سقطت عني شرنقة، أحسست بتمزقها

ولكنني لا أرى شيئا.

رائحة الرماد عابقة حولي، وأتحسس طعمها داخل فمي. هناك شيء كان يحترق، وظل يحترق حتى صار إلى رماد.

ولكنني لا أرى شيئا! أين الرماد؟ أين أنا؟ وما أدراني بطعم الرماد ورائحته؟

من أنا؟ وكيف أتيت إلى هنا؟ ما هنا؟

إنني أشعر بالتجدد. بالبعث. ما هذا الهذر؟

هذر؟!

وكأن بي ذاكرة! أنا أتذكر..

نعم، تذكرت

أنا الذي كنت أحترق!

هل أنا على شجرة نخيل؟ في مصر؟!

عيناي، عيناي تؤلمانني

يبدو لي هنا شيء، شيء يشبه … لا أذكر جيدا، ولكنه يشبه الجدار. نعم إنه حائط، وعليه لكحات خضراء باهتة. وداكنة.

هل ما عليه عفن؟!

وما هذا؟ معدن! حديد؟ فولاذ؟ سجن!

أنا في السجن

أواه! لست في مصر

لقد رجعت إلى زنزانتي، انبعثت من الموت نحو زنزانتي.

وأنا الذي لا يموت إلا ليحيا؟!

هل بعثت لأحيا في زنزانتي من جديد؟!


كتبت في الدفتر:

… ودلفنا إلى السيارة، وأقعدونا، أنا وعبد، في الجزء الخلفي المطل من زجاجه على آخر الصور التي تلتقطها أعيننا: مساء يمزق هدوءه وابلٌ من الأمطار، طريق موحل، جدران لبنية خائرة العزم، وأناس يتحدثون بلغة مبهمة كمصيري الآتي بعد دقائق.

كنت أنظر بوجوم إلى الأمام دون أن أنبس ببنت شفة. وأظن أن تنفسي كان منتظما، لست أذكر جيدا إن كان منتظما حقا، ولكن، بإمكاني الجزم بأنني كنت قد عهدت إلى نفسي ألا أهاب شيئا، وألا يثنيني عن شق الأسلاك الحدودية كرديٌ أو تركيٌ.

مع الوقت، غاب كل شيء خارج السيارة وراء الزجاج المغبش الذي امتلأ بعبق الأنفاس المضطربة واللهاث المرتجف. لم أعد أرى إلا سذاجة عبد المضجرة والتي تجلت حينها، ولم تزل، بتصرفاته العبثية وكلامه الفارغ من كل معنى. فعبد، المجند الفار من الجيش، وكما أخبرني، كل ما يأمله ويتمناه هو أن يشبع عيناه بمشاهدة (همسة)، المرأة التي تشاركنا منزل (أبو جوان)، وهي عارية، ومن ثم مستسلمة لمداعبة كرشه الصغير لثدييها، فهي، كما يخبرني ونحن في طريقنا إلى الحدود، ماجنة، ولا تحتاج إلا لمن يرخي لها حبال التردد التي تطوق عنقها.

«طيب. إن رجعنا أحياء فأرخِ لها ما تريد» قلت له، «أما إذا عبرنا الحدود ووصلنا إلى منزل المهرب التركي، فادخل فورا إلى الحمام وخفف على نفسك من وطأة الشهوة هذه. أنا بحاجة لأن تفكر يا رجل. لن تستطيع التفكير ببرودة واللهيب يستعر من أسفلك!».

حقيقة، لم يعنِ (عبد) الكثير، بل ولم يكن يعلم ما يحدث في هذه الأيام على الحدود اليونانية مع مقدونيا، والإجراءات التي أصبحت أصعب ومقيِّدة أكثر لعبور اللاجئين فوق الأراضي الأوروبية، ولا يدرك كم نحن بحاجة إلى أن نخرج من الوحول السورية، التي تنعجن الآن وتزداد طينا تحت حبال المطر، بأسرع وقت ممكن كي لا تُجمَّد رحلتنا عند بالوعة الأموال، تركيا.

توقفت السيارة في مكان ما. طلبوا منا أن نترجل منها كي نركب سيارة مكشوفة لتسعنا بعد أن ازددنا راكبين.

