حياتك ليست فارغة، إنها بلا معنى، لا تخلط بين الأمرين، إنها بلا معنى للجميع لكن هذا ليس معناه أن تظل فارغة. أنت إنسان يمكنك أن تملأها بالعمل، العائلة والحب. نعم، الهراء المعتاد لكنه مفيد جدًا وفعال.
مشهد الشطرنج من فيلم The Seventh Seal
مشهد الشطرنج من فيلم The Seventh Seal

هكذا يتكلم الموت مع مورت ريفكن الشخصية الرئيسية في فيلم وودي آلن الأحدث «Rifkin’s Festival» بينما يلاعبه الشطرنج على شاطئ مدينة سان سيباستيان في محاكاة لأحد المشاهد الأيقونية في تحفة معلمه السويدي «انجمار برجمان» المعنونة بالختم السابع (The Seventh Seal). يفهم آلن هذه المقولة جيدًا خاصة فيما يتعلق بالعمل، منذ مطلع الثمانينات واظب آلن بدأب يحسد عليه على صناعة فيلم كل عام ينهي مونتاج فيلمه السابق ليبدأ في كتابة فيلمه اللاحق. فالرجل الثمانيني بكل تاريخه لا يزال مصرًا على العمل، إنه وسيلته الفعالة في تشتيت ذهنه عن التفكير في خلو الحياة من المعنى.

لا يضع آلن نفسه رغم مواهبه العديدة ومسيرته السينمائية الممتدة لأكثر من نصف قرن من عمر السينما في مرتبة الفنانين الكبار، يرى فنه مجرد مهنة يتقنها جيدًا، لكنه في فيلمه الأحدث يمرر التحية لهؤلاء الكبار في مهرجان مفتوح للسينما التي يحبها آلن.

آلن، أما زلت تسأل الأسئلة نفسها؟

كي نضع وودي آلن في سياقه داخل تاريخ السينما الأمريكية، علينا أن نعود أولاً إلى شارلي شابلن، حيث فكرة الممثل الذي يصير كاتبًا ومخرجًا، أن يصير المؤلف الحقيقي لعمله، والذي يضع ذاته في مركز هذا الكون السينمائي باستمرار عبر عدد من الأفلام، ومن ثم تصير ذاته جزءًا من الثقافة السينمائية، في الواقع هذا ما يفعله وودي آلن في زمننا الحاضر.
الكاتبة والمؤرخة السينمائية آنيت انسيدروف

مشاهدة فيلم جديد لآلن أشبه بملاقاة صديق قديم، حيث كل شيء مألوف وحميمي. هناك هامش ضئيل للمفاجآت. تعرف مسبقًا ما سوف تراه، تتبدل الوجوه والأماكن والحكايات لكن في قلب عالمه السينمائي يوجد آلن دائمًا بقلقه وهواