الحكم لا ينتقل من النقيض إلى النقيض في الديمقراطيات المستقرة وإنما من الشبيه إلى الشبيهكان ذلك التصريح لزعيم حركة النهضة التونسية «راشد الغنوشي» بداية العام الحالي، مقرًا فيه بأن الانتقال من شيء لنقضيه أمرٌ لا يأتي مرة واحدة، ومنذ أيام خرج الغنوشي بتصريح ربما يحمل في طياته تناقضًا مع ذلك القول، حيث قال «نحن بصدد التحول إلى حزب يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقاً من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب بما في ذلك النهضة».هذا التناقض يدفع نحو التساؤل فعليا: هل يمكن أن تفصل الحركة فعليا ما بين الدعوي والسياسي؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب البحث في السياق التاريخي للحركة والعوامل الدافعة نحو تبني هذا الخطاب.


تطور حركة النهضة

أولى ملامح الإجابة على سؤالنا الأساسي تتمثل في إلقاء نظرة تاريخية على حركة النهضة والتطورات الحادثة بالحركة منذ إنشائها حتى يومنا هذا.الإسلاميون خير سلاح لمحاربة اليسار، تلك المقولة أثبتت في السبعينات من القرن الماضي بالعديد من الدول العربية، ولعل هذا كان السبب وراء الترحيب الضمني من قبل الحزب الاشتراكي الدستوري بتونس آنذاك بتأسيس حركة النهضة التونسية في شهر أبريل من العام 1972 كجماعة سرية تحت اسم «الجماعة الإسلامية» بنشاط مقتصر على الجانب الفكري فقط الذي برزت ملامحه في عمل حلقات بالمساجد وجمعيات المحافظة على القرآن الكريم، ولعل الدليل الأقوى آنذاك على قبول النظام للحركة تمثل في السماح بالعام 1974 للقائمين على الحركة بإطلاق مجلة المعرفة.في العام 1981 عقد الحزب الاشتراكي الدستوري مؤتمرا استثنائيا أشار فيه بورقيبة أنه لا مانع من السماح بتواجد حزبي إلى جوار الحزب الأوحد، استغلت الحركة آنذاك تلك السياسة، وأعلنت في مؤتمرها الثاني أنه جاء الوقت للخروج إلى العلن وعليه تحولت الحركة من الجماعة الإسلامية إلى «حركة الاتجاه الإسلامي».ولكن كعادتها الأنظمة؛ خطابها كثيرا ما يكون معاكسًا للواقع، فبعدما أقدمت الحركة على الحصول على ترخيص بالعمل؛ تجاهل النظام تلك الدعوة بل تبع ذلك القرار في شهر سبتمبر من نفس العام إلقاءُ القبض على رموز الحركة: راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو بتهمة العمل في إطار حركة غير مرخصة، وحكم عليهما بالسجن لمدة عشر سنوات، ونتيجة للوساطة آنذاك أفرج عن مورو في العام 1983 وعن الغنوشي بالعام 1984.من هنا بدأت مرحلة الصدام بين الحركة والنظام، حيث أنه بعد خروج الغنوشي ومورو من السجن شهدت الحركة توسعًا كبيرًا رأى النظام أنه مهِددٌ له، وعليه تم اعتقال الغنوشي مرة أخرى في العام 1987 وحكم عليه بالأشغال الشاقة مدى الحياة بتهمة التورط في تفجيرت وقعت آنذاك بجهة الساحل.بورقيبة الذي انقلب على الحركة بعد الترحيب المبدئي فترة الإنشاء، وجدت الحركة في العام 1987 بشهر نوفمبر وسيلة للثأر منه مرحبة آنذاك بانقلاب ابن علي، منضمة إلى وثيقة الميثاق الوطني التي أعلنها ابن علي.كافأ ابن علي حركة النهضة آنذاك بالإفراج عن القيادات المعتقلة عهد بورقيبة، وعليه في العام 1989 وتحديدا شهر فبراير أعلنت الحركة اسم «حركة النهضة» ناسفة مسمى حركة الاتجاه الإسلامي «ليتلائم مع قانون الأحزاب» الذي منع إقامة حزب سياسي على أساس ديني.انقلب ابن علي على الحركة ورفض الترخيص لها بإقامة حزب سياسي في نهاية العام 1989، الأمر الذي دفع الغنوشي لمغادرة البلاد متوجهًا للجزائر، تاركًا منصبه لخليفته الصادق شورو.لم يكن الغنوشي آخر المتصدامين مع النظام والفارين من البلاد آنذاك، حيث أنه بعد تولي شورو المكتب السياسي وتحديدًا بالعام 1990 وقعت العديد من المصادمات بين الحركة ونظام ابن علي، بلغت أشدها في العام 1991 عندما أعلن نظام ابن علي إبطال محاولة لقلب نظام الحكم في البلاد، الأمر الذي ترتب عليه اعتقال قيادات الحركة والحكم بالسجن على العديد من أفرادها مدى الحياة، ومنذ ذلك الحين اقتصر نشاط الحركة على التفاعل بين أوساط التونسيين بالخارج دون أي تواجد فعلي بالبلاد.


