كنا قد طرحنا بعض الشكوك في المقال قبل السابق، وقررنا بعض القواعد في المقال السابق. وفي هذا المقال نطبق هذه القواعد السابقة على شكوكنا التي طرحناها.

إننا نرغب في أن نميز بين الأخبار الكاذبة التي نتعرض لها يوميًا وبين الصادق منها، فإنه لا يكفي أن ننظر إلى الناقل وحسب، فقد بان أن عملية النقل تؤثر فيها أمور أخر سوى صدق الناقل، كالأوهام الجماعية والعادات والشائعات، فما الذي يضمن لنا أن النقولات الجماعية التي تناقلتها الأمم ليست من قبيل الأساطير الشعبية أو الأوهام الجماعية؟

وفيما يلي سنسير رويدًا رويدًا في الأمثلة التي أوردناها تشكيكًا، ونطبق عليها قواعدنا، لنعلم أن وجود الكاذب لا يقدح في صحة الصحيح، وأن قبولنا للصحيح من الأخبار لا يعني رضانا بكل أنواع الأخبار، غاية ما في الأمر أننا نحتاج للتثبت والتوثق في كل خطوة نخطوها، وهذا هو الفارق بين الدين كما أفهمه كعلم، وبين التدين الشعبي العاطفي الذي يجعل الدين يبدو في أنظار البعض كأساطير الأولين.


1. بين الأسطورة والتواتر

كان أول التشكيكات هو كيف نفرق بين المعلومات المتناقلة عبر الأجيال –كعدد ركعات الصلاة- وبين الأساطير التي صنعها الخيال الشعبي كـ«علي الزئبق» و«الشاطر حسن»؟

ومنشأ هذا التشكيك هو أن الأساطير تشترك مع سائر الأخبار المنقولة في أنهما «أخبار منقولة»، ولكن ليس كل ما اشترك في شيء بمساوٍ لما اشترك معه!

فالأسطورة هي كائن زئبقي إن حاولت تتبع أصوله لم تجد له أبًا ولا جدًا، إنها تنتهي إلى اللاشيء، يأخذك الآباء لرواية الأجداد، ويخبرك الأجداد أنهم سمعوها في أسمار الليل، فإن تتبعت سُمارهم وجدت الأسطورة تولد من جديد عند كل راوٍ بمقدار ما تسمح به مخيلته وحافظته من الإضافة والزيادة، لذا تجد بعض القصائد الشعبية تبلغ آلاف الأبيات، إنها نسيج من صنع الناس عبر السنوات، تمتد في الزمان لتتلاشى في فضاء الماضي.

في حين أن الأخبار المتواترة التي نتحدث عنها –وهي التي نقلها الكثير عن الكثير- تستطيع تتبع خيوطًا منها بوضوح ، فكثرة خيوطها تمنعك من إحصائها كعدد الخيوط في ثوب، ولكنك إن أمسكت بخيط منها تماهى معك إلى غايته فتعرف مبتدأه ومنتهاه.

إذًا فشرط التواتر الذي نقبله أن يكون متصلًا بصورته في كل جيل، وأن تنحل كل خيوطه لسلسلة موصولة (نعبر عنها بالسند).

أستطيع أن أجزم لك أن أبي، الذي أخبرني –وغيره- بعدد ركعات الظهر، وأخبره أبوه –وغيره- بذلك بلا زيادة ولا نقصان، وجدي أخبره أستاذه –وغيره- كلهم، أجزم أنك لو تتبعت خط سير معلوماته لوجدتها كما هي من غير زيادة ولا نقصان في كل جيل حتى تنتهي إلى المصدر الأول عليه الصلاة والسلام، فكثرتهم أكدت المنقول، ولم تغير من حقيقته عبر العصور.


2. بين الخبر والرأي

أما تشكيكنا في تلك الحقائق التي يطالعنا بها المؤرخون بين الحين والآخر، فتخالف المشهور المستقر عندنا سابقًا، وتجدد أحكامنا على التاريخ، فغاية الأمر أننا نخلط بين الخبر والرأي!