خرجنا من السيارة وصعدنا الأخرى المكشوفة وجلسنا نحن الثمانية في شكل دائري منضمين إلى بعضنا لنكسب بعض الدفء وكي لا يسقط أحد منا، فالسائق، كما أطلعنا أحد مرافقينا من عصابة التهريب، مخمور ومطفي، ولم يسمح هو لأحد غيره بأن يقود المركبة، ولذلك فما علينا إلا أن نتشبث ببعضنا ونتكل على الله ونصلي في أنفسنا كي نصل بخير إلى الحدود.

بعد دقائق اجتاحني فيها الرعب اجتياح الشهوة لمفاصل عبد، وصلنا إلى الحدود سالمين جسديًّا. ولكن من داخلنا يعلو صوت متواصل لدقات طبول ثنائية سريعة، والعيون حولي، رغم الظلام، كانت مشدوهة ومبهورة، وحين وقع نظري على رفيق سفري، عبد، وجدته قد نزل من السيارة وراح يتثاءب ويمدد أطرافه في الهواء.

نزلنا من السيارة، تقدمنا شاب كردي خفيف الوزن ونحيف، قدماه كأطراف اللقلق. أمرنا أن نتبعه، ومشى أمامنا بخفة القطة.

عندما نزلت من الطريق صوب الأرض الترابية الواسعة الفاصلة بين الدولتين كان المطر قد بدأ يتعب ويهدأ. ولكن كانت الأرض قد ابتلعت من المياه حدا جعلها تقيء ما زاد عن حاجتها. وغطتها الوحول. طين، طين، أغور بقدمي حتى تغلغلتا عميقًا، فصارت الخطوة الواحدة تكلفني جهد الركض مسافة كيلومتر واحد على مساحة جافة.


لست أدري مدى تشتت رأس كاتب نَص حياتي ومدى ارتباكه وعدم قدرته على المضي بسير الأحداث والمواقف التي أملأ غياب أحد الشخصيات الثانوية فيها. للحظات أشعر وكأن كاتبي هذا شخص خرج حديثا من السجن بعد سنين قضاها تحت التعذيب اليومي، أو طرد من مشفى الأمراض العقلية، أو الحسية، بعد عجزهم عن سبر أغواره، وتوصلهم لحقيقة أن ما في كنهه مضمر لا تغويه للنطق قطعة خبز، ولا حبة زيتون، ولا حتى لفافة تبغ مشتعلة يطفئونها بين إليتيه.

لا أعلم، قد أشعر، كم من الأوراق تُمزق وتُرمى في حاوية المنطق القابعة أمامه تحت وطأة (زبالة) الخيال.

هذا الضائع الذي يكتبني وما يدور في فلكي، لن يصل بي يوما إلى (هناك) البعيدة. وإن حصل ووصل، فسأرجم شرفة أفكاره الفرنسية بسنابل من الأثداء العجائزية التي تنبز من بين تجاعيدها شعيرات قاسية تذكره بي وبرائحة الزمن الجميل.

أما بعد، فقد شاء المدوِّن أن يشلعني، أنا البطل، من تربتي الخصبة الملوَّنة بمشمش الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ليقذفني إلى صحراء الشمال القاسية. قذفني بعد أن استطاع اقتفاء الأثر الموحل لأحلام اليقظة التي كانت تعبر خلسة حواجز عسكره ونقاط التفتيش العقلانية المأمورة منه، فتهجع إلى خلدي لترسمني على متراس خيالي وأنا أمر بالدول الأوروبية دولة دولة وصولا إلى ألمانيا.

إن السبيل المفضي إلى (برلين) يبدأ من (الحسكة).

مرحبا بي في (عامودا) الكردية!

أنزلني كاتبي المعذب والممزق الذات والذاكرة، ضيفا على المهرب الكردي المدعو (أبو جوان) كي يحملني ذلك الأخير إلى تركيا بطريقة ما. كان في انتظاري في منزل المهرب شاب شامي فار من الخدمة العسكرية يُدعى (عبد)، وقد صار في رصيد عبد أكثر من أربع محاولات، على مدى عشرة أيام، باءت جميعها بالفشل، إلى أن حللت أنا، فكنت مؤنسا لوحدة عبد الطويلة أكثر مما كنت عابر سبيل ارتأى كاتبه أن يمنحه قليلا من الوقت داخل منزل قروي يوفر أساسيات المعيشة من غذاء، ومأوى أثوي فيه حتى مجيء لحظة الصعود إلى تركيا.

