ما من خطاب يحتاج إلى التجديد اليوم وغدًا وبعد غد مثل «خطاب الحرية». لا الخطاب الديني كما يقولون، ولا الخطاب غير الديني، ولا الخطاب الفسلفي، ولا الخطاب الفني، ولا أي من الخطابات الأخرى تسبق أو تساوي الحاجة إلى تجديد خطاب الحرية. وإذا نجحنا في تجديد خطاب الحرية كنا أقدر على تجديد الخطابات الأخرى جميعها وبلا استثناء. وإذا أخفقنا، فلن يتجدد أي خطاب آخر أبدًا؛ لأن تجديد خطاب الحرية هو شرط لازم وضروري وسابق على تجديد الخطابات الأخرى كلها: الديني، والثقافي، والفلسفي، والرياضي، والفني، والترفيهي، والتشريعي، والتربوي. تجديد خطاب الحرية هو الماء والهواء والغذاء الذي لا غنى عنه لتجديد الحياة في جوانبها كلها، وفي مجالاتها كلها، وفي خطاباتها كلها.

أكثر ما يعيب الفكر العربي الحديث والمعاصر: قلةُ عنايته بمسألة الحرية وتجديد القول فيها مقارنة بكثرة عنايته بالمسائل الأخرى؛ السياسية والثقافية والدينية والقانونية والفنية والأدبية بعامة. لم يعتنِ رواد النهضة العربية الحديثة والمعاصرة بتجديد «خطاب الحرية» إلا اهتمامًا عارضًا، وثانويًّا ومتناثرًا في طوايا مؤلفاتهم وزوايا أطروحاتهم الإصلاحية والنهضوية.

وقد أحصينا في مناسبة سابقة المؤلفات العربية التي اختصت بمسألة الحرية، فلم يزد عددها عن عشرة مؤلفات حملت عنوان الحرية في قرنٍ كامل من الزمان (1900-2000م). بعض الأصدقاء أدهشتهم أو فاجأتهم قلة العدد بل ضآلته، وبعضهم لم يصدق أن يكون نصيب «الحرية» من اجتهادات العقل العربي الحديث والمعاصر بهذه الضآلة الكمية، ناهيك عن الضحالة الكيفية التي تضرب عددًا لا بأس به من تلك المؤلفات.

ولي أصدقاء آخرون تشنَّجوا وتسرعوا وراحوا يلقون الاتهامات يمينًا وشمالًا مشككين في دقة الإحصاء ونقص المعرفة بما قد يكون هناك من مؤلفات كثيرة في الحرية لا أعرفها. والطريف في المسألة أنهم أيضًا لا يعرفونها إلا على سبيل الأمنيات والينبغيات، بدليل أن أيًّا منهم لم يذكر منها عنوانًا واحدًا يذهب رأسًا إلى سؤال الحرية.

ومهما كانت درجة دقة الإحصاء: عشرة مؤلفات، أو حتى عشرون، أو ثلاثون مؤلفًا؛ فإنها تظل قليلة بل ضئيلة جدًّا إذا نسبناها إلى مائة سنة كاملة من ناحية (التي نتحدث عنها)، وهي قليلة إذا نسبناها إلى إجمالي عدد سكان العالم العربي (حاليًّا حوالي 450 مليون نسمة) من ناحية ثانية، وهي قليلة جدًّا جدًّا إذا وضعناها في ميزان أولويات الفكر النهضوي والإصلاحي من ناحية ثالثة.

أين نجد نقطة البداية في تجديد خطاب الحرية؟

هناك اجتهادات كثيرة في الفكر الإنساني حاول أصحابها العثور على أفضل نقطة للبدء في تجديد خطاب الحرية. وقد نعود لسرد أهم تلك الاجتهادات. وأكتفي الآن باقتراح أن تكون نقطة البداية في تجديد خطاب الحرية هي آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية المُطهَّرة. في هذين الأصلين يتجلى معنى الحرية بوضوح في إقرار كرامة الإنسان أولًا وقبل أي شيء آخر، وفي التأكيد على أن كرامة الإنسان مرادفة لاكتمال إنسانيته ولامتلاكه إرادة الاختيار الحر وتحمل المسئولية عن اختياره.

في القرآن الكريم تأكيد على جوهر الحرية تأسيسًا على «التكريم» الإلهي للآدمي. وقد وردت معاني الحرية في آيات القرآن الكريم في مواضع كثيرة، مثل بدلالة ألفاظ مشتقة منها مثل: تحرير، ومحرر، والحر. ونفهم من تلك الآيات أن الحريةَ ذاتُ أولوية على ما عداها من القيم والحقوق التي يجب أن تكون موضع احترام ورعاية. ولو جاز (ولا يجوز أبدًا) اختزال القرآن في كلمة واحدة؛ لكانت هذه الكلمة هي: «الحرية»، ولا شيء غيرها.

قد لا يبدو معنى الحرية ظاهرًا في نصوص الآيات، ولكن سرعان ما تتكشَّف معانيها ببعض التدبر فيها ومثال ذلك، ما ورد في القرآن الكريم بشأن التحذير الشديد من «الفتنة» – والفتنة تعني: سلبَ الحرية – إن ورود هذا التحذير في القرآن جاء في سياق مقارن مع «القتل» وثيق الصلة بمعنى الحرية وجوهرها. فالقتل في هذا السياق يعني: سلبَ الحياة، والفتنة تعني فقدان الحرية وهي أشد من القتل بنص الآية. قال تعالي:

«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين»
سورة البقرة – آية 191.

