في الفيديو الذي نشره الإعلام العسكري لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عن عملية الهجوم على تجمع للجنود الإسرائيليين في جحر الديك في إطار المعركة الدائرة في قطاع غزة، والإجهاز عليهم واغتنام بندقية أحدهم، لاحظ الجمهور العربي ظهور مقاتل من المجموعة القسامية المهاجمة حافي القدمين، وتذكروا الحديث النبوي القائل: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار»، إلا أن هذا الحديث ليس الدافع الوحيد للمقاتل حافي القدمين.

بالتدقيق في الفيديو يظهر أن 3 على الأقل من المجموعة المهاجمة كانوا حفاة، وأن طبيعة التربة رملية وأجزاء منها مشبعة بالمياه. وفي الجزء الذي يظهر فيه الهجوم على الجندي الإسرائيلي الوحيد في نقطة الحراسة واغتنام سلاحه الآلي، تظهر التربة وهي مشبعة بشدة بالمياه كالوحل مما قد يتسبب في التصاق الوحل بالأحذية العسكرية ما يزيدها ثقلًا ويضعف من خفة حركة المقاتل الذي سيحتاج إلى الانسحاب سريعًا من المكان بعد الهجوم.

فأغلب الظن أن الأفراد الذين اختاروا التحرك حفاة على الرمل كانوا يستهدفون خفة الحركة، وهو المبدأ الذي تتبعه كافة مجموعات المقاومة في غزة خلال المعركة الجارية. فتذكر كيف تخلع نعليك عندما تكون على رمال الشاطئ حتى يمكنك التحرك بخفة أكبر مما لو ترتدي حذاء.

محمد الضيف يسير على قدمين

القوي يظهر الضعف والوهن والخمول لإغراء العدو به، ثم يهجم عليه.
صن تزو

نشرت صحيفة معاريف موضوعا ذكرت فيه أن إسرائيل حصلت على مقاطع فيديو يظهر فيها القائد العام لكتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، محمد الضيف، وهو يسير على قدميه.

والمفاجأة في هذا الموضوع، الذي يبدو للوهلة الأولى اعتياديًا فكل الناس تمشي على قدمين، أن هناك اعتقادًا ترسخ واستقر لدى القادة العسكريين والاستخباراتيين في إسرائيل أن محمد الضيف فقد قدميه في إحدى محاولات الاغتيال التي تعرض لها.

المعلومات لديهم أيضًا قالت إنه فقد إحدى ذراعيه، وأتبع ذلك استنتاجًا أنه أصبح يعتمد في تنقلاته على كرسي متحرك، أي إنه فقد قدرته على الحركة بشكل كامل وأصبح رمزًا روحيًا مثل الشيخ أحمد ياسين أكثر منه قائدًا عسكريًا في أرفع مستويات القيادة لدى كتائب القسام.

ولن نكون بعيدين كثيرًا عن الحقيقة لو افترضنا أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت تبحث عن كل من يتحرك على كرسي ولديه سيارة خاصة يمكن إدخال كرسي متحرك إليها. لذلك يمكننا أيضًا أن نتخيل حجم المفاجأة والدهشة التي بدت على وجوههم عندما شاهدوا مقاطع فيديو تظهره يمشي على قدميه، ويستخدم كلتا ذراعيه كما أشارت معاريف.

ويمكننا أن نرصد أيضًا كيف ساعدت كتائب القسام في ترسيخ هذا الظن لدى العدو، فالصورة المظللة التي يستخدمها الإعلام العسكري مع المقاطع الصوتية لمحمد الضيف، تظهر شخصًا مظللًا بالأسود، يبدو أنه جالس وليس واقفًا ويشير بإحدى يديه.

هذه الصورة تعمدت ترسيخ المعلومات التي لدى الإسرائيليين، فهي صورة سوداء توحي بأن صاحبها ربما مشوه أو يحمل ندوبًا عميقة من آثار القصف ومحاولات الاغتيال التي استهدفته، ويرفع إحدى يديه بينما لا تظهر الأخرى لأنها غير موجودة، ويبدو الشخص جالسًا لأنه لم يعد يستطيع الوقوف. وهي على عكس الصورة الذهنية التي تظهر عن أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام، وأبو حمزة المتحدث باسم سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، فرغم أن شكلهما غير معروف لأنها يحرصان على الظهور باللثام، إلا أن باقي العوامل تشير إلى شخص يقف أمام الكاميرا وليس جالسًا، كما توحي بقوة الجسد والبأس والشباب والعنفوان أيضًا.