فأيًا كان موقفك من «سعد زغلول» –مثلًا- وهل هو متعاون مع الإنجليز أم وطني يدافع عن قضية وطنه، فهل تشك في وجوده وأنه عاش بيننا؟

هذا هو الفرق بين حكمنا على الشيء وخبرنا عن الشيء (راجع القاعدة رقم 2)، فالناقل ينقل لك الوقائع كما هي التي شاهدها أو سمعها، أي تنتهي إلى الحس (راجع القاعدة رقم 1)، وأنت الذي تحكم وتقرر أهذه خيانة أم وطنية بناء على مفاهيمك عن السياسة وعن الوطنية.

وهذا الإشكال شديد الحساسية لدى الكثير، إذ يخلط معظم الناس بين الأحكام على الوقائع وبين الخبر عن الوقائع، فإن تجددت لهم معرفة بوقائع إضافية تُغير من حكمهم تشككوا في الوقائع السابقة التي شاهدوها.

ليس كل منقول مشكوك فيه، بل قد يكون تفسيرنا لبعض المنقول هو المشكوك فيه، إنه الفرق بين الاجتهاد والثبوت!

ولنضرب مثالًا لما نقول يزيده بيانًا:

لو حضرت مؤتمرًا لأحد سفراء دولة أجنبية فوجدت أحد المسؤولين من بلدك يتعرض له بالإهانة، ثم تطور الأمر من الدولة صاحبة السفير بأن سحبت سفيرها ثم نشأ صراعًا سياسيًا بين البلدين وبدأت وتيرة الاتهامات تتزايد بسبب هذا الموقف، وتطور الأمر لأن نشبت حرب عسكرية بين البلدين وتقاتلت الجيوش.

إنك تحكم أن هذه الحرب بسبب إهانة السفير، فإن مضت الأيام وتبدلت الحكومات وظهرت الوثائق والدلائل، لتكتشف أن الصراع بين البلدين كان في حقيقته صراعًا على البترول –مثلًا- وأن موقف إهانة السفير هو فقط الستار الذي اتخذته الدولة الأخرى ذريعة لحربها، فهل تنكر الحرب أم تنكر ما شاهدت من واقعة إهانة السفير؟

إن الذي تغير هو حكمك وتفسيرك للحدث لا الحدث نفسه. هذا هو الفارق بين إعادة قراءة التاريخ، وبين التشكك في كل وقائع التاريخ الضخمة الحاصلة بالفعل. إذًا فليس كل منقول مشكوك فيه، بل قد يكون تفسيرنا لبعض المنقول هو المشكوك فيه، إنه الفرق بين الاجتهاد والثبوت!

الأمر بعينه في قضية الأديان، فإننا لا نحتج على الأمم الأخرى بأن الإسلام دين صحيح لأننا مسلمون أو لأننا أخبرنا عن صدق سيدنا محمد، إذ صدق الدين من عدمه قضية عقلية تقوم عليها براهين العقول ولا يصح أن يتمسك فيها أحد على غيره بالتقليد، فحكم كل أمة على دينها بأنه الصواب يبقى كحكم يخضع لقوانين النظر والعقل، ولا مدخل للخبر والنقل في الحكم عليه بالصحة، نعم إن ثبتت صحته افتقرنا للنقل للوقوف على ما جاء به نبي هذه الأمة الذي لم ندركه ولم نسمعه، ففائدة الخبر كما قدمنا هي نقل المعارف لا إثباتها.