ربيع الإسلاميين وبعث النهضة

الربيع العربي، أو ربيع الإسلاميين كما أطلق البعض عليه، كان بمثابة البعث لحركة النهضة، حيث أنه بعد الإطاحة بابن علي على أثر ثورة الياسمين تم الترخيص للحركة للعمل كحزب سياسي وفقا لقرار في 1 مارس 2011، ثم شاركت بثلاثة أعضاء ممثلين لها في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، والتي انسحبت منها بعد أشهر قليلة من المشاركة، أصبحت النهضة آنذاك من أبرز اللاعبين في الساحة التونسية حيث حصلت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي أكتوبر 2011 على 89 مقعدًا من أصل 217، لتحل في المرتبة الأولى.ثم شاركت في الحكومة الانتقالية متحالفة مع المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والتي تقدمت باستقالتها وشكل على أساسها حكومة تكنوقراط في في يناير 2014 برئاسة مهدي جمعة.في أكتوبر من نفس العام جاءت حركة النهضة في المرتبة الثانية للانتخابات التشريعية بعد نداء تونس، وعليه أقرّت الحركة الحياد في الانتخابات الرئاسية والوقوف في منطقة وسط بين المرزوقي والسبسي، مشاركة بعد ذلك إلى جانب النداء في تشكيل الحكومة بفبراير 2015.


بين الدعوي والسياسي

إحدى الجدليات الهامة في تراث الحركات الإسلامية يتمثل في العلاقة ما بين الدعوي والسياسي، وهنالك مصطلحان من الواجب التفرقة بينهما، هما «التمييز – الفصل».ولكن قبل البدء في شرح المفهومين يتوجب الحديث حول ما يقصد فكريا بكلا من الدعوي والسياسي، فالأول يعني غاية في حد ذاته قوامها التربية الخلقية للفرد بما يدفعه نحو التحرر من التقيد بمطالب الدنيا، أما السياسي فيُعنى به هنا الأدوات والوسائل التي تحقق بها الغايات والأهداف، والعلاقة بين الطرفين في عرف الحركات الإسلامية يتمثل في الموائمة بين الغايات «الدعوة» والأدوات المحققة لها «السياسية».الفصل في أبسط صوره يكون بتنحية الدين بعيدًا عن السياسة، والتمييز يعد بمثابة مسألة تنظيمية للعلاقة بين الدعوي والسياسي، فمن ناحية ينبثق عن الحركة الإسلامية حزبٌ معني فقط بالشأن السياسي ولكن لا توجد بينه وبين الحركة قطعية، حيث تعمل الحركة من ناحية في إطارها الدعوي والترويج للحزب وبرنامجه جماهيريًا والعمل على مده بالكوادر المنوط بها خدمته وتحقيق أهدافه، في الوقت الذي يعمل الحزب على بناء مشروعه وبرنامجه وفقا لما روجت له الحركة جماهريا، أي يمكن أن نقول هنا أننا بصدد علاقة تبادل مصالح ما بين الحزب والحركة.


