استطاع التعبير بلغته الموسيقية المشرقة الوضّاءة عن مشاعر الشعب العربي وأفكاره وآماله في كل مكان بأصالة متناهية قلما توافرت عند غيره.

من حيثيات قرار لجنة التحكيم بمنظمة اليونسكو والمجلس الدولي للموسيقى، بفوز رياض السنباطي بجائزة أحسن موسيقِي في العالم عام 1977.


ابن الوز سنباطي

في بلدة فارسكور بدمياط، وُلد رياض محمد السنباطي، 30 نوفمبر 1906، لشيخ مقرئ تعوّد الغناء في الموالد والأفراح والأعياد الدينية بالقرى المجاورة.

يوضح إيزيس فتح الله في كتاب «التاريخ الفني للموسيقار رياض السنباطي» كيف أتاحت تلك النشأة لرياض فرصة عظيمة كي تتفتح أذناه على أبيه وهو يعزف على العود، ويغني الغناء الأصيل والتواشيح الدينية، فلما بلغ التاسعة ضبطه والده يضرب على العود ويغني «ناح الحمام والقمري على الغصون»، فطرب لصوته وأخذ يلقنه بعض الموشحات والأدوار، ثم عهد به إلى أحد مدرسي الموسيقى بالمنصورة ويدعى محمد شعبان ليعلمه أصول العزف على آلة العود.

وقرر السنباطي الكبير أن يصطحب ابنه إلى الأفراح، فأخذ يجول في الأرياف، بعدما استقرا في المنصورة، وبدأ صيت رياض يذاع حتى لُقب بـ «بلبل المنصورة» وهو لم يزل في الثانية عشرة من عمره.

لا شك أن نشأة السنباطي القرآنية أخذ منها فوق ما أخذ غيره، حيث الصرامة والشدة في انتقاء اللفظ الصحيح، ومخارج الألفاظ السليمة والمقامات العربية.


التلميذ الأستاذ

حينما مضى رياض إلى القاهرة، كان في السابعة عشرة من عمره، فدخل معهد الموسيقى العربية تلميذًا، ليكتشف معلموه أن الفتى التلميذ يعلم من فنون والده أكثر مما يعلمون، وأنه يضرب على العود أحسن مما يضربون، فعينوه أستاذًا لتعليم الموشحات والعزف على العود في المعهد، وهناك كان يلتقي أمير الشعراء أحمد شوقي والمطرب محمد عبد الوهاب، حسبما أكد فكتور سحاب، في مؤلفه الضخم «السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة».

ويروي السنباطي، في حديث تليفزيوني، أن أول لحن وضعه ليغنيه هو قصيدة للشاعر «علي محمود طه» مطلعها «يا مشرف البسمات أضئ سماء حياتي».

اشتهر السنباطي شهرة طيبة بعد أن لحن لمنيرة المهدية أوبريت «عروس الشرق» عام 1934، ولعبد الغني السيد «يا ناري من جفاك».


مع أم كلثوم.. ثنائي الشرق

سلّط فكتور سحاب الضوء في كتابه عن شراكة العمر التي جمعت بين السنباطي وأم كلثوم على مدار أربعين عامًا. اللقاء الأول بينهما كان مبكرًا للغاية، فبينما كان رياض عائدًا مع أبيه من إحدى ليالي الأفراح وهو صغير، التقى أم كلثوم التي كانت عائدة هي الأخرى من فرح أحيته برفقة والدها، في محطة قطار الدلتا بقرية «قرين»، وتعارف الفتى والفتاة، دون أن يدركا أنهما سيتقابلان من جديد ليشيدا معًا صرحًا من صروح الموسيقى العربية.

ومع افتتاح الإذاعة المصرية عام 1934، التقى رياض بأم كلثوم ثانيةً، بعد أن سمعت غناءه في الإذاعة، فهاتفته وأبدت له إعجابها، ودعته لزيارتها في منزلها بالزمالك.

لحن السنباطي لأم كلثوم في البدايات: «لما انتي ناوية تهاجريني»، «أمال دموعك كانت ليه»، «النوم يداعب عيون حبيبي»، وفي فيلم «نشيد الأمل» عام 1936، لحن لها «افرح يا قلبي»، «يا شباب النيل»، «قضيت حياتي»، فاستقر سريعًا في مكانته ضمن طليعة الموسيقيين العرب آنذاك مع القصبجي وعبد الوهاب وزكريا أحمد.

وبدأت منذئذ شراكة عمر بين السنباطي وأم كلثوم دامت 40 عامًا لم يتخللها سوى اختصام دام أقل من سنتين، بدايةً من 1960 وحتى ربيع 1961، لأسباب نسبها السنباطي إلى تدقيقه الشديد في الكلمات التي يختار تلحينها لها.

على كل حال، انفردت ألحان السنباطي بصوت أم كلثوم حقبة امتدت 12 عامًا – منذ أن توقفت عن الغناء للقصبجي عام 1948 واختصمت مع الشيخ زكريا أحمد – فانكب يصوغ ملامح أسلوبه الخاص في التلحين غير متأثر بمن سبقوه، ذلك أن كثيرًا من ألحانه قبل عام 1948 تأثرت بشكل صريح بأعمال القصبجي والشيخ زكريا، فانصرف منذ ذلك الحين إلى أسلوبه الخاص، حتى اختلط الأسلوب الكلثومي في الغناء بالأسلوب السنباطي في التلحين.


