دعني أقص عليك قصة رومانسية. كان فيما كان في أي مكان أو زمان، أن التقى رجل وامرأة. غمرهما الانجذاب الفطري أحدهما للآخر، تقول له: «تكلم حتى أراك»، فيجيبها: «ﻻ أريد أن أحزنك». يزداد انجذابها نحوه. تتصاعد المشاعر وتتطور من الانجذاب إلى الإعجاب إلى الحب. تغمرهما سعادة البدايات وحميميتها، ثم تتطور العلاقة بمرور الزمن، وتفتر أيضًا بفعل الزمن، ليبقى الانفصال نهاية محتومة.

يعود الزمن ليلعب لعبته. يغمرهما الحنين، وتجلو بفضله الذكريات، ثم يجمعهما الزمن مرة أخرى، لكن هذه المرة يلتقيان كشخصين آخرين، ضمدت الأيام جراحهما، وصقلتهما التجربة، ولم يبق سوى ندوب الماضي كشواهد مادية للذكريات.

أراك تخاطب نفسك: لقد سمعت تلك القصة مرارًا، قرأتها في الروايات، ورأيتها في الأفلام، وخبرتها في الواقع، فما الجديد الذي اكتسبته في الدقائق القليلة الماضية؟ هذا بالتحديد هو جوهر فن الحكي، فالكثير من القصص في التراث الإنساني، بين الديني والميثولوجي، وبين القديم والحديث، ما هي إلا إعادة تدوير لقصة الإنسان. إذن أين يكمن الإبداع؟ الإبداع، عزيزي القارئ، يكمن في فعل القص ﻻ القصة نفسها، وهو ما يمكن أن تلمسه بجرعة زائدة من العذوبة والرقة في واحد من أجمل أفلام هذا العام، الفيلم الإيطالي ?Ricordi الذي لم تعدُ قصته أن تكون إعادة تدوير وحكي للقصة الرومانسية التقليدية، ولكن بأدوات سينمائية خالصة كالذهب، ودقيقة كميزانه.

في السطور القليلة القادمة أصحبك معي في رحلة نستكشف فيها كيف قدم المخرج الإيطالي ذو الأربعين عامًا فاليريو ميلي تلك القصة التقليدية بأكثر الطرق ابتكارًا، وأدقها صنعة، وأجملها رسمًا.


السرد

ما هو السرد؟ دعنا نرسم صورة بسيطة بالقلم الرصاص نشرح من خلالها السرد. إذا كانت القصة تدور حول بطل يخوض رحلة من المكان (أ) إلى المكان (ب)، وفي خلال هذه الرحلة سيواجه الصعوبات (1)، (2)، (3). فالسرد هو إجابتك على سؤال: كيف ستحكي هذه القصة؟ وهذا السؤال الشامل يتضمن العديد من الأسئلة الفرعية، فعلى سبيل المثال: على لسان من ستحكي القصة؟ على لسان البطل أم على لسان شخصية من داخل عالم القصة كصديق البطل مثلًا أم على لسان راوٍ من خارج القصة لكنه يعرف تفاصيلها معرفة محيطة شاملة؟

لنأخذ سؤالًا فرعيًّا ثانيًّا: من أي نقطة زمنية تبدأ القصة؟ هل تبدأ من قرار خوض الرحلة وتتبع تفاصيلها بشكل خطي إلى الأمام أم تبدأ من لحظة انتهائها وتتبع تفاصيلها بشكل رجعي عن طريق Flash Back أم عن طريق الذكريات؟

الكثير والكثير من الأسئلة التي تظهر إجاباتها في صورة اختيارات متعددة ومتنوعة أمام الكاتب أو المخرج ليقص قصته، ولكن ما يهم هنا أن أكثر القصص تقليدية، وأكثرها تكرارًا على مسامع المتلقي أو المشاهد، قد تصير قصة جديدة بالكلية إذا ما اختلفت طريقة سردها. وهذا بالتحديد ما نراه في فيلم «?Ricordi».

اختار فاليريو ميلي، مخرج ومؤلف العمل، أن يسرد قصته عبر ذكريات أبطالها، وهو اختيار وإن لم يبدُ مختلفًا أو جديدًا، إﻻ أن تنفيذه بصريًّا هو ما جسد جين الإبداع الذي يحمله صناع هذا الفيلم.