3. شروط النقل

لا يصدق عاقل كل خبر منقول بلا شروط ولا قيود، ومن الشروط التي وضعها المحدثون قديمًا للتوثق من المنقولات: «ألا يمكن في العادة أن يتفقوا على الكذب؟»، إننا أمام شرط لا يغفل عن السنن الاجتماعية في سلوك البشر وتأثيرها على أحاديثهم، فالأخبار التي يدخلها مبالغات –لأن العادة تقتضي هذا- وقف منها المحدثون موقفًا متشككًا بل ورافضًا أحيانا، ومن هذا الباب أخبار الملوك والدول التي تدخلها المبالغات والتهويلات.

الأمر الذي حمل «ابن خلدون» على وضع وسائل أخرى للتوثق من أرقام الجيوش وحسابات خزائن الأموال في تلك العصور، وهو قياس نسبة ما كان للدولة من عمران وأحوال، إلى نسبة أموالها وخراجها وعدد جيوشها، وذلك أمر خارج عما نحن فيه الآن.

فالمقصود أن مثال الكاميرا الخفية الذي حكيناه وكانت خلاصته أن رجلًا يجد طائفة تجري خائفة في مقابلته، فيجري معهم مقلدًا لهم، فهنا قد وثق في خبرهم الضمني بأن ثمة ما ينبغي أن يُخاف منه.

والحقيقة أن مثل هذا الموقف هو مما يخرج عن هذا الشرط الذي ذكرناه وهو (عدم إمكان أن يتفقوا عن الكذب) إذ أن هذه الطائفة التي جاءت من جهة واحدة تجري تجاهك، هي طائفة يمكن بسهولة أن تتفق فيما بينها على الكذب، وكذا الأمر في أي خبر ينتهي إلى جماعة محصورة العدد.

والأمر نفسه الذي وقع في الأسطورة الشعبية هو الذي وقع في تجربة العيادة الذي ذكرناه في المقال الأول، حيث يستمر الرجل في القيام بعد خروج الممثلين وينقل هذه العادة للضيوف الجدد، فإن تتبعنا منشأ الأمر عندهم وجدته ينتهي لطائفة محصورة توافقت على الأمر واتفقت.

وكذا الأمر في الشائعات، فإنها تنطلق وتنتشر فإن تتبعت أصلها فإنه ينتهي عادة إلى طائفة محصورة يمكن تواطؤهم على الكذب، أو حتى ينتهي لشخص واحد يكون هو الذي صنعها وأطلقها ونشرها (راجع القاعدة 6).

فنحن لا نقبل تلك الأخبار المرسلة أو الشائعة بدون أن نعرف لحظة ميلادها ونشاهد خيوطها وننظر في ملابسات نقلها، فليست الكثرة وحدها ولا الصدق وحده يكفيان في قبول كل منقول.


4. بين الوهم والحس

لا ندعي أن حواسنا تعمل في معزل عن مشاعرنا وحالتنا النفسية بل والبدنية؛ فالإنسان في حالات الإرهاق –مثلًا- يتوهم أشياء لا وجود لها، وقصة الشبح الذي يجري إلى جوار السائق في بعض الطرق الصحراوية يعرفها من داوم السفر ليلًا، ويفسرها الأطباء بأنها نتيجة الإرهاق مع الظلال والظلام فيتوهم الإنسان بعض الخيالات، بل في حالات الغضب الشديد ربما تتوهم سماعك لبعض الكلمات من خصمك.

ولا نطيل في شرح حالات تقع بالفعل تؤثر على حواسنا فنتوهم ما ليس بموجود. فللحس شروط لصحة عمله، من حيث الضوء والوسط والحالة النفسية والبدنية (راجع قاعدة 3).

فرؤيتك للأشياء لا نعول عليها كثيرًا إلا إن كانت في سياق ملائم، لذا نقف موقف التشكك في حكايات بعض ضحايا الحروب والمجازر في بعض التفاصيل التي قد ينقلونها في حالة الهلع التي أصابتهم، فهو قد يتوهم أن عدد الجنود الذين دخلوا منزله –مثلًا- وقتلوا أهله عشرات، في حين تكون الحقيقة أنهم ثلاثة، ولكن حالة الهلع جعلته يتصور الأمور على غير حقيقتها.