أخبرني المهرب أن أطول مدة قضاها الزبون في منزله لم تتجاوز خمسة أيام كحد أقصى. وأنا دخلت بيومي العاشر. فإذًا، طالت مدة مكوثي هنا، وباتت الرواية التي صدفة أصبحت بطلها تضجرني.

«إلى متى؟» تمتمت في نفسي محاولا التملص من قيد الريشة الذي يخط أحدهم بواسطتها حياتي، فتردد في جوف رأس، قد يكون رأسي، صدى إجابة غائمة بعض الشيء فهمت منها أن الحبكة الثانية المتعلقة بالضابط التركي المعني بفتح الحدود لنا لدقائق، والمشهد المرسوم لعملية دخولنا الآمن للأراضي التركية، لم يكتملا بعد، وحتى اللحظة، لم يجد المؤلف فتوى لتشابك الأحداث وتعقدها، وبالتالي، لا فكاك من الانتظار.

وعلى جهتي، راح كاتبي يجول في أزقة اللاجدوى تاركا إياي أهوي على فراش المرض الذي يعبق برائحة العفونة داخل غرفة ملء مساحتها الكبيرة زمهرير الليل الموجع والمنتصب على أرض غير سوية تفرشها صخور وكتل حجرية ملساء السطح شوهت عظام ظهري وأكلت من مفاصلي.

ولطالما سار الوقت ببطء ممل.

فبعد أن طال كثيرا موعد غياب الشمس، مثل كل يوم، طاب للمساء أخيرا أن يسدل ذيوله علينا ومن ثم يحتوينا. وفي هذه الأثناء تكرر مشهد خبيث كان قد ألفه ومثله أبو جوان وأخرجه إلينا مرة من قبل.

لم يختلف مشهد اليوم عن سابقه إلا بموقع أبو جوان من على خشبة المسرح الكردي الذي نتقنع فيه جميعنا ونهذي، فخارج مسرحنا المورد هذا، ومثل المرة السابقة، كان يملأ الفضاء صوت ارتطام رتيب ومتتابع لحبات المطر، وكان المساء يكتنز في جوفه لسعات من البرد لا يخرجها إلا غفلة. أما الريح، التي اعتدنا مجونها وطيشها، فكانت هي من كسر التطابق التام بين المشهدين حينما همدت ولانت تدريجيا حتى تلاشت فلملمتها نسمات رائقة راحت تعبث بخلخال أم جوان وشال رأسها الخفيف.

وبين جدران المسرح من الداخل، كنا ثلاثتنا، أنا وعبد والمهرب، نشرب الشاي وندخن السجائر مثل المرة السابقة.

كان أبو جوان، المهرب المضيف، يحاول أن يطيل من مدة خداعنا ريثما يصل المهرب الآخر من خلال تمريره للوقت بين كلماته الممازحة لأم جوان، تلك الكردية العظيمة، والتي لا تجلس طوال النهار والليل إلا لتفتش في هاتف زوجها العربيد عن محادثاته مع نساء المدن اللاتي يستدرجهن ليضاجعهن قبل أن يرميهن خلف سكة الحديد التركية ليكملوا وحدهن الطريق.


تنويه:

العشرة أيام التي قضاها عبد عند المهرب قبل أن آتي كانت كافية ليكسب فيها صحبة أبو جوان وصداقته، وبالتالي ليكسب (أسراره). هذه الكلمة التي شكلت عنوانا لأفعال هذا الرجل والتي من ضمنها ما يسلكه مع النساء تلكنّ. وكان موقعي، وكذلك عبد، من المعادلة الحاصرة لكفتين، كفة المهرب وكفة الهارب، كافية لتكسبني الأمان الذي احتاجه عبد ليبوح لي بكل ما كتب وقيل تحت عنوان: «أسرار أبو جوان عند عبد».