يُسْرَدُ الفيلم بالكامل عبر ذكريات الشخصيات، فيبدأ بذكريات البطلين عن لقائهما الأول، وهنا يعقد الفيلم اتفاقه الضمني مع المشاهد بشأن حقيقة الذكريات. فالذكريات ﻻ تمثل الواقع أو الحقيقة، ولكنها تمثل رؤيتنا لهذا الواقع كيفما انطبعت في عقولنا وفقًا لسياقها، ووفقًا لحالتنا النفسية وقت حدوثها، فنرى أن ذكريات البطلين عن اللقاء الأول وإن تشابهت في تفاصيله الرئيسية، إلا أنها اختلفت في رؤية كل منهما وفقًا لحالته النفسية. فالبطل تغلب عليه نظرة متشائمة للعالم، وﻻ يحمل من ذكريات طفولته إلا اللحظات الصعبة، أما البطلة فعلى النقيض ترى العالم جميلًا، وحتى أقسى ذكريات طفولتها والمتمثلة في موت جدها تراها بصورة رومانسية وبألوانٍ زاهية.

تقول له: «لماذ ﻻ تتكلم؟» فيجيبها: «ﻻ أريد أن أحزنك».

هكذا بدأت العلاقة، بشخصين على طرفي النقيض. كلاهما يشعر بالانجذاب نحو الآخر، لكنه يتقدم بخطى مترددة، يخبرها أن بدء العلاقة يعنى بالضرورة بداية نهايتها. بينما هي في المقابل متحفزة للخطوة الأولى، تستشعر حلاوة البدايات، وتختار حاضرها، بينما هو يرضخ لذكرياته الأليمة، ويرفض أن يبارح ماضيه. غير أنه ﻻ يملك من أمره شيئًا أمام انجذابه لها، لتبدأ رحلة قصة الحب التقليدية، التي تتحقق معها نبوءة البطل لتنتهي العلاقة إلى انفصال محتوم.

يواصل الفيلم جريانه، ويتعقد السرد أكثر فأكثر، غير أن المشاهد قد أيقن من المشهد الأول أنه بصدد تجربة مختلفة تتطلب قدرًا كبيرًا من التيقظ، فيمسك بخطوط السرد، وﻻ يفلتها. ينتقل السرد من ذكريات البطل إلى ذكريات البطلة، وفي مرحلة ما يستعين بذكريات بعض الشخصيات الثانوية، وخلال هذه العملية المعقدة تتكرر بعض المشاهد، فنراها في ذكريات البطل برؤيته وحالته الخاصة، ثم نعيد رؤيتها بعيون البطلة وحالتها في ذكرياتها الخاصة ليكتمل بذلك رسم الشخصيات المعقدة هي الأخرى، كل ذلك والمشاهد ﻻ يفقد تماهيه مع الشخصيات، وﻻ يجد أي صعوبة في مجاراة هذا الأسلوب السردي المعقد، بل على العكس يزيد هذا التعقيد من استمتاعه بمشاهدة قصة حب تقليدية، ولكن في قالب سردي مختلف، ومعقد، وممتع في آن.


الزمن

الزمن هو أحد أهم عناصر اللغة السينمائية. فعندما تشاهد فيلمًا تستغرق أحداثه سنوات ضُغِطَتْ في ساعتين على الأكثر، فأنت بصدد إدراك خاص لعنصر الزمن. فهناك الزمن الفيلمي، وهو الزمن الذي يُسَجَّلُ خلاله حدث ما، قد يكون زمن هذا الحدث مطابقًا لزمن تصويره، وقد يقصر أو يطول عن زمن تصويره، فعلى سبيل المثال، عادة ما يقصر الزمن الفيلمي عن زمن الحدث إذا كان المشهد يصور فعل الانتظار، فقد ينتظر البطل خبرًا ما، ويطول انتظاره لهذا الخبر لمدة قد تصل إلى الساعات، لكننا نختبر هذه الساعات الطويلة على الشاشة في دقائق. أما في الحالة المقابلة، فقد يكون البطل مشغولًا بأمر ما، ﻻ ينفك يفكر فيه، حينها ندخل إلى عقل الشخصية، وتستطيل الثواني والدقائق لتستغرق أكثر من وقتها الحقيقي، وهذا ما نطلق عليه «الزمن الفيلمي».

