نعم ما خمنته من العنوان صحيح تماما؛ فلا يوجد سوى غسان واحد.

منذ ما يقرب من عامين كنت قد سجلت عنوان اليوم كعنوان جانبي تحت عنوان كبير «أسباب مريحة للبكاء». هذا ما يحدث غالبا عندما تغرق بين سطور غسان عامة وعندما تسرقك رائعته الصادرة في العام 1970 من واقعك خاصة. نحكي عن رواية «عائد إلى حيفا» للأديب الفلسطيني غسان كنفاني، لكننا سنحكي عن غسان ذاته قبل كل شيء.


مسيرة غسان تمثل ثلاثة أرباع أدبه على الأقل، فقد بدأ وعيه بالتسجيل مبكرًا جدًا.

غسان المولود في عكا عام 1936 كانت عائلته تعيش بحي المنشية بيافا. عكا حيث ولد كانت للإجازات والأعياد فقط. انتقل إلى عكا مجددا في بدايات عام 1947 عندما وقعت المناوشات بين الفلسطينيين واليهود بعد قرار تقسيم فلسطين، ثم غادر فلسطين نهائيا مع عائلته في العام التالي بعد هجوم جيش الاحتلال عليها.

ستجد كل هذا هناك بين الأوراق.

في اليوم التالي للهجوم على عكا كانت العائلة في طريقها للبنان حيث أقاموا في صيدا أربعين يوما ثم إلى حلب فدمشق حيث تلقى تعليمه الثانوي والجامعي حيث درس الأدب العربي بجامعة دمشق.

ثم في العام 1955 هاجر للكويت وعمل بالتدريس، وهناك كتب لصحيفة كويتية تحت اسم مستعار وصدرت مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان «القميص المسروق». ثم في العام 1960 انتقل لبيروت وعمل في جريدة الحرية اللبنانية، وحين تـأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 أصبح الناطق الرسمي لها وأسس مجلة «الهدف» كمجلة رسمية للحركة وترأس تحريرها حتى تم اغتياله بسيارة مفخخة أمام منزله ببيروت في صباح 8 يوليو 1972.

لغسان المتوفى عن عمر يناهز السادسة والثلاثون ما يقرب من ستة عشر كتابا مطبوعا بين الروايات والمسرحيات والمجموعات القصصية، غير مئات المقالات والدراسات النقدية، ولديه تجربة فريدة بتقديم دراسة نقدية وافية في الأدب الصهيوني.


رواية عائد إلى حيفا هي إحدى محاولات غسان الدائبة لوضع كل شيء في موضعه الصحيح وسط حالة من عدم وضوح الرؤى من الأساس على كل الأصعدة في ذلك الوقت.

حين كان غسان يكتب «عائد إلى حيفا»؛ كان المهتمون بالشأن الفلسطيني يفكرون في ترك الوطن والرحيل للأبد، لكن غسان رأى الطريق فجأة فأناره لمن يأتي بعده.

حين وصل سعيد إلى مشارف حيفا قادما إليها بسيارته عن طريق القدس؛ أحس أن شيئا ما ربط لسانه فالتزم الصمت وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل. وللحظة واحدة راودته فكرة أن يرجع، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة في البكاء الصامت، وفجأة جاء صوت البحر تماما كما كان، كلا؛ لم تعد إليه الذاكرة شيئا فشيئا بل انهالت في داخل رأسه كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءت الأمور والأحداث فجأة، وأخذت تتساقط فوق بعضها وتملأ جسده. وقال لنفسه أن صفية زوجته تحس الشيء ذاته وأنها لذلك تبكي.

هكذا يقذف بك غسان في قلب نهر الدموع هذا دون مقدمات، إذا كان عنوان الكتاب «عائد إلى حيفا» فماذا تتوقع؟!

