وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ.
سفر التكوين (إصحاح 17)

استكمالًا لما تم عرضه في الحلقة السابقة من كتاب «أبحاث في الفكر اليهودي»، نتناول في هذا الجزء (الثاني والأخير) المقالين الأخرين لهذا الكتاب. الأول، يحمل عنوان «حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل»، للكاتب اليهودي م.ص سيجال، والذي كتبه باللغة العبرية الحديثة، ونظرًا لأهميته البالغة فقد قام مؤلف هذا الكتاب (الدكتور حسن ظاظا) بترجمته ونشره، ضمن ما يحمله هذا الكتاب من مقالات أخرى، لأنه على إيجازه يشرح بجلاء اعتقاد وفكر اليهودعن النبوة، والذي يختلف بالكلية عن فكر المسلمين لهذا الأمر.

أما المقال الأخير وهو لمؤلف الكتاب، فيحمل عنوان «الدولة الصهيونية والتعصب العنصري»، ويوضح فيه الكاتب مدى تعطش اليهود ولهاثهم وراء كل ما يعمِّق ويُكِّرس فكرة العنصرية التي قامت على أساسها دولتهم المزعومة.


النبي والرائي

استهل سيجال هذا المبحث بعرض وجهة نظر تشرح الفرق بين «النبي»، و«الرائي» في اليهودية، ووجهة النظر هذه تستند بالأساس على ما جاء في سفر صمويل، الإصحاح التاسع، الذي ورد فيه «قديمًا في إسرائيل، هكذا كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يدعى سابقًا الرائي»، وقد جعل معظم الباحثين المحدثين من هذه الحاشية، أساسًا تقوم عليه كل أبحاثهم، في تاريخ النبوة وتطورها، عند بني إسرائيل، وقد استنتج هؤلاء الباحثين، أن كلمة «نبي» مستحدثة في حقبة من الحقب التي سبقت من كَتَب هذه الحاشية، و أنه لم تكن كلمة «نبي» معروفة عند بني إسرائيل، وإنما «رجل الله» كان يُدعى «الرائي»، أما التحول الذي حدث في تسمية «رجل الله» من «الرائي» إلى «نبي» فقد حدث عندما اتسع شأن «رجل الله»، حيث تغيرت صفاته ووظائفه، ومن ثم تغير اسمه كذلك من «الرائي» إلى «النبي».والفرق يكمن هنا بين الاثنين، في أن الأول أي «الرائي» كان يخبر بما سيكون، وينبىء بالغيب، مثل «الكاهن» عند العرب، أما النبي فهو شخص مختلف تمامًا، فالنبي رجل ذو «شطحات» ووجد روحاني تصل به هذه الروحانيات إلى حد التجرد من المادة، وبحسب هذه النظرية فإن «موسى» لم يكن نبيًا، بل كان عرافًا، مثل السحرة المصريين، وإن كان أعظم منهم وأعلم حسب من يتبنى وجهة النظر هذه.ويختتم سيجال هذا المبحث بأنه ليس صحيحًا أن «النبي» صاحب الشطحات الروحانية دخيل على إسرائيل من الكنعانيين كما يرى أصحاب وجهة النظر الأخرى، فالكاتب يرى أن لفظ «نبي» خاص ببني إسرائيل، فليست هناك نقوش تثبت وجوده في الكنعانية أو الفينيقية، ويؤكد أن هذا يدعو للاعتقاد بأن لفظة «نبي» قديمة جدًا في العبرية الإسرائيلية، وأنه يصعد إلى ما قبل التاريخ من حياة بني إسرائيل.


