه نظرتها إليه … أدرك أنها ترقص له، وبعث هذا في كيانه موجةً من الصحو. حرّكت “ريم” انبهارًا كان يظن أنّه محصّن ضده، بعلاقاته المتنوعة ابتداءً من بنات كليّة الصيدلة والنادي حتى بنات العائلة والجيران.

وعلى الرغم من ذلك الوجود المادي الواقعي لـ«ريم» وحديث البطل عنها، إلا أنّها ولا شك تتجلّى للقارئ مرةً بعد أخرى على هيئة ذلك الحلم البعيد والأمل الغائب الذي يظل يخايل المرء زمنًا طويلاً، ويشعر بأنه امتلكه أو أوشك على امتلاكه وتحقيقه، إلا أن الحياة لا تتركه على حاله، ولا يلبث الحلم أن يغدو سرابًا بعيدًا، لا يمكن الإمساك به ولا العودة إليه، مهما بذل من جهد، واستدعى من وسائل!.

يجيد «عادل عصمت»، كما عرفناه على مدار عددٍ من الروايات السابقة، تمثّل شخصيات رواياته، والتعبير عنهم بطريقته المميزة، التي تكسبهم لحمًا ودمًا فنشعر بحركاتهم وتصرفاتهم كما لو كنّا نشاهدها أمامنا دراميًا. وهو إذ يفعل ذلك يقدّم صورة حيّة لما يجب أن تكون عليه أبطال الرواية، ذلك التمثل الجيد والتقمص للشخصيات لا يتوقف عند أبطال الرواية الأساسيين فحسب، وإنما ينتقل كذلك حتى إلى الأبطال الثانويين الذي يأتي حضورهم مكمّلاً للحالة والموقف، ولكنه يسبغ عليهم الروح والحياة فيبدون واقعيين أيضًا إلى حدٍ بعيد.

نجد ذلك في العبارات البسيطة، والجمل الحوارية الموجزة التي يتحدث بها صديق البطل وشريكه في العمل «فهمي»، الذي يحرص دومًا على أن تسير الأمور بغض النظر عن رغبة صديقه ومزاجه الشخصي، كما نجدها بوضوح في صديقه «شريف الشايب» الذي يعده بحياةٍ أخرى يمكن أن يملأها له بالفتيات كما أراد، ولكنه يرفض ذلك ويفشل في التجربة الوحيدة التي يقرر خوضها.

قضى ليلته في الصيدلية شاردًا، تطارده فكرة الإيذاء التي تكمن في الحب، يقوم لكي يقرأ الروشتات ويحسب أثمان الدواء ويعود ليدخّن وينظر إلى شاشة التلفزيون شاردًا لا يتباع غير أطيافٍ شاحبةِ تختلط بفكره .. فكّر أن يغلق الصيدلية ويذهب ليسهر مع شريف الشايب. لكن رغبته جافّة، تمر كأنها تنزلق على بلاطٍ ناعم لا تترك أثرًا، حسه بالغدر يجفف منابع رغبته. يحاول أن يفهم من أين جاءت الطعنة؟ يشعر بأن “ريم” وجهت إليه نفس الطعنة التي وجهها إليه ضياع الميراث. تصيبه رجفة كأنّه يمشي على أرضٍ تميد، سوف يتوارى في بطنها في أي لحظة!.

يبدو صراع الأفكار أكثر، والدوران بين فكرة الحب وحقيقته والبحث عن جدواه دائرًا في الرواية بشكلٍ عام، ويأتي ذلك باستخدام الحوار تارة، وبالتفاعل مع شخصيات الرواية المختلفة تارةً أخرى، تأخذ كل شخصيةٍ في الرواية موقعها المحدد لها تمامًا، وتسهم كل واحدةٍ منها في خلق تلك الحالة الخاصة التي تلف البطل «مهاب» ولا شك أنها ستنتقل إلى القارئ، حالة البحث بلا جدوى تلك.

ويأتي السرد شاعريًا شفافًا قادرًا على نقل تلك الحالة بتفاصيلها المختلفة، جامعًا ببراعة بين التكثيف وبين الإمداد بالتفاصيل اللازمة لخلق حالة التوتر الإيجابية اللازمة للقارئ والتي تجعله متعايشًا مع تفاصيل الرواية وأزمتها لحظة بلحظة حتى تستوقفه النهاية بمفاجأتها غير المتوقعة رغم ما سبقها من تمهيد.

اقرأ أيضًا: صوت الغراب .. صرخة الانطلاق نحو الحريّة

هكذا تطرح الرواية أسئلة عديدة تتعلق بالحب والكراهية بشكلٍ غير مباشر، كما تتناول علاقات التأثير والتأثر والتغيرات التي تصيب قناعاتنا وأفكارنا بتغير الزمان والمواقف، وإلى أي مدى يمكن أن يتحول المرء ويجرّب أشياء غير معتادة بالنسبة له تبعًا لذلك التغير، وهي الأسئلة التي تأتي عرضًا وفقًا لتقلبات الحياة وما يطرأ على بطل الشخصية من مواقف كان سببها كلها ما يحدث لحبيبته «ريم»، لتتحوّل تلك الحالة الإنسانية الخاصة إلى معادلٍ موضوعي للأفكار التي تطرحها الرواية كلها.

وهكذا يبني «عادل عصمت» لبنةً أخرى، ويضيف إلى أعماله الروائية حلقةً جديدة، تكمل ما بدأه منذ سنوات، وإن كان أبطاله في الروايات السابقة يسعون إلى التخلص من أزماتهم بطرقٍ مختلفة، كما رأينا عند بطل «حياة مستقرة» الذي حاول أن يتغلّب على فوضى عالمه بالحكاية، وكما حاول «يوسف تادرس» أن يتغلّب على مشكلاته بالفن والرسم، في الوقت الذي لم يجد بطل «صوت الغراب» إلا أن يتحوّل بشكلٍ فانتازي إلى «غراب» لكي يصل بصوته واعتراضه إلى الدنيا كلها.

لكنّنا نجد «مُهاب» في هذه الرواية تائهًا حائرًا، لا يملك من أمره شيئًا إلا التأمل وانتظار كيف ستعود إليه أحلامه وآماله بعد أن ضاعت وأوشكت على الانتهاء، يدور باستسلام مكتفيًا برصد «حالات ريم» لاحول له ولا قوة!.

عادل عصمت روائي مصري يقيم في بلدته «طنطا» وفيها يدور عالم رواياته كلها، بدأ كتابة الرواية في التسعينات بروايتيه «هاجس موت» و«الرجل العاري»، حاز على جائزة الدولة التشجيعية عن روايته «أيام النوافذ الزرقاء» عام 2011، كما حصل على جائزة نجيب محفوظ عن روايته «حكايات يوسف تادرس» عام 2016، كما صدر له عن الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «ناس وأماكن» ومجموعة قصصية بعنوان «قصاصات».