السنباطي الكلثومي

بدأت هذه المرحلة بواحد من أكبر ألحانه «رباعيات الخيام» عام 1949، وفي نفس العام غنت له أم كلثوم قصيدة «النيل»، وأيضًا «ياللي كان يشجيك أنيني».

وتوالت الكلثوميات الكبيرة بعد ذلك: «يا ظالمني»، «جددت حبك ليه»، «أغار من نسمة الجنوب»، «ذكريات»، «أروح لمين»، «أنا لن أعود إليك»، «شمس الأصيل»، «دليلي احتار»، «عودت عيني»، «لسه فاكر».

وهكذا استطاع السنباطي أن يُثبِّت المزاج الذي وضع مواصفاته لحفلات أم كلثوم، فلازمها حتى الممات، بما في ذلك أعمالها الأخرى.

وفي عام 1961 لحن لأم كلثوم «الحب كده»، وفي العام ذاته غنت أم كلثوم سنباطية كبيرة هي «حيرت قلبي معاك». في الأعوام التالية وحتى آخر ألحانه لها، غنت أم كلثوم من تلحين السنباطي أغنيات عديدة أبرزها: «حسيبك للزمن»، «ليلي ونهاري»، «أراك عصي الدمع»، ثم «الأطلال» عام 1966، «أقبل الليل»، «من أجل عينيك عشقت الهوى»، وكانت آخر ما غنت له أم كلثوم «القلب يعشق كل جميل» عام 1972.


تُحفه الدينية والوطنية

اتخذت الأغنية الدينية والوطنية مكانتها في نتاج السنباطي الكلثومي بجانب القصيدة العربية، وكان لأحمد شوقي الحصة الكبرى في أغنيات أم كلثوم الدينية، من «سلوا قلبي» إلى «نهج البردة»، و«ولد الهدى».

وغنت أم كلثوم أغنيات دينية أخرى للسنباطي، مثل «رابعة العدوية»، «على عيني بكت عيني»، «عرفت الهوى»، «يا صحبة الراح»، «تائب تجري دموعي ندمًا»، «حديث الروح».

كما لحن السنباطي الكثير من أغنيات أم كلثوم السياسية والوطنية، حتى بلغت 33 أغنية، أشهرها: «قصيدة النيل»، «مصر تتحدث عن نفسها»، «وقف الخلق ينظرون»، «مصر التي في خاطري»، «نشيد بغداد»، «منصورة يا ثورة أحرار»، «قصة السد»، «ثوار»، «راجعين بقوة السلاح»، «حق بلادك».

وبعد حادث المنشية عام 1954 غنت أم كلثوم لجمال عبد الناصر من تلحين السنباطي «يا جمال يا مثال الوطنية»، وعندما تنحى غنت من تلحينه أيضًا «قم واسمعها من أعماقي» تناشده فيها البقاء في الحكم، كما غنت في موت عبد الناصر قصيدة نزار قباني «رسالة إلى عبد الناصر»، ولم تغن بعد موته أي أغنية سياسية أو وطنية.

وبحسب فكتور سحاب، يصل مجموع ما غنت أم كلثوم من أنغام السنباطي نحو 96 أغنية، 21 قصيدة، 24 مونولوجًا، 13 طقطوقة، 33 أغنية وطنية، 15 أغنية سينمائية.


السنباطي غير الكلثومي

يكاد يختلف السنباطي غير الكلثومي تمام الاختلاف عن الكلثومي في مزاج أغنياته وأشكال صياغتها، وحتى في المقامات والإيقاعات. ورغم هذا التنوع، يعرف قطاع كبير من الجمهور من السنباطي كلثومياته أكثر مما يعرفون غيرها، على الرغم من أن ألحان السنباطي غير الكلثومية تمثل نصف ميراثه الضخم في الموسيقى العربية المعاصرة، بواقع 97 أغنية، 12 أغنية أخرى غناها بصوته.

أمد وجه «السنباطي الآخر» المستمع صنفًا آخر من ألحانه، فكان إسهامه كبيرًا في الأفلام الغنائية، فلحن لليلى مراد مثلًا في فيلمها «ليلى غادة الكامليليا» عام 1942: «مين يشتري الورد مني»، «الحبيب»، «ياربي تمّ الهنا»، ولحن لأسمهان في فيلمها «غرام وانتقام» عام 1944: «أيها النائم»، «نشيد الأسرة العلوية».

وفي عام 1945 لحن لليلى مراد في فيلم «ليلى بنت الفقراء»: «احنا الاتنين»، «اللي في قلبه حاجة يسألني»، «ليلة جميلة يا محلاها». وفي فيلم نور الهدى الأول «جوهرة» لحن لها السنباطي: «ياريت كل الناس فرحانة»، «يا أوتومبيل».