النبي في وظائف المعبد

يحاول سيجال في هذا المبحث أن يلقي الضوء على وظيفة «النبي» في حياة الأمة الإسرائيلية على حد قوله، وتتضح الوظيفة الأساسية للنبي من خلال ما جاء في التوراة «يقول الله لموسى: انظر، أنا جعلتك ربًا لفرعون، وهارون أخوك يكون نبيك» سفر الخروج (7:1)، ووظيفة هارون إلى جانب موسى مشروحة في مكان آخر «وهو يكلم الشعب عنك، وهو يكون لك فمًا، وأنت تكون له ربًا»، ومن ذلك يتضح أن النبي عند بني إسرائيل فم ربه الذي يتحدث إلى الشعب فيُسمعه كلام هذا الرب، كما كان هارون بمثابة نبي لموسى، يبلغ كلام موسى إلى الشعب.كما يوضح الكاتب أن النبي لم يكن فمًا لله فحسب، بل كان أيضًا فمًا للشعب أمام الله، ويبدو أن الوظائف المنوطة بالنبي في كافة العصور، كانت الصلاة من أجل الأفراد والجماعات، فكانوا يلجأون إلى النبي في الضراء والبأساء، فقد كان موسى يكثر من صلاته إلى الله من أجل الآخرين فمثلًا: من أجل فرعون والمصريين، ومن أجل بني إسرائيل فيما كانوا فيه من الضراء.ويؤكد الكاتب أن الأنبياء كانوا مرتبطين بالمعابد، إذ كانوا يقيمون حولها وكان يعتادهم التجلي الإلهي، واعتاد الأنبياء أن يُلقوا نبوآتهم على الشعب في المعبد، والمعبد كان مكان اجتماع الأمة في الأعياد، وأوائل الشهور والسبت.


النبي للفرد والنبي للأمة

وفي هذا المبحث يُبرِز سيجال أهمية النبوة بالنسبة للشعب الإسرائيلي، فهو يرى أن النبوة هي التي كوَّنت الشعب الإسرائيلي، وهي التي وقفت معه في الساعات القاسية التي مرت به، فموسى أبو الأنبياء أخرج إسرائيل من مصر، ووحد أسباطهم، فأصبحوا أمة واحدة بقوة التوراة والإيمان بإله الآباء، استولوا على الأرض (فلسطين)، وانتصروا على أعداء إسرائيل بقوة نبوءتها على تخليص إسرائيل من الكنعانيين وتحقيق سيادتهم في الأرض، ولكن صمويل نبي بني إسرائيل قد أحدث تغييرًا جوهريًا في تنظيم الشعب الإسرائيلي، نتج عنه إضعاف أثر النبوة في حياة الأمة، فعندما نصَّب في إسرائيل ملكًا، وهو شاؤل، فأخرج الملك قيادة الأمة من يد النبوة ووضعها في صولجان الملك، وبذلك حوَّل الملك أسباط إسرائيل إلى أمة عسكرية مدنية يرأسها قائد عسكري مدني، أي انتقل بها من الأساس الديني إلى العلماني.

تبرز أهمية النبوة بالنسبة للشعب الإسرائيلي، في كونها كانت أحد أسباب تكوينه، ومساندتها له في محنه التاريخية.

ومع ذلك فإن أثر الأنبياء في حياة الفرد من بني إسرائيل لم ينته مع قيام الملك، بالعكس بل ازداد نشاط الأنبياء واتسع أيام صمويل وما بعدها، هذا بالنسبة للفرد، أما بالنسبة للأمة فقد تدهور جلال النبوة وأثرها القيادي، إذ زاد عدد الأنبياء وأصبحوا فئة خاصة في الأمة، ونزلت النبوة إلى مستوى الصناعة أو المهنة ذات القواعد المقررة، التي يستطيع الانسان أن يتعلمها ويتدرب عليها.وبهذا المبحث اختتم سيجال بحثه عن النبوة عند بني إسرائيل، ليستكمل ظاظا مقاله الأخير في هذا الكتاب عن الدولة الصهيونية والتعصب العنصري.