أيضًا رواية الغطاسين لما يشاهدونه أو يسمعونه تحت الماء حيث يكون للأكسجين وقلته دخل في حصول الهلاوس، فضلًا عن أن وسط الماء وسط غير ملائم لصحة الإبصار التام لنا كبشر. ولكن يبقى الكلام في حال خلو الوسط من العوارض، وسلامة الحواس والبدن من الآفات، إن الأصل حينها هو أنك تثق في حواسك وتعتمد عليها بيقين!

لذا وقف المحدثون موقفًا دقيقًا من أحوال الحديث وكيف حدّث الراوي به وكيف سمع الكلام، وفي أي عمر كان، فلاحظوا أحوال الخرف والشيخوخة، ولاحظوا أحوال الزحام والتكدس، وغيرها من عوارض الحال، فلما يكتفوا بالنظر لصدق الراوي، حتى نظروا في الأحوال المصاحبة لحديثه استماعًا وإسماعًا.


5. بين تبدل الحقائق والإخبار عن الحسيات

تنطلق الشائعات وتنتشر، ثم إن تتبعنا أصلها فإنه ينتهي عادة إلى طائفة محصورة يمكن تواطؤهم على الكذب، أو حتى ينتهي لشخص واحد يكون هو الذي صنعها وأطلقها ونشرها.

لو قابلت متسولًا بثياب بالية فتصدقت عليه، فلما تركك أخبرك صديقك أن هذا المتسول المتنكر كان هو صديقك فلان الثري، إنك لا تشك في الواقعة الحسية التي وقعت، ولكنك تغير من حكمك على حقيقة هذا المتسول، والأصل في حياتنا أن الحقائق المُشاهدة ثابتة على حقيقتها، فلا شيء يدعو مديرك في العمل إلى أن يتنكر لك في ثياب امرأة تقابلك في الشارع.

ولكن تبدل الأشكال والمظاهر جائز إن وُجِد الداعي لذلك، ومن الدواعي التي نؤمن بها كمسلمين، هو خرق العادة المعبر عنه بالمعجزات في زمان الأنبياء، إذ زمن الأنبياء زمن خرق للعادات، يخلق الله على أيديهم أمورًا خارقة للعادة كدليل على صدقهم.

ومن هذا الباب ما نؤمن به –كمسلمين- في قصة سيدنا عيسى عليه السلام، فنحن لا نتشكك في الواقعة الحسية التي تناقلها الكثير من رؤية المسيح عليه السلام مصلوبًا، ولكننا نؤمن أن الله خرق له العادة وأُلقى الشبه على غيره حتى ظنوه هو وليس هو.

إن الخارق للعادة هنا هو مطابقة الشكل للشكل، لا تبدل الحقائق، وهذا الأمر من باب المعجزة عرفناه من القرآن الكريم، فالقرآن لم ينكر الواقعة الحسية التي هي الصلب، ولكنه أخبرنا عن أن ثمة حقيقة أخرى كانت وراء هذا البدن المصلوب، وإيماننا بهذا الخبر هو فرع من إيماننا بصدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكل من لم يؤمن بنبوته –من أهل اليهودية أو المسيحية- له أن يظل متمسكًا بما شاهده أجداده من صلب المسيح عليه السلام، أما المسلمون فصح عندهم الخبر بحصول المعجزة وتبدل الأشكال، والزمان زمان معجزات.

وإذا انتهينا إلى حكاية المعجزات فإن هذا يفتح بابًا جديدًا من السؤال عن ماهية الأخبار المنقولة وموضوعها، فهل إن صحّ حال الناقل، وانتفت أحوال الوهم عن عملية النقل، هل نصدق المنقول أيًا كان؟ أم أن لنا نظر أيضًا في كُنه الخبر ومعناه وحقيقته؟ وهذا مقالنا القادم بإذن الله.