«أم جوان مافي منها، لولاها كنا صرنا بالزبل» قال أبو جوان بالعربية. فابتسمت زوجته بتعالٍ ونظرت مباشرة في عينيه نظرة ألبكته، فتضرج محياه بحمرة وشت بنفوذها وقوتها وبوضاعته أمامها.

بعد لحظات، رافق اشتداد المطر وهدير الريح المفاجئ دوي قرع باب المنزل الحديدي. قفز أبو جوان من على كرسيه وراح ليفتح الباب. نظرت إلى عبد فوجدته ينظر إلي. بدأنا نسمع هرج وأصوات كردية تتعالى على بعضها بلا فواصل إصغاء. بعد ثوان رجع إلينا أبو جوان يتبعه رجل مربوع ونحيل وحاجباه ملتصقان ببعضهما. شكله يبعث على الخشية والحذر منه.

«يلّا يلّا.. بسرعة» صاح بنا الرجل لنجهز أنفسنا كي نرحل.

أبو جوان درس تفاصيل المشهدين، مشهد اليوم ومشهد قبل البارحة، بحرفية عالية جعلت منه يكسب تصفيق ورضى الجزء الخائف من جمهور شخصيتنا، أنا وعبد، على الفور. ولكن المهربين، على خبثهم، وعلى تفوقهم علينا من حيث وجودنا ضمن مسرحهم وموقعنا بين نصوصهم، إلا أن إيماءاتهم كأي إيماءات، وردات فعلهم لا تختلف عن ردات الفعل المعروفة واللاشعورية. وبالتالي، ستكون الطريقة الوحيدة المجدية لفهم ما سيفعلونه بنا هي بمراقبة سلوكهم الطبيعي وما يبدر منه من تصرفات غير محاكَمة تعطينا جزءًا صغيرًا مفهومًا فننسج من خلاله توقعًا بما سيحدث.

وقف أبو جوان في وجه الرجل مانعا إياه، كما يحاول أداء دوره، من أن يأخذنا إلى طريق التهريب الخطير ذاك، فهو يريد أن نبقى على فكرة شراء طريق عبور آمن من الضابط التركي، ولكن الرجل لم يقتنع بهذا وأصر على أن نرافقه.

عشرون أو ثلاثون ثانية كانت المدة التي حددها أبو جوان لمشهده الدرامي هذا.

وبعد أن انتهى المشهد، صرخ بنا المهرب المربوع لنتحرك.

نفس المكان الذي ذهبنا إليه في المرة السابقة. ولكن اليوم لم تكن الأرض بذات السوء الذي كانت عليه منذ يومين، فلم يكتمل شرط نمو الوحول بعد، ولم يجمع فيما بينها عصب يشدنا إلى العمق، إلا أن الأرض كانت رطبة، وعوض غياب الطين المؤقت ظهور أطراف الرياح القوية والصافقة لكل جسم يقف في وجه هديرها، فراحت تدفعنا بكل ما فيها من عزم من جهة اليسار حتى أصبحنا نجنح في مسيرنا وركوضنا نحو اليمين. وبعد أن وصلنا إلى السلك الفاصل بين الدولتين وتجاوزناه، جلسنا على سفح تل صغير تخدده من الأعلى سكة قطار حديدية، وكنا في انتظار إشارة الانطلاق من الكردي ذاك. ولكن، ومن حسن حظي، لفحت الريح وجه طفل رضيع كانت تحمله أمه، فصار يبكي بصوت عال، وحاولت أمه إسكاته ولكن دون جدوى. وهذا البكاء سينجدنا ويرجعنا إلى منزل أبو جوان سالمين.


«أبو جوان يحاول التخلص منا بأسرع طريقة» همس عبد في أذني بعد أن وضع رأسه على الوسادة.

– لماذا؟

– لأننا منذ أسبوع لم نعد وحدنا. ألا يبادرك شيء بخصوص ما ينوي أبو جوان على فعله مع همسة وسليمى؟

– آه، إذًا أنت تقصد أنه يريد التخلص منك.

– منا نحن الاثنين. أنا وأنت بالهوا سوا. هو لا يقول أن عبد من يحاول أخذ همسة منه، وإنما «الشباب يريدان أخذها».

– ممكن.