الصهيونية العنصرية

يؤكد ظاظا في هذا المبحث على أن الصهيونية قامت على مزاعم تراثية تدور كلها حول التعصب الديني والتعصب العنصري، ولم تكن هذه العنصرية موجودة لدى جميع اليهود في كافة الأقطار والأزمان، بل كانت نبرة ترتفع من حين لآخر، ولا يلتف حولها سوى الطبقات المتخلفة التي طحنها البؤس وسحقها احتقار الأمم الأخرى، والدليل على أنها ظاهرة مرضية في الشخصية الإسرائيلية، أنها لا تظهر إلا في أيام الشدائد التي يواجهها اليهود، ويجدون أنفسهم في أثنائها محرومين من حق الحرية والمساواة، كما حدث في ظل الفاشية والنازية.وصهيونية القرن العشرين تعتبر استمرار لتلك العقدة القديمة، التي نشأت في وجدانهم في عصور الاضطهاد، ومع ذلك فإن ظهورها في القرن العشرين عرَّضها لصراعات مريرة من بعض المفكرين اليهود أنفسهم، قبل أن تتعرض للصراع الفكري والقومي والعسكري من جانب ضحاياها في الشرق العربي.


مفكرون يهود قاوموا العنصرية اليهودية

عندما بدأ اليهود في الدخول في عزلة وتقوقع عن المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، ظهر من بينهم دعاة يقاومون هذا الداء، وظهر هؤلاء منذ أيام الدولة الإسلامية وما بعدها.وأبرز الأمثلة على ذلك هو الطبيب اليهودي الأندلسي، «موسى بن ميمون»، فعلى الرغم من اعتزازه الشديد بقومه، كان أيضًا شديد الاعتزاز بمعرفته بآثار الفلاسفة اليونان والمسلمين، وكان في كتاباته الدينية يُصرِّح بأن الذين يؤمنون بالله ويفعلون الخير ويتجنبون الشر، في الدنيا لهم حظ في الآخرة، حتى وإن لم يكونوا من بني إسرائيل، ولم يؤمنوا بالتوراة، كما كان في تعليمه الطب لا يجيز تلميذًا من تلاميذه إلا بعد أن يقسم أمامه أن يعالج المرضى بدون تمييز بين أديانهم، وأجناسهم، وألوانهم.وبمرو الأجيال، يعود اليهود في أوروبا إلى داءهم القديم، ولكن الفيلسوف اليهودي الهولندي «باروخ سبينوزا»، يأتي ليقاوم هذا التعصب، لدرجة أن بعض متطرفي العنصرية اليهودية اعتبروا دعوة سبينوزا إلى ترك التعصب العنصري كفرًا. حيث قال سبينوزا: «إن اليهودية ليست وطنًا ولا قومية ولا جنسًا، ولكنها عقيدة وشريعة يمكن ممارستها في أي مكان مع بقاء اليهودي مواطن مخلص لمولده ومسقط رأسه».ويأتي في العصر الحديث ويظهر رائد آخر من رواد مقاومة العنصرية اليهودية هو «موسى مندلسون» (1729-1786)، حيث تنبَّه مندلسون إلى أن اليهود قد حبسوا أنفسهم في «جيتو» أبشع من الذي يسكنونه بأشخاصهم وأجسادهم، وهو الجيتو الفكري، وأخذ ينادي بالتحرر المدني لليهود، والفصل بين الدين والقومية، فاتُهم بالكفر وحرَّموا كتبه.


ادعاء لا يؤيده العلم

انتماء اليهود جميعًا إلى عنصر واحد أمر لا يؤيده العلم، فعالم الأنثربولوجيا السويسري، «يوجين ييتار»، يحسم هذا الأمر، فيقول أن اليهود بعيدون عن الانتماء إلى عنصر يهودي، فهو لا يعتبر اليهود الآن أعضاء في مجموعة بشرية متحدة العنصر، فاليهود ينتمون إلى طائفة دينية واجتماعية انضمت إليها في جميع العصور أخلاط من أجناس مختلفة. ومن الممكن أن يكون أولئك المتهوِّدن قد جاؤوا من كل الأفاق التي يعيش فيها البشر، فمنهم «الفلاشة» الأحباش، ومنهم اليهود الألمان، ومنهم اليهود الخزر الذين يفترض أنهم من الجنس التركي وهكذا.