الرواية تقع في حوالي ثمانين صفحة من الحجم الصغير، لذا كل حرف يحمل أطنانا من المعنى ولا مجال هنا لإهدار الكلمات في زخرفات لغوية أو رطانات أسلوبية لا طائل من ورائها. غسان وضع يده على الحقيقة فسارع بتسجيلها سريعا. هذه رواية لمحاكمة الذات أمام ضمير يتعذب يريد أن يجد المرفأ كي يستريح.


هذه هي حيفا إذا يا صفية، بعد عشرين عاما

الرواية التي تحكي فصلا من حياة غسان ذاته وتحمل قطاعا عرضيا في أهم مراحل ضياع الوطن المحتل تبدأ بمشهد زوجين قررا العودة لرؤية منزلهما -فقط رؤيته- بعد فتح الحدود.

لكن رحلة العودة تحمل الكثير من الفلسفة.

«قد أكون مجنونا يا صفية لو قلت لك أن كل الابواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة، وأنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة، لذا عندما فتحوها هُمْ: بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا، وإلى حد ما: مهينًا جدًا»

هنا -وبعد صفحة واحدة- عليك أن تنتبه جيدا لخطواتك لأن فكرة العودة برفقة غسان لم تعد تاريخا مسليا كما ظننت، ستدرك مبكرا جدا لما كان غسان خطرا يجب التخلص منه.

هنا تحديدا لم تعد هذه رواية عن العودة للوطن أو عودة الوطن، لم تعد رواية من الأساس، لم تعد أنت كما كنت قبل أن تدخلها، لقد تم توريطك ولا مجال للرجوع، الطريق الوحيد للأمام نحو حيفا وبرفقة الحقيقة مجردة.

الحقيقة أننا تركنا الوطن يضيع ولم نرفع في وجه المغتصب سوى سلاح الدموع.


الرواية على صغر حجمها تختصر أزمانا عدة، وتحكي على صعيد أمكنة متعددة، وتنتقل بنعومة بالغة بين الراوي الفوقي وألسنة الأبطال والحدث ذاته، بين الماضي والحاضر، بين حيفا ويافا وعكا والقدس ورام الله. تنتقل بين العشرين عاما من الرحيل إلى العودة، يوما يوما، دونما لحظة شرود واحدة. يلتقط غسان طرف الحديث عن الرصاص ليعود ليوم رحيله -رحيل البطل- حين حاول العودة لبيته ظهر ذلك اليوم من العام 1948 بسيارته فاكتشف استحالة ذلك فقرر أن يتخذ مسارات فرعية على قدميه. وبعد لحظات، شعر سعيد أنه يندفع دونما اتجاه وأن الأزقة المغلقة بالمتاريس والرصاص والجنود إنما تدفعه دون أن يحس نحو اتجاه وحيد. وفي كل مرة كان يحاول العودة لوجهته الرئيسية منتقيا أحد الازقة كان يجد نفسه بقوة غير مرئية يرتد إلى طريق واحد: ذلك المتجه نحو الساحل.

يقول:

كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية للشارع الرئيسي المتجه نحو الميناء، يحملون اشياء صغيرة أو لا يحملون، يبكون أو يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح.
هل أدركت لحظة الكارثة؟!وبذات الطريقة وصف غسان كل شيء.

إن كنت تظن أن غسان سيقول لك: «حسنا، ثم فقدت بيتي» هكذا بكل بساطة لينقل لك خبرا أنت تعرفه ثم تمضي مطمئنا بعد أن تمر عليه مرور الكرام: فأنت مخطئ تماما. غسان سيقتلك كمدا بسلاح الرمز. لغسان مخزون من الرموز لا ينضب أبدا، يمكنك أن تقرأ كلماته على آلاف الأوجه لكنه يقصد دوما شيئا ما لا تتوقعه من خلف حكاياته العادية عن اطارات الصور والمزهريات وخربشات الاقلام على الحائط.