لم أعط لعبد الاهتمام الذي كان يأمله مني، أو هذا ما أرادني الكاتب أن أقوله له، (ممكن). ولكن بكل الأحوال، فإن هاتين، المرأة والفتاة، أصبحتا في مقام الصديقتين، بالنسبة لي على الأقل، أو لنقل أن مصيرنا اليوم واحد، ولن يستثنينا الكاتب، أنا وعبد، مما سيحل بهن، إذا ما حل شيء فعلا. وأبو جوان لا يرغب منا بأن نظهر بمظهر الأبطال، لأننا داخل متاهته وبين جدرانه، ونحن بالمقابل، لن يمكننا فعل شيء بطولي إذا ما وقعت الواقعة.

أتمنى أن ييأسا ويرجعا إلى الشام قبلنا. هذا أفضل ما أستطيعه وأنا في حضرة الأشرار.

«هناك شيء آخر» قال عبد. فبرمت رأسي ونظرت إليه. «اليوم صباحا وصلتني حوالة مالية من أهلي، حوالي الخمسين ألف ليرة، وأعطيتها لأبو جوان فوق مبلغ الـ 800 دولار لكي يخرجني من طريق الضابط الآمن».

– حلو، ولذلك ذهبوا بنا اليوم من طريق التهريب!

أطبق فمه ورفع حاجباه وكأنه يقول لي أن ما بيده حيلة، وفسرتها بأن هذا الفارّ أضعف من أن يواجه أبو جوان ويصرخ في وجهه: «أعد إلي أموالي». ثم أدار لي ظهره ونام.

بقيت بعد هذا الكلام مستيقظا. لم أستطع النوم إلى أن لمحت ظل أم جوان يلقي بنفسه متحركا على زجاج باب الغرفة، عندها أدركت أن الشمس قد تموضعت في مكانها، والنور تمدد على أرض الدار، وامرأة المهرِّب أفاقت وبدأت عملها في البيت.


كنت قد دوّنت في هذه الليلة في دفتري تحت عنوان (تنويه مضاف):

«أبو جوان مهرِّب بَشَر. وفي النهاية هو من الأشخاص غير السويين، وغير الطبيعيين.

لا، بل هو شرير.

واستطاع عبد، طيلة الفترة التي كنا فيها سوية، أن يُفصِّل قناعا سميكا على مقاس وجهه ليقابل فيه خبث أبو جوان وتحكم الأخير بمصيرنا؛ قناعا «زهراويًّا»، ضحوكا، مبتذلا وجبانا. ولكن أنا لم أستطع فعل ذلك. هناك شيء يستفزني ويجعلني أتهكم في وجه ذاك الرجل. وبالمقابل، ليس من مصلحتي أن أثير في نفسه الكره والحنق مني وتجاهي، فأنا أعرج في مدى رصاصته، ومن السهل عليه، بل ومن أبسط ما يقدر على فعله، أن يقتلني!

هل من الممكن أن يقتلني؟!

لا لا، حتى أبو جوان أضعف من أن يفعل شيئًا كقتلي. نعم، قد يغتصب، يكذب، يخدع، يتاجر بنا، ولكن الشرير شخص ضعيف الثقة بذاته، ولو لم يكن ضعيفًا لما صار شريرًا.

أشعر بأنني أهذي.

ولكنني، أظن أنني قد أشك أيضا باعتقادي عن الذات الشريرة. هل حقا الشرير ضعيف؟ لست أدري..

علي أي حال، لم يؤرقني احتمال تعرض أبو جوان لهمسة، الماجنة، بقدر ما صدمني هذا الأحمق بأنه أعطاه مبلغًا كبيرًا مضافًا إلى الثمن المعروف الذي يطلبه مهربو هذه المنطقة، 800 دولار.

هذه المرة الثانية التي نرسَل فيها محشورين فوق بعضنا إلى ذاك الطريق الخطر الذي يطوقه، في هذه الأيام تحديدا، الجنود الأتراك من كافة الجوانب.

في المرة الأولى لمحت في البعيد مصابيح المصفحة التركية، كانت بانتظارنا، كان حرس الحدود ينتظرنا. ولو لم أخبر الكردي الذي كان يرافقنا أننا مراقبون وفي مرمى نظر الجنود لكان أكمل بنا الطريق وجعلنا نتجاوز الأسلاك الأولى الفاصلة بين الدولتين والتي إذا ما تجاورناها صارت عودة أدراجنا استحالة، وبالتالي نكون قد علقنا بين الأسلاك الشائكة من خلفنا وأصبحنا لقمة سائغة للجنود الأتراك أمامنا.