إسرائيل، حتى اللحظة، لم تنشر مقاطع الفيديو التي وصفتها معاريف لمحمد الضيف ربما لأنه سيحدث تأثيرًا إيجابيًا لدى الجانب الفلسطيني بنفس المقدار، وربما أكثر، من التأثير السلبي الذي سيحدثه لدى الجمهور الإسرائيلي، أو لأسباب استخباراتية أخرى. فمثلًا نشرت مقاطع الفيديو الخاصة بحفر النفق الكبير قرب معبر إيريز، ومقطع الفيديو الذي يظهر محمد السنوار، شقيق يحيى السنوار، يتجول بسيارة داخله بالتزامن مع نشر الفيديوهات التي صورتها للعثور على النفق ودخوله، وما بعدها من تجول وزير الدفاع الإسرائيلي به.

ولا يمكننا إلا أن نشيد بكل أبطال المقـاومة الفلسطينية الذين يلتزمون بالانضباط الصارم اللازم للعمل العسكري والفدائي لم نرَ فيديو على تيك توك من داخل نفق أو عقد قتالية أو أثناء ضرب دبابة أو قصف صاروخ، كل ما شاهدناه عن الحرب أتى من الإعلام العسكري ومر عبر رقابة سمحت بنشر ذلك واحتفظت بمشاهد أخرى لنراها في ما بعد، بينما على الجانب الآخر يُغرق المجندين الإسرائيليين موقع تيك توك بمقاطع رقص بالزي العسكري الأخضر في داخل الثكنات والمواقع العسكرية، وسيلفي مع الدبابات، وفيديوهات إهداء تفجير المساكن في غزة بمناسبة أعياد ميلاد أطفال إسرائيليين.

اقرأ أيضًا: محمد الضيف: قائد الأركان ومهندس «طوفان الأقصى»

بالأسلحة المناسبة

تستخدم بيانات حزب الله العسكرية هذه العبارة كثيرًا، استهداف موقع بالأسلحة المناسبة، ولا يحدد حزب الله نوع السلاح المستخدم إلا عندما يكون هناك رسالة خلفه، مثلما حدد استخدامه لصواريخ بركان التي تحمل رأسًا متفجرًا كبيرًا.

الإعلام العسكري لكتائب القسام نشر مقطع فيديو يوثق عملية استهداف جيب عسكري بصاروخ كورنيت موجه مضاد للدروع شمال شرق بيت لاهيا بمحيط أبراج الندى، المقطع استدعى عددًا من الأسئلة: لماذا الكورنيت هذه المرة، ولماذا لا يستخدم الكورنيت أكثر، ولماذا الجيب وليس المدرعة إيتان التي تسبقه أو الميركافا التي سبقت المدرعات؟ سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وفق ما تيسر.

لماذا الكورنيت؟

الكورنيت قاذف روسي مضاد للدروع يعمل بتوجيه ليزر، اكتسب سمعة جيدة بعدما استخدمه حزب الله بفعالية ضد دبابات الميركافا الإسرائيلية خلال حرب لبنان في عام 2006، وسبق أن استخدمته المقاومة الفلسطينية في حروب سابقة مثل 2014.

منذ بداية معركة «طوفان الأقصى» يعتمد قناصة الدبابات لدى كتائب القسام شبه كلي على القذيفة الياسين 105 المصنعة محليًا على غرار قذائف التاندوم ذات الرأس الحربي المزدوج، إلا أن لهذه القذيفة عيبًا رئيسيًا وهو صغر مداها الفعال، فلكي تكون هذه القذيفة مؤثرة يجب أن تطلق من مسافة 100 متر أو أقل من الهدف، لذلك هي مناسبة أكثر لحروب المدن وفي الشوارع والأزقة الضيقة حيث يظهر المقاتل في الشارع أو الحارة قريبًا جدًا من الدبابة أو الآلية ثم يطلق القذيفة ويختفي، وهو ما يتطلب شجاعة كبيرة بالمناسبة.

لكن عندما تكون المعركة في مكان مفتوح تفقد هذه القذيفة (الياسين 105) فعاليتها، ويصبح وقتها من الضروري استخدام سلاح آخر.