تتداخل المشاهد بين العشرين عاما لينقل المشهد لعيني زوجته، لتعود لدموع ذلك اليوم حين كان هو أقرب ما يكون من البحر وكانت هي أقرب ما تكون إلى الجبل وبينهما يمد الرعب والضياع خيوطهما غير المرئية. حين خرجت صفية تبحث عن زوجها الذي تأخرت عودته واشتد القصف، والتقفها نهر الجموع الهاربة تجاه الساحل. حينها بدأت بالصراخ، لكن كلماتها لم تكن تنتهي إلى أي أذن. هنا يلقي لك غسان بالصاعقة:

لقد رددت كلمة خلدون ألف مرة، مليون مرة، وظلت شهورا بعد ذلك تحمل في فمها صوتا مبحوحا مجرَّحا لا يكاد يُسمع. وظلت كلمة خلدون نقطة واحدة لا غير، تعوم وسط ذلك التدفق اللانهائي من الأصوات والأسماء.

أجل كان هناك خلدون، لقد فقدوا بيتهم ومعه طفل ذو خمسة شهور. حين سمعت صوت زوجها يناديها وسط الجموع أيقنت أنها لن تقدر أن تنظر في عينيه لباقي عمريهما.

هل شعرت بالغصة الآن؟!هذا هو ذات شعور فقدان الوطن بالمناسبة.


كما لو أن العشرين سنة الماضية سُحقت بين مكبسين جبارين فصارت ورقة شفافة لا تكاد تُرى.

صعدا لمنزل ينكرهما تماما كما تنكرهم كل التفاصيل، صعدا دون أن يتركا لنفسيهما الفرصة لأن تستوقفهما كل التفاصيل الصغيرة القاتلة الكفيلة بدفعهما للانهيار التام. صعدا لينتقل الحدث لأفق آخر.

طبعا لم نأت إلى هنا سيدتي لنقول لك ارحلي، هذا أمر تحتاج تسويته لحرب. لكن تعرفين، تلك الـ «لكن» الرهيبة المميتة الدامية، ما يجري هنا حوار مستحيل، ليكن خلدون حيا أو ميتا: لا فرق. حين تصل الأمور لهذا الحد فليس ثمة شيء يقال. وانتابه غضب مهيض وشعر بأنه سينفجر، ثم نظر للريشات الخمس من ذيل الطاووس التي تزين المنضدة وسأل في فظاظة: كانت هنا سبع ريشات، ماذا حدث للريشتين المفقودتين؟

هل تبحث في قاموسك الآن عن المعنى المقابل للريشات الزاهيات؟!هو شيء قاتل على أي حال؛ فلا فرق إذًا.


حسنا، حتى ذلك الوقت من الرواية والأحداث تسير بوتيرة اعتيادية لا يعكر صفو اعتياديتها سوى تناثر الرموز في كل جنباتها. لكن أن يقتحم غسان حياة مهاجر يهودي يسكن منزله ليروي لنا الخلفية التي أتى منها: هذا جديد تماما ربما حتى لا يحتمله السياق أو حجم الرواية الصغير.

لكن هذا ما حدث. الرواية مصورة بتقنية عالية جدا تجعلك ترى جميع الأبعاد من مكانك، يروي الحدث بكل العيون في رواية لا تحتمل سوى نظرة أحادية. يقول:

حين خرج إيفرات من نزل المهاجرين في صباح السبت أدهشه أنه لم ير سيارة واحدة، لقد كان سبتا يهوديا حقيقيا، مما ابتعث في عينيه الدموع. حين رأته زوجته -وكانت تبكي كذلك
قالت له: انا أبكي لشيء آخر، إنه سبت يهودي حقيقي لكن لم تعد هناك جمعة حقيقية ولا أحد حقيقي.

لكن غسان يوجهنا ويواجه نفسه بالحقيقة كاملة حين تخبره السيدة ساكنة المنزل أن دوف -هكذا صار اسم خلدون- مثل أبيه لا يمكن توقع موعد لعودته.