وفي المرة الثانية، حينما لفحت الرياح وجه الطفل، كان هناك ثلاثة حراس لا يبعد محرسهم عنا الكثير، فكان إفشال المحاولة والرجوع إلى أبو جوان أرحم.

ولكن، لما يتصرف أبو جوان هكذا؟ هل حقا يريد التخلص منا بسرعة؟ ولماذا لا يدعنا ننتظر في منزله إلى أن يجد الكاتب حلا لتعقد الحبكة التي يحتكر محورها الضابط التركي؟ وعندها ندخل إلى تركيا بيسر وأمان!

هل هذا يعني أنه سيفعل بهمسة شيئا؟!

ولكن ما علاقتي أنا الآخر؟ إلى الجحيم. ليفعلوا ببعضهم ما يشاءون، بل ما يشاؤه أولئك الذين يرتبون سير أحداثهم؛ جميعهم أدوار، ممثلون، أشخاص، شخصيات تحركها أهواء من يكتبها. لا علاقة لهم بأحاسيسهم ولا بتفكيرهم ولا بأفعالهم. فإن طاب لكاتب حياة أبو جوان أن يضع في أحد المشاهد همسة في حضنه سيفعل، وإن خطر لكاتب سيرة همسة أن يوقظها ليلة اليوم أو الغد ويحملها بنفسه إلى غرفة (العربدة) الصغيرة في هذا المنزل فسيحملها، شئت أم أبيت. وسيكون الاغتصاب جهارة، وعلى الملأ، ولتسمع كل الشخصيات تأوهات همسة أو صراخها، ففي النهاية، لأم جوان وأطفالها الستة كتابهم ومدونو حياتهم أيضا، وإن رغب أولئك الكُتَّاب بأن تسمع الأصوات من غرفة العربدة فسيسمعونها، وإن قُلِب منزل أبو جوان رأسًا على عقب فبمشيئة الكاتب، وإن شاء أن يوسم أم جوان بوسم المطلقة فسيفعل، لا قلق من شيء، بشرفي. الكلمة الأولى والأخيرة للكاتب.

سأنام»


قبل موعد طائرتي المتوجهة إلى دمشق بيومين، والتي سأجلس بجوفها برفقة هزيمتي ويأسي، صورني ضابط الدورية التركي بجهازه بعد أن أشبعني هو وعناصره ضربًا.

لم تمنع المياه الساخنة التي كانت تسكبها أمي من الإبريق على ظهري عندما كانت تحممني أول ما وصلت، من أن أشعر بحبات دموعها التي تساقطت من عينيها فجأة.

«شو القصة؟!» سألتها فسمعت تمتمتها: «الله يكسر إيديهن ولاد الحرام».

كتبت في الدفتر:

«ظهري مرتع الكدمات وموضعها. تلال زرقاء هادئة اللون، وأخرى قرمزية غائمة اللمع، تطفو على جسدي الواهن وتلونه. شقوق في باطن كفي سدها تخثر الدماء وأوقف نزيفها الذي كان سيلا جراء دفع العساكر بأرجلهم من الخلف على ظهري أثناء تمزقي بين الأسلاك الحادة. ألم في رأسي وارتجاج خفيف فيه لم يبدده إلى اليوم دواء. وعطب في فخذي أقعدني أسبوعا في منزلي.

لم أزُر العلقة التي تتغذى على دماء الآخرين، كما يقول تشيخوف، المدعوَّة بالطبيب، بسبب عدم قدرتي على التحرك، أو لأنني أكره الأطباء. ولن يخرج أي طبيب من حجره ليزورني تلبية للبروتوكول المستحدث والذي يجرم الطبيب وينزع منه لقب (الدكتور) بتهمة معالجة أعداء الوطن ومداواة الارهابيين إذا ما توجَّه ومعه حقيبته إلى أحد البيوت. (ولمبتكر هذه البدعة جانب غريب من شخصيته يضاهي فيه كل التشتت والضياع واللانتيجة التي يسري في أزقتها وحواريها ليلا، كاتبي، واجم الوجه مرتجف اليدين)

ولكن، رغم كل هذا، كان في جوهر رحلتي، التي انتهت قبل أن تبدأ، أشياء هزت جمود اعتقاداتي، وأضرمت نارا في هشيم ذاتي.

