أريد أن أراك تغني، أريد أن أراك تقاتل

عام 2015 أطلقت المطربة الفرنسية «جاين» ألبومها الأول، والذي حمل أغنية بعنوان «Makeba»، وهي إعادة استخدام للحن قديم لأغنية ME and the gang للمغني والملحن الأمريكي من أصول أفريقية هاميلتون بوهانون، وتشير كلمات الأغنية إلى المغنية والناشطة «ميريام ماكيبا». حققت الأغنية شهرة في فرنسا، ثم عادت مرة أخرى لتتصدر أغاني الريل في تيك توك وانستجرام وفيس بوك في يوليو/تموز عام 2023.

أغنية أشعلت ثورة

كل ليلة جمعة وسبت، إنه وقت الباتا باتا. يستمر الرقص طوال الليل في جوهانسبرج، حتى تبدأ شمس الصباح في السطوع.

عام 1967 سُجِّلت أغنية «باتا باتا» للمغنية زنزيل ميريام ماكيبا (1932-2008)، المعروفة باسم «ماما أفريكا» في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مغنية وكاتبة أغانٍ وممثلة وناشطة في مجال الحقوق المدنية من جنوب أفريقيا. حققت الأغنية نجاحًا كبيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من أن الأغنية ليست بالإنجليزية.

تصدرت «باتا باتا» قوائم الاستماع في عدد من البلاد بخلاف الولايات المتحدة، حيث أصبحت الأغنية رقم واحد في فنزويلا وهولندا وفرنسا، بجانب دول أفريقية، وحصلت على المركز الحادي عشر في قائمة أفضل أربعين أغنية.

تشير «باتا باتا» إلى أسلوب الرقص الذي يحمل الاسم نفسه بلغة xhosa، وهي من ضمن اللغات المستخدمة في جنوب أفريقيا. وهذا الأسلوب كان شائعًا في النوادي غير القانونية أو أحياء «الشيبيين» في ضواحي جوهانسبرج في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. وقد صدرت الأغنية لأول مرة في جنوب أفريقيا عام 1956، وأشعلت حماس الجماهير للنضال ضد حكومة الفصل العنصري، أو ما يعرف بنظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا.

ازدهرت مسيرة ماكيبا المهنية في الولايات المتحدة من عام 1960، حيث حصلت على جائزة الجرامي عام 1965، ودُعِيت للغناء في حفل عيد ميلاد الرئيس جون إف كينيدي عام 1962، أصدرت ميريام العديد من الأغاني لأنواع موسيقية متنوعة (جاز، بلوز، موسيقى شعبية أفريقية)، ولاقت ترحيبًا وإشادة بأعمالها الموسيقية، وحصلت على دعم شعبي، تحديدًا بعد أن ألغت حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حقها في العودة للبلاد من عام 1960وحتى عام 1990؛ عقابًا لتسجيلها العديد من الأغاني الشعبية التي تنتقد سياسات الفصل العنصري، فأصبحت ماكيبا رمزًا لمعارضة النظام، وسفيرة للأمم المتحدة، خاصة بعد شهادتها ضد حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الأمم المتحدة عامي 1963 و1971، وانخراطها  في حركات الحقوق المدنية للمطالبة بحقوق المواطنين الأمريكيين من أصول أفريقية.

الأغنية الأكثر بهجة في العالم

عام 2020، وجهت اليونيسيف دعوة إلى الجمهور في كل أنحاء العالم، حيث طلبت من الأفراد إرسال مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يرقصون على أغنية «باتا باتا» في منازلهم وحدائقهم بعد أن أعادت المغنية الفرنسية أنجليك كيدجو تسجيل الأغنية لنشر المعلومات والأمل في زمن انتشار الفيروس، تقول كيدجو متحدثة في رثاء صديقها الموسيقي مانو ديبانغو إثر وفاته بفيروس كورونا:

لطالما كانت  أغنية باتا باتا موجودة من أجل الناس في وقت النضال. آمل أن تساعدنا الأغنية مرة أخرى على تخطي الألم والمعاناة، وآمل أن نرقص مرة أخرى في الأماكن الضيقة.

الموسيقى هوية

لقد أتيت للتو من جنوب أفريقيا، المكان الذي كان في انتفاضة دائمة منذ عام 1653، لذلك أصبحت الانتفاضة طريقة حياة في ثقافتنا، وكبرنا مع التجمعات والإضرابات والمسيرات والمقاطعات.
عازف البوق والمؤلف الموسيقي الجنوب أفريقي هيو ماسيكيلا

في مجتمعات أفريقيا كان الرقص والموسيقى جزءًا مهمًّا من تاريخها الاجتماعي وموروثها الثقافي الذي امتد مع تهجير الأفارقة بشكل قسري من أفريقيا لأمريكا. احتفاظهم بأغانيهم وموسيقاهم لم يكن مجرد أداة للترفيه عن أنفسهم أثناء عملهم في حقول القطن، أو ذكرى لقارتهم البعيدة، بل أصبحت الأغاني والموسيقى طريقًا للنضال ضد السياسات العنصرية للرجل الأبيض داخل أفريقيا وخارجها، حيث امتدت الأغاني كوسيلة بديلة لنشر الوعي عما يحدث من ممارسات عنصرية تجاه ذوي البشرة السمراء، فأصبحت موسيقى الجاز والبلو والأفروبيتس موسيقى ثورية خلال السبعين عامًا الماضية، وواحدة من أكثر صور النضال الملهمة في التاريخ، حيث أصبحت البارات والنوادي الليلية في كلٍّ من نيو أورليانز وشيكاجو ونيويورك منصات ثورية بديلة.