وهناك الزمن الاعتباري، فمثلًا عندما يتخيل البطل موقفًا ما فإن الزمن هنا لا يكون زمنًا حقيقيًّا وإنما اعتباريًّا تجسده أفكار الشخصية، كذلك الأمر في الأحلام، فالزمن في الحلم هو زمن اعتباري وليس حقيقيًّا، وهو أيضًا ما ينطبق على الذكريات.

وعليه، عزيزي القارئ، يمكننا أن نقول إن فيلم ?Ricordi يدور بالكامل في الزمن الاعتباري، داخل ذكريات الشخصيات، ولكن الأمر ﻻ يتوقف عند ذلك. فكما سبق أن أشرنا فيما يخص السرد أن الفيلم يتحرك بشكل حر بين ذكريات أبطاله، وبالتبعية بين الحاضر والماضي. الزمن هنا فاعل حقيقي، ويلعب دورًا هائلًا في تقدم الأحداث، سواء بتطور الشخصيات (جسديًّا ومعنويًّا)، أو بتطور العلاقة بين توهج البداية، وفتور الوسط، وألم الانفصال، وأخيرًا في تأثيره على الذكريات سواء بذبول بعضها، أو بتحول الآخر.

في أحد المشاهد يعود البطل إلى بيت طفولته بعد سنوات طويلة من هجره، يقول لحبيبته: «إنه يبدو كما لو كان انكمش». الذكريات قد تكون خادعة، خاصة ذكريات الطفولة، إذ يختلف إحساسنا بالمكان وأبعاده وفقًا لاختلاف حجمنا وأبعادنا ما بين الطفولة والشباب.

تقول أم كلثوم: «وإيه يفيد الزمن، مع اللي عاش في الخيال».

ربما يكون هذا الشطر الشعري مفسرًا جيدًا لفلسفة الفيلم ومخرجه في رؤيته لشخصياته وقصته. فعلى الرغم من التأثير الطاغي للزمن على الحدث، إﻻ أنه يبدو كما لو كان غير مرئي بالنسبة للشخصيات. فالبطل يرفض قانون الزمن، ويرفض مبارحة الماضي من أجل الحاضر أو المستقبل، يرفض الخوض في علاقة عاطفية مع امرأة يشعر بالانجذاب نحوها لإدراكه لتأثير الزمن، وإيمانه بأن بداية العلاقة ما هي إﻻ نذير بنهايتها، غير أنه على تجاهله المقصود للزمن ﻻ يدرك سوى تأثيره المادي المتمثل في نضوجه الجسدي، وفي انكماش المنزل، ويغفل عن تأثيره المعنوي حتى يصطدم به في الفصل الأخير من الفيلم بعد زيارة الماضي في ثوب الحاضر. أراك، عزيزي القارئ، تشعر بأن الأمر قد اختلط عليك لغموض السطور القليلة الماضية، ولكن دعني أشرح لك.

بنهاية الفيلم يذهب البطل لزيارة حبيبة مراهقته، فيراها وقد بدلها الزمن، لدرجة أنها لا تتذكره بمجرد رؤيته، وبعد حديث قصير معها يدرك أنه هو الآخر قد تغير، ولم يعد ذلك المتشائم الرافض للحاضر والمستقبل، غير أن الزمن ﻻ يمهله الفرصة، فعلاقته بحبيبة الحاضر قد تعقدت بالفعل. فعلى الرغم من قوة الحب الدافعة، فإن العلاقة تشققت كما لو كانت لوح زجاج يبدو متماسكًا بينما سطحه تغشاه الشروخ، وبالرغم من هذا التماسك الزائف، فإن هذه الشروخ ﻻ تتوانى عن جرح من يقترب منها، وعليه لم يكن هناك من بد سوى الفراق.