النهضة توجه للتمييز أم للفصل

نحن بصدد التحول إلى حزب يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقاً من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب بما في ذلك النهضةاختار راشد الغنوشي في مقولته تلك اعتماد حزب متفرغ للعمل السياسي، يعمل على الإصلاح من أعلى «الدولة» بدلًا من المجال الدعوي «الفرد»، تاركا بذلك العمل الدعوي للمنظمات المستقلة عن الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني.خطاب الغنوشي يحمل تناقضًا وخلطًا ما بين مفهومي الفصل والتمييز، والخلط هنا ليس جهلا منه بالفرق بين المفهومين ولكنه تناقض وخلط تكتكي يتناسب مع الظروف المحطية ليس إلا، وهو أمر معتاد في خطابه بصفة عامة.ولعل ما دفع الغنوشي لتبني هذا الخطاب في اللحظة التاريخية التي تعيشها المنطقة عامة وتونس خاصة، فمن ناحية المنطقة يعد فشل تيار الإسلام السياسي والموجة الرائجة ضده في المنطقة وتصاعد السلفية الجهادية نتيجة لهذا الفشل أحد أهم العوامل الدافعة للنهضة نحو المراجعة، ومن ناحية الداخل التونسي يأتي فشل النهضة فعليا في الحكم والتصدي للأزمات المجتمعية والاقتصادية التي تفاقمت وتفاقمت معاها الدعوة لحلها عقب ثورة الياسمين، إلى جانب ذلك يأتي الإرهاب قاصما لظهر الحركة في تونس، حيث شاعت اتهامات بأن النهضة وراء انتشار الإرهاب في تونس كما جاء على لسان رئيس المجلس الوطني التأسيسي وزعيم حزب التكتل مصطفى بن جعفر «حركة النهضة وراء تنامي الإرهاب في تونس» الأمر الذي دفع النهضة نحو التغير والمراجعة الفكرية وإن كانت صورية.


تحديات عملية الفصل

كما أشرنا إلى أن تصريح الغنوشي يحمل في طياته فصلا وتمييزا، إلا أن هناك العديد من التحديات التي تحول دون فصل النهضة فعليا بين الدعوي والسياسي ولعل أبرزها يتمثل في:

الصراعات الداخلية

الانشقاقات والاختلافات داخل الحركات الإسلامية تعد العنصر الهام في إفشالها وسقوطها، وما أقره الغنوشي أن كان يعني فعليا الفصل بين الدعوي والسياسي يعد بمثابة انقلاب على تيار الصقور، الأمر الذي يدفع بصورة أسياسية إلى احتمالين:الأول عملية فصل تام ما بين الدعوي والسياسي ونكون ها هنا أمام جزئين منفصلين تماما لحركة النهضة، تيار الصقور الذي يكمل مسيرته الدعوية بصورة مستقلة نهائيا عن تيار الحمائم الذي يعلن تشكيل حزب سياسي وهذا الأمر يترتب عليه بصورة أسياسية انقسام في الطبقة الجماهيرية الموالية للحركة.الثاني أن الأمر سيحل بعملية تمييز ما بين الدعوي والسياسي للحفاظ على بنيان الحركة الأم والطبقة الجماهيرية وهذا ما يتوقف بالأساس على قدرة تيار الحمائم على التخلي نهائيا عن مرجعيته الإسلامية.الاحتمال الأول والثاني يرتبط بصورة أسياسية بسيكولوجية القيادات بحركة النهضة والجماهير الموالية للحركة والمؤيدة لها.

سيكولوجية القيادات والجماهير

الشاهد هنا أن القيادات السياسية في الحركات الإسلامية لا يمكن لها تنحية الدين جانبا بصورة دائمة ولكن يمكن طبقا لظروف مرحلية أن تظهر علنا ذلك بصورة مؤقتة.

ختاما يمكن القول أن خطاب النهضة المعلن لا يعني إطلاقا أن الحركة أعلنت عملية فصل ما بين الدعوي والسياسي، وإنما هو خطاب تكتكي يتناسب مع ظروف ومعطيات المرحلة وما إن تلائم الظروف للعودة مرة أخرى للدمج ما بين الدعوي والسياسي سيتحول هذا الأمر من اعتقاد داخلي إلى اعتقاد معلن تتبناه الحركة بصورة رسمية مرة أخرى.