ذكر «سيجموند فرويد» في كتابه «موسى وعقيدة التوحيد»، أن الذين خرجوا مع موسى كانوا شيئًا آخر غير العشيرة الصغيرة التي جاءت مصر مع يعقوب.

ويأتي أيضًا العالم والطبيب اليهودي «سيجموند فرويد» فينشر كتابًا «موسى وعقيدة التوحيد»، ليًحدث ضجة في الأوساط اليهودية، حيث أكد فيه فرويد أن موسى كان مصريًا وأن الذين خرجوا معه وسُموا فيما بعد ببني إسرائيل، كانوا شيئًا آخر غير العشيرة الصغيرة التي جاءت مصر مع يعقوب قبل ذلك بأجيال، عندما كان يوسف وزيرًا لفرعون، فهؤلاء الذين خرجوا مع موسى كانوا خليطًا من البشر، من العبيد وأسرى الحروب والأجانب المتبرمين من طغيان فرعون، وسواء كان هذا الكلام صحيحًا أم لا، فالأمر الذي لا شك فيه أن النعرة العنصرية التي نادى بها اليهود بعد موسى إنما كانت من اختراعهم هم، ومن خلالها حولوا ذكرى الخروج كما ذكر الكاتب من قبل إلى مناسبة لتعميق الشعور العنصري.


الإيغال في العنصرية

هناك عدة أمور توضح مدى توغل اليهود أكثر فأكثر باتجاه العنصرية، فيظهر ذلك من خلال أحكام شرعية أساسية مثل الدخول في الدين اليهودي نفسه، فقد جعلوا من عقيدتهم دينًا وجنسية في وقت واحد، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وبناءً على ذلك أصبح الدين اليهودي دينًا غير تبشيري، أي أن اليهودي غير مكلف بنشره بين الأمم الأخرى، كما أن اليهود يحتقرون غيرهم من الشعوب ويطلقون عليهم «جوييم»، وهي لفظة تدل على أي شعب من الأمم الأخرى غير اليهودية، هي (جوي)، وقد اقترنت كلمة جوي في عقولهم بالزراية والاحتقار، فإذا قال اليهودي عن شخص إنه جوي فهو يعني بذلك أنه همجي وقذر وحقير.كما قاموا في دولتهم المزعومة بسن قوانين تُعمّق من تكريس هذه العنصرية، فقد تم إصدار سلسلة من القوانين الخاصة بالجنسية العنصرية، والتي تحدد صفة المواطن في الدولة الصهيونية، وأهم هذه القوانين، «قانون العودة» الصادر في 5 يوليو عام 1950، وهو يعطي لكل يهودي في العالم حق الهجرة إلى إسرائيل بلا قيد أـو شرط، تماشيًا مع ما ورد في صك إعلان قيام إسرائيل 1948.وقانون «الجنسية الإسرائيلية»، الذي أقره البرلمان الصهيوني، في 14 أبريل 1952، وقد اعتبر جميع اليهود في فلسطين مواطنين دون قيد، أما الفلسطينيون العرب من سكان البلاد، فعلى كل منهم أن يثبت بالوثائق الرسمية أنه كان فلسطيني الجنسية قبل 14 مايو 1948، تمهيدًا للنظر في منحه الجنسية الإسرائيلية، فضلًا عن شروط أخرى، في مقدمتها ثبوت معرفة هذا العربي للغة العبرية، والتحقق من أنه لا يحمل جنسية أخرى، وهي عقبات لم تسمح لغير عدد قليل جدًا من عرب فلسطين الالتحاق بالجنسية.وبعد، فيعد هذا الكتاب بحق نبراسًا أنار به ظاظا، بعض الصفحات الغامضة في الفكر اليهودي، الذي لم يتوان عن نشر الأكاذيب والإدعاءات لتكريس وتعميق أفكاره المضللة وتشويه حقائق لم يستطع أن يُزيّفها التاريخ.