في أحد المشاهد ينتقل السرد من إحدى ذكريات البطلة التي تتعرض فيها لجرح أحد ساقيها، إلى الحاضر حيث البطل يلثم ندبة هذا الجرح نفسه، في محاكاة بصرية هائلة لفعل الزمن، وأثره على جروح الجسد والروح التي ﻻ تلبث أن تضمد -بفعله أيضًا- وتتحول لشاهد ذكرى نعود إليها لنستمد منها القوة، ﻻ لنرضخ لشعورنا بالضعف إزاء الجرح، ويضيع حاضرنا في غياهب الماضي، أو كما تقول البطلة في أحد المشاهد: «إننا نحتاج إلى عمر مضاعف لاسترجاع ذكرياتنا كاملة».


المونتاج

ما هو المونتاج؟

المونتاج -في أبسط تعريفاته- هو إعادة ترتيب المشاهد المصورة في سياقها المناسب وفقًا للقالب السردي. وهو بهذا التعريف البسيط يبدو عملية ميكانيكية أو تقنية بالأساس، غير أنه في الحقيقة عمل فني مستقل بذاته، بل بالأحرى أحد أهم العناصر الفنية في صناعة الأفلام.

وبدون الدخول في تفاصيل نظرية، دعنا، عزيزي القارئ، نتوقف عند ذلك العمل الاستثنائي الذي قامت به المونتيرة الإيطالية Desideria Rayner. بالنظر إلى ذلك القالب السردي المعقد، وهذا الدور المحوري لعنصر الزمن في بناء فيلم ?Ricordi بصريًّا ودراميًّا، يمكننا أن نتخيل مدى خطورة وأهمية عملية المونتاج في هذا العمل.

كما أسلفنا، يبرم الفيلم من أول مشاهده عقدًا ضمنيًّا مع المتلقي، يعده فيه بسرد مختلف لقصة تقليدية، لكنه في الوقت نفسه يتحمل مسئولية الحفاظ على وعي المشاهد، حتى ﻻ يتشتت وسط هذا الكم الهائل من الخيوط السردية المعقدة، بين الذكريات والواقع من جهة، وبين الذكريات والحلم من جهة أخرى، وبالطبع بين الحاضر والماضي اللذين يتحرك بينهما السرد بحرية مطلقة.

للإلمام بهذه المهمة الصعبة كان هناك مزيج من الخيارات المتقنة، منها التمييز اللوني بين الذكريات بعضها وبعض، وبين الذكريات والواقع والحلم، فذكريات البطلة السعيدة نراها بدرجات الأصفر الدافئة، أما ذكريات البطل الأليمة، سواء تلك المستمدة من طفولته، أو من مرحلة التوتر في علاقته بالبطلة، نراها بدرجات الأزرق الباردة. وهناك أيضًا التفاوت في سرعة القطعات، بين القطعات السريعة للقطات مماثلة كما في لقطة جرح البطلة في مرحلة الطفولة، ولقطة ندبة الجرح في مرحلة الشباب، وكذلك القطعات السريعة لذكريات بداية العلاقة السعيدة، وما يرتبط بها من التعبير عن مدى الإحساس بسرعة الأوقات السعيدة، في مقابل القطعات البطيئة المتأنية في مرحلة توتر العلاقة.

يلعب المونتاج أيضًا دورًا محوريًّا على مستوى السرد، والانتقال المتردد بين الشخصيات المختلفة وذكرياتها، فتأجيل بعض المعلومات، أو تقديم بعضها على البعض الآخر، يساعد في زيادة تماهي المشاهد مع حالة المشهد، كما في مشاهد علاقة البطلة بصديق البطل، وكذلك في مشاهد ذكريات صديق البطل، التي يتم الإرهاص بها مع أول ظهور لهذه الشخصية على الشاشة.

ﻻ يزال هناك الكثير من التفاصيل التي يمكن الوقوف عندها في هذا العمل السينمائي الرائع، لكنني، عزيزي القارئ، أخشى من طول المقال، ولذلك لن أخوض في الحديث عن الأسلوب البصري البديع الذي اعتمده الإيطالي فاليريو ميلي للتعبير عن الذكريات وما تحمله من فلسفة خاصة في تعريف الإنسان، ولن أحدثك عن المجازات البصرية التي تعبر عن الذكريات الكامنة في الأشياء، والأصوات، والروائح، والطعوم، ولكنني سأترك لك فرصة الاستمتاع بمراقبة هذه التفاصيل وغيرها في عمل سينمائي خالص كالذهب، ودقيق كميزانه.