يعتقد الناس أنني قررت بوعي أن أخبر العالم بما كان يحدث في جنوب أفريقيا. لا! لقد كنت فقط أغني عن حياتي، وفي جنوب أفريقيا كنا نغني دائمًا عما كان يحدث لنا، وخاصة الأشياء التي تؤذينا. أنا  لا أحمل أي رسالة للمجتمع الدولي، وأنا أغني أحاول فقط أن يفهمني الآخر كإنسان ويفهم شعبي.
ميريام ماكيبا في لقاء لها خلال زيارتها لفنلندا عام 1969

إدراك ميريام ورؤيتها لجوهر العالم الذي تعيش فيه مرتين، مرة على الهامش كونها حُرمت من حقوقها كإنسانة ومواطنة من جنوب أفريقيا تعاني التمييز العنصري، ومرة كجزء منه عندما تحمل الميكروفون للغناء، هو نفسه ما جعلها تقف أمام مضطهديها بابتسامة ساخرة، وعزز تقديرها لذاتها ودعمها لتخطي حواجز  اللغة والفقر واليأس.

لا وطن للموسيقى

ظلت ميريام في الغناء حتى بعد قرار منعها من دخول الولايات المتحدة الأمريكية عام 1968 وإلغاء تأشيرتها بعد زواجها من ستوكلي كارمايكل الناشط في حركة الحقوق المدنية وزعيم «حزب الفهود السود» التي اعتبرتها الولايات المتحدة حركة إرهابية بسبب حملها للسلاح في مواجهة ممارسات الشرطة العنيفة  بعد مقتل «مالكوم أكس» وما أعقبه من توترات، ونتيجة لذلك فقدت ميريام الدعم من الأمريكيين البيض، مما دفعها إلى الانتقال إلى غينيا ثم بلجيكا، وهو ما كان ليحطم مسيرة أي فنان، ولكن ما حدث العكس، فلم تتوقف ميريام عن الغناء ولا النضال.

الفاتح يكتب التاريخ، لا تتوقع من الناس الذين جاءوا لغزونا أن يكتبوا الحقيقة عنا. سيكتبون دائمًا أشياء سلبية عنا. عليهم أن يفعلوا ذلك لأن عليهم تبرير غزوهم. نحن لا نكتب تاريخنا، أنت لا تعرف شيئًا عن أي مكان حتى يصل الرجل الأبيض إلى هناك. حتى يأتي الرجل الأبيض ويقول: “بوم، اكتشفتك، الآن أنت موجود”. وهو أمر سخيف.
ميريام ماكيبا أثناء مقابلة معها عام 1969 بعد منع الولايات المتحدة تجديد تأشيرتها

من غينيا لم تتوقف ميريام عن الغناء، بل أصبحت أكثر شهرة، خصوصًا بعد دمجها للموسيقى التقليدية الأفريقية مع الموسيقى الغربية بشكل حداثي، واستخدامها حتى لأصوات غير تقليدية مثل صوت نقر اللسان – وهو جزء من لغة جوهانسبرج الأصلية – في أغنيتها الشهيرة the click song، وهي أغنية تُغنَّى في حفلات الزفاف في جوهانسبرج.

بعد عام 1970 أصبحت ميريام تتحدث بآرائها السياسية بشكل واضح وصريح، كما بدأت في تلحين وكتابة الأغاني التي تنتقد السياسات العنصرية بشكل واضح، مثل أغنيتها “سويتو بلوز” حول انتفاضة الطلاب في سويتو بجنوب أفريقيا، وجعلت جولاتها الفنية مخصصة وداعمة لكل الحركات المناهضة للاستعمار في مختلف البلاد، فقامت بعمل جولات فنية في العديد من الدول الأفريقية مثل زيمبابوي وغانا، وفي أوروبا  غنت في فنلندا، حتى إنها  غنت في الجزائر بعد حصولها على الاستقلال أغنية “أنا حرة في الجزائر” باللغة العربية.

في نوفمبر 2008 وافت المنية ماما أفريكا بعد تقديمها آخر عروضها في إيطاليا عن عمر ناهز 73 عامًا، وكان آخر ما أوصت به ألَّا تُدفن، ويُنثر رمادها في المحيط الهندي؛ لتتمكن من الإبحار مجددًا لكل دول العالم.