لذلك تم اختيار الكورنيت لاستهداف الجيب في الفيديو المذكور، فبقياس الزمن الذي استغرقه المقذوف ليصل إلى الهدف يبدو أن الرامي كان على بعد -تقريبا- 2.5 كيلومتر من الهدف، ولأن المدى المؤثر لقذائف الكورنيت نحو 4 كيلومترات (4000 متر) وتزداد هذه المسافة في بعض أنواع المقذوفات الأخرى، فإنه كان السلاح المناسب لهذه المهمة.

ولأن لكل سلاح ميزة وعيب، ويقع على عاتق المقاتل المدرب اختيار السلاح المناسب للمهمة، فالكورنيت أيضًا لديه عيب واضح وهو الوزن، فأنبوب الإطلاق والصاروخ قد يصل وزنهم إلى نحو 30 كيلوجرامًا، ويزداد هذا الوزن ليصل إلى الضعف مع استخدام المنظومة بالكامل التي تشمل الأنبوب والمقذوف ووحدة الإطلاق والحامل ثلاثي الأرجل، ما يجعل عملية استخدامه تتعارض مع مبدأ خفة الحركة الذي يتطلب أن يطلق الرامي قذيفته ثم يتحرك بسرعة من مكانه قبل أن يغير الطيران أو الدبابات على مكان إطلاق النار.

فيبدو هنا أن المجموعة كانت ترصد تحرك القافلة، واختارت قاذف الكورنيت بسبب بعد المسافة بين الرامي والهدف، وأخذت وقتها في نصب منظومة الكورنيت في مكان عال بعض الشيء، ثم استهدفت الجيب وبدأت في تفكيك المنظومة ثقيلة الوزن والتحرك، لم يبق في المكان إلا المصور على الأرجح لمتابعة احتراق الجيب وإخلاء القتلى والجرحى.  

إيلام العدو: الخسائر أولًا

في مقطع الفيديو المشار إليه ظهرت 4 أنواع من الآليات العسكرية: جرافة عسكرية D9  تتقدم الطابور، ودبابات ميركافا، ومدرعات غيتان تظهر للمرة الأولى، و2 جيب عسكري، فلماذا اختار الرامي الجيب وليس المدرعة أو الدبابة علمًا أنه يستخدم صاروخًا قويًا مثل الكورنيت.

الإجابة تكمن في مبدأ إيلام العدو وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في كل ضربة، فالجرافة العسكرية لا يوجد بها إلا سائق أي جندي واحد، لذلك هي ليست هدفًا عسكريًا عالي القيمة، وهنا نشير لفيديو آخر نشره الإعلام العسكري لمقاتل يهم بإطلاق قذيفة مضادة للدروع من أحد الأبنية قبل أن ينبهه زميله أو قائده بالقول: «جرافة جرافة»، فيخفض المقاتل القاذف لأن الجرافة هنا ليست هدفًا ثمينًا يستحق القذيفة، فلينتظر مدرعة أو دبابة.

الجيب العسكري هنا أقل تدريعًا من الدبابة أو المدرعة وليس به نظام حماية مثل تروفي، فهو هدف مضمون، رغم أن عدد الجنود الذي تستطيع المدرعة إيتان نقله قد يكون ضعف عدد من يستخدم الجيب إلا أنه لا يمكن التأكد من ذلك، فتستطيع المدرعة إيتان حمل ما يصل إلى 12 جنديًا بينهم 3 هم طاقم المدرعة، بينما يتكون طاقم الدبابة ميركافا من 4 جنود.

ومع ذلك فقد تكون المدرعة خالية من الجنود وليس بها إلا السائق لأنها تنقل مؤونة من الغذاء أو الذخيرة أو لأي سبب آخر، وقتها ستصبح هدفًا أقل في القيمة مثل الجرافة، بل أقل حتى من الجرافة لأن دروعها قد تقلل من فعالية الصاروخ عليها.

لذلك فكان الهدف المنطقي والمضمون هو استهداف الجيب العسكري المكشوف.

المقاتل الفلسطيني ابن بيئته وظروفه، فيعلم متى يرتدي البوت العسكري ومتى يقاتل حافيًا، ومتى يستخدم الصاروخ عالي القيمة قليل العدد ومتى يستخدم السلاح محلي الصنع، يعرف مميزات وعيوب السلاح الذي بين يديه، يطوع مميزاته لصالحه ويحاول تحييد عيوبه قدر الإمكان.