وقال تعالى:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
سورة البقرة – آية 217.

أي إن حياة الإنسان وهو مسلوبُ الحرية، عاجزٌ عن الاختيار بمحض إرادته، تكونُ أكبرَ ضررًا وأشد خطرًا من القتلِ الذي يسلب هذا الإنسان حياته ويُلحِقه بالموتى. أو أن المعنى المقصود هو: لا قيمة لحياة العبودية التي يفقد الإنسان فيها إرادته وحريته. وربما اقتربت حياة الإنسان بلا حرية من العدم المعنوي، رغم أنه على قيد الحياة.

ومن هذا المنظور، تتجلى قيمة الحرية ومركزيتها في الرؤية الإسلامية. ولهذا السبب نفسه حضَّ الإسلام على تحرير الإنسان من كل القيود التي تحد من حريته، ومنها: قيود الرق، والعبودية، وقيود الاستبداد، وقيود التقليد (للآباء أو للسابقين، أو للغير)، وقيود الجهل والخرافات والأهواء، وقيود الشرك بالله سبحانه وتعالى.

هذا النزوع نحو الحرية نجده في كتب الحديث النبوي في أبواب مختلفة، ومنها «باب العتق»، أو «كتاب العتق». وقد يظن سريعُ النظر أن معنى العتق في سياق هذا الباب من كتب الحديث النبوي هو حرية شخص من الرِّق وحده، أو من عبوديته لشخص آخر فحسب. ولكن إدامة النظر في هذا الباب تكشف عن اتساع المعنى المقصود وشموله لكل ما فيه اختيار للإنسان.

ولنأخذ مثلًا على ذلك مما ورد في «كتاب العتق» في شرح النووي لصحيح مسلم بن الحجاج القشيري. فقد ورد فيه:

قال أهلُ اللغة: العتق الحرية. وإنما قيل لمن أعتق نسمة أنه أعتق رقبة، وفك رقبة؛ فخُصت الرقبة دون سائر الأعضاء، مع أن العتقَ يتناول الجميع؛ لأن حكم السيد عليه وملكه كحبل في رقبة العبد، وكالغل المانع من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك. والله أعلم. [1]

وورد فيه أيضًا أنه:

من أعتق نصيبه من عبد مشترك، قوم عليه باقيه، إذا كان موسرًا بقيمة عدلٍ؛ سواء كان العبد مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا أو أمة. ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد، ولا للمعتق، بل ينفذ هذا الحكم، وإن كرهه كلهم مراعاة لحق الله تعالى في الحرية. [2]

وفي موضع آخر من كتاب العتق أيضًا ورد أن «المُكَاتَب إذا أدى نصف المال صار حرًّا، ويصير الباقي دينًا عليه» [3]. واضح من هذه النصوص أن المقصود بالعتق أوسع بكثير من مجرد تحرير العبد من تبعيته لسيده؛ حتى يصل إلى مستوى الولاية على نفسه في الاختيار والتقرير والتفكير والتعبير والتنقل والتملك وغير ذلك من مظاهر امتلاك الحرية وممارستها.

«الحرية» بحسب المرجعية الإسلامية لها أبعاد واسعة تشمل النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفلسفية، ومع ذلك لم يعطها الفكرُ العربي الحديث والمعاصر ما تستحق من العناية والاهتمام.

أمَّا المستشرقون فكثيرون منهم أخفقوا أيضًا في إدراك المعاني العميقة والشاملة للحرية؛ وبعضهم يؤكد – دون دليل أو برهان – على أن: «المسلمين يقيمون، تلقائيًّا، فصلًا قاطعًا بين حرية الإرادة والاختيار، والحرية الاجتماعية» [4]. وبعضهم الآخر يكتفي في أغلب الأحوال بالتحليل اللغوي لكلمة «حر» ومعناها المضاد لمعنى كلمة «رقيق»، ومرادف لكلمة «عتق». [5]

ولا يؤدي التحليل اللغوي -وحده- في أغلب الأحيان إلى رؤية كلية متماسكة؛ بقدر ما يؤدي إلى تجزئة المعاني وبعثرتها وفصل بعضها عن بعضها الآخر، ولا يترتب على هذه المنهجية سوى تشويش المعاني في الأذهان، وتشويهها في الأفهام. وللحديث بقية.

المراجع
  1. صحيح مسلم بشرح النووي، القاهرة: المطبعة المصرية ومكتبتها (ب. ت)، (الجزء العاشر ص135).
  2. صحيح مسلم، المرجع السابق، ج10، ص137.
  3. صحيح مسلم، المرجع السابق، ج10، ص142.
  4. فرانتز روزنتال، مفهوم الحرية في الإسلام: دراسات في مشكلات المصطلح وأبعاده في التراث العربي الإسلامي، ترجمة رضوان السيد ومعن زيادة ـ بيروت: دار المدار الإسلامي، الطبعة الثانية 2007م. ص19.
  5. انظر مثلًا: شمس الدين القوهستاني، جامع الرموز، حاشية على شرح الهداية لبرهان الدين الميرغيناني ـ 593هـ ـ 1197م.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.