أحيت الرحلة في داخلي جثة مؤلف الأحداث المعذب والمريض حسيا، ذاك الذي توفي مذ بلغت الخامسة عشر من عمري. وعبأت دواته حبرا قاتما فزادت من خطه حدة وأثرا. ووسعت المداد الذي تدون على بياضه وقائعي، وما يضبط من أحلامي.

أشعرني عجزي عن اختراق المحصنات بأن كُتَّاب الحيوات ومُدوِني أحداثها، التي من الممكن أن تتلاقى وتتضارب أشخاصها ببعضها يوما، لا يلتقون سوية، وإن التقوا بمكان ما، فإنهم يظلون واقفين وواجمين في الفراغ لا يتكلمون، ولا يكترثون ببعضهم، وكأنهم غير مجتمعين، أو أن كل كاتب منهم يعتقد أنه يقف وحيدا. وكأنهم أشباح. أو أطياف من الغياب. وكأنهم أجساد خيالية بلا ملامح.

الشخصيات التي شاركتها أحداثها لمدة ١٤ يوما، في الصحراء، كانوا بمعظمهم أبطالا، اختلفوا بالشكل، ولكن كان يغمرني ويغمرهم ذات الطيف الغيابي المنبعث من الكاتبين.

كان يكبل مهجع أحلامنا، ولم يزل، نطاق من الخوف والريبة يشبه حبال التردد التي طوق بها كاتب حياة همسة عنقها، ومن ثم.. على فكرة.. استطاع كاتب أحداث أبو جوان أن يرخي تلك الحبال ويفكها ويُخرج «عبد» خاليَ الوفاض من حكاية المجون هذه!


لن يتذكر أحد كاتبي إلا تلك الكاميرا التي التقطت بريق عينيه وشحوب وجهه وشعر رأسه الرطب. ولن ينسيها معالمه إلا إعادة ضبط بسيط للجهاز، فتفقد من بعده ذاكرتها.

الصحراء، رغم أنها نخرت بسمومها عظامه، ولكنها ستنساه.

الطين لن يتذكره، ولا الأسلاك، ولا ديك الحبش الأبله في منزل الكردي.

لا جدران اللبن ستذكر اسمه في نحيبها حينما تتهالك، ولا الأمطار الساقطة.

لا حياة في الأشياء لتذكره، ولا في الأشياء ذاكرة.

لا حياة هنا للذاكرة.

وما (هنا) من دون ذاكرة؟

قلت: “ها السجين عاد إلى كنف زنزانته. فطوبى لمن عاد” ألا بكنف الزنازن أمان؟

“ولتأت الحرية إلي إن كان من حقي أن أحوزها.” فهل من يائس يجاريني؟

وإن كان الوصول للحرية يحتاج الصبر، وتكلل دربها الصعاب، والكدمات، فالوصول إلى نير الظلم أهون علي، وأهدأ لنفسي، ولتحطيمه لذة تذوي معها في مهدها نشوة أسر الحرية بين يدي.

فألا يكفي أصبعي الأوسط، بعصتي، لسد فوهة رشاش؟ أو ليعبر عن حنقي وغضبي؟

رجعت إلى ما كان دفئا أشتهيه يوم كنت أخط درب حريتي البارد، منزلي، فطوبى لمن عاد إلى الدفء وإلى الجدران المتآكلة المضرجة بخضرة العفن، هذه التي تحاول بإظهار عفنها النطق، والصراخ، والألم.

ها السجين عاد إلى كنف زنزانته، فطوبى لمن عاد).


تحركا أيها الجناحان

اضربا ببعضكما واشتعلا نارا، استعري أيتها النار، اغضبي، زيدي من لهيبك.

زيدي في شراهتك أيتها النار.

تجمعي يا أوراق النخيل في كفنا.

فها عنقاؤك ذوت،

كي تعود فتحيا.

ولو بعد مئات السنين.