مثل أبيه! ما هي الأبوة إذا يا صفية؟ أتعرفين: هذه الأرض تنكرنا، وابننا الذي سيأتي حالا سينكرنا كذلك، وسترين. لنعد للماضي أفضل، لقد فقدنا كل شيء.


هو الآن يرحل عنا ويسكن يافا ويعرفها حجرا حجرا ولا شيء يشبهه والأغاني تقلده تقلد موعده الأخضرا

لا عرف إن كانت رواية غسان سبقت قصيدة درويش تلك أم العكس، لكن هذا الشخص الذي عاد ليافا ظهر بكامل هيئته في الرواية ليبعث لنا رسالة مفادها أن الوطن الذي ضاع لن يعود بنزع صورة الشهيد من على حائط الذكريات.

إن كنت تريد استعادة الصورة فلتستعيد الوطن بكامله، إن كنت ستفقده فلتفقده بشرف وأنت تحارب لأجله، لا وأنت تبكيه.

لكن «الماستر سين» يندفع في وجوهنا فجأة حين يعود الابن ليخبرهم إن الإنسان قضية!

نعم، معك كل الحق، من قال ذلك؟ لأنني كنت أفكر في الأمر ذاته، الإنسان هو شيء آخر بعيد تماما عن اللحم والدم وبطاقات الهوية وجوازات السفر. الإنسان ما هو إلا قضية، لكن أخبرني: أي قضية أنت؟ قضيتك أننا كنا ضعفاء وأنت الآن تستغل ذلك لتفرض وجودك. إن خطأ زائد خطأ لا يساويان صوابا. وللحظة تصور أن مجموع ذكرياته عن الوطن كانت قبضة من الثلج أشرقت عليه شمس الحقيقة فجأة فذوبتها.

تنتهي الرواية بالتعريف الأعرق للوطن، يتساءل سعيد متعجبا أن خالد -ابنه- لا يعرف الصورة ولا حيفا ولا المنزل ولا المزهرية ولا ريشات الطاووس ولا خلدون، ولم ير ما نبكيه الآن لكنه يعرف أن فلسطين وطن يستحق أن تحمل السلاح من أجله.

ما هو الوطن إذا يا صفية؟الوطن هو ألا يحدث ذلك كله. لنعد إذًا ونترك الماضي خلفنا.


يقول الشاعر عزالدين المناصرة في رثاء غسان:

لماذا إذا الوجه منك تناثر كالعمر من قمة شاهقة؟ لماذا اذا جار هذا الزمان علينا وصارت نوافذنا مغلقة نؤذن في المؤمنين واوجهنا في الرمال وادمعنا كاللظى محرقة وآذننا بانتظار الذي سيدق النوافذ عند المساء.. لقد عبروا يا ابي، ليعتقلوا غيرنا؟ نؤذن في جرة الخوف، نرضع اطفالنا من نهود الجبال، ونرتقب السفن المارقة. تقبل التعازي في أي منفى.

في رواية «أعراس آمنة» لإبراهيم نصر الله، يقول أحد الأبطال لزوجته أن الموت يسابقنا دوما نحو الأشياء الجميلة. حين أدرك غسان أن الموت يسابقنا نحوه عدا بأقصى ما يستطيع فحرر كل الاشياء الجميلة قبل أن تطالها يد الموت. حين أدركه الموت كان قد حرر كل ما يستطيع من معانٍ. انتصر الموت واختطفه لكنه انتصار زائف. أتعرفين: حين أكون في الفناء واسمع أصوات طائرات الأباتشي والاف ستة عشر، اركض للداخل، احمل مجلدات غسان واخرج لارفعها للسماء وأصيح بهم:

يمكنكم أنت تقتلونا، لم يعد أمرا مهما لأننا انتصرنا على أي حال، ستأخذوا حياتنا لكننا ظفرنا بهذا!