كما غنت سعاد محمد للسنباطي في فيلم «فتاة من فلسطين»، وفيلم «أنا وحدي» أغنيات عديدة منها «فتح الهوى شباك». وغنت له صباح: «الليل لنا»، «يا هواي». ولحن لفايزة أحمد أربع أغنيات آخرها «لا يا روح قلبي أنا». ووضع لحنين لفيروز قبل رحيله هما: «بيني وبينك خمرة وأغاني»، «أصابعي منك في أطرافها قُبل».

والسنباطي هو ملحن أغنية محمد عبد المطلب الشهيرة «شفت حبيبي»، كذلك لحن لعبد الغني السيد عدة أغنيات أبرزها: «شفت الأمل والهنا». ولنجاح سلام «عايز جواباتك»، «أنا النيل مقبرة الغزاة»، وكذلك غنت له نجاة الصغيرة سبع أغنيات أشهرها «يا سلام عليك»، وغنت له وردة «يا لعبة الأيام»، وفتحية أحمد «رأى اللوم»، وغنت ميادة الحناوي من ألحان السنباطي، بعد وفاة أم كلثوم، «ساعة زمن».

ولم يغن عبد الحليم حافظ للسنباطي سوى أوبريت «لحن الوفاء» مع شادية عام 1954، وأغنية «فاتوني ألتقي وعدي» في فيلم «ليالي الحب» عام 1956.

ومن أشهر السنباطيات غير الكلثومية ولا السينمائية، أغنية سعاد محمد «يا قدس يا حبيبة السماء»، أنشودة «إذا الشعب يومًا أراد الحياة».


السنباطي مطربًا

يُنسب لمحمد عبد الوهاب قوله:

هكذا يرصد فكتور سحاب رحلة السنباطي المطرب، الذي كان مقلًا في الغناء، وفي الفيلم الوحيد الذي مثله «حبيب قلبي» عام 1952، غنى من ألحانه «على عودي»، «فاضل يومين».

وبجانب «أشواق»، غنى السنباطي قصيدة «فجر»، وقصيدة رائعة لم تشتهر اسمها «أين حبي»، ومطلعها «ذات يوم يا حبيبي كان عصفور يناجي بالهوى أجمل زهرة»، كما غنى دعاء «إله الكون سامحني».

وهناك تسجيلات أخرى عديدة لأغنيات بصوت السنباطي مثل «حكاية في الحي»، «يا حبيبي لا تقل لي»، ودورين للشيخ سيد درويش هما: «أنا هويت»، «ضيعت مستقبل حياتي»، وبصوته أيضًا أغنيات لحنها لأم كلثوم وغناها على عوده منها «سلوا قلبي»، «عودت عيني»، «رباعيات الخيام».


أحسن موسيقِي في العالم

لو لم يغن السنباطي غير قصيدة أشواق، لحق له أن يعد مطربًا كبيرًا.

يروي صميم الشريف في كتاب «السنباطي وجيل العمالقة» قصة حصول عملاق الموسيقى العربية على جائزة أحسن موسيقي في العالم، حيث رشحته منظمة اليونسكو للجائزة بناءً على طلب «مصري عربي» ممثل في «اللجنة الموسيقية العليا» برئاسة أحمد شفيق أبو عوف، والتي رشحت السنباطي بإجماع الأصوات، و«مجمع الموسيقى العربية» برئاسة التونسي صالح المهدي، وبإجماع الأصوات أيضًا رُشح السنباطي، لذا وافق المجلس الدولي للموسيقى ومنظمة اليونسكو على ترشيحه.

ومما جاء في رسالة تلك الجهات لليونسكو: «إن الموسيقار رياض السنباطي هو الموسيقي الوحيد في مصر الذي تنطبق عليه شروط الجائزة؛ لأنه الوحيد الذي لم يتأثر بأية موسيقى أجنبية، كم أن أعماله الموسيقية وروائعه مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم تؤكد حقه في الحصول على الجائزة».

تألفت لجنة التحكيم من 6 أعضاء برئاسة الموسيقي «إيمون كراوس» وعضوية صالح المهدي و4 آخرين من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية والهند وسويسرا.

وبعد نقاش طويل واطلاع على أعمال المرشحين للجائزة، أعلنت اللجنة، في 30 أبريل 1977، فوز رياض السنباطي بجائزة «أحسن موسيقي في العالم»، ومنحه كأس الفوز وهو عبارة عن كأس ضخم من الكريستال ومبلغ 10 آلاف دولار.

بعد حصوله على تلك الجائزة الموسيقية العظيمة بشهرين، تلقى السنباطي، في يوليو 1977، من الرئيس أنور السادات وشاح الدكتوراه الفخرية.

علّق السنباطي وقتها على تلك الجوائز بقوله:

لقد أعطيت الكثير من خلاصة عرقي وجهدي وسهري لجمهوري الحبيب فأعطاني الحب والتقدير، وأخيرًا الجائزة.

بعد 4 سنوات، تحديدًا في صباح الأربعاء 9 سبتمبر 1981، توفي عملاق النغم الشرقي بعد معاناة طويلة مع مرض الربو، تاركًا خلفه ميراثًا ثريًا قادرًا على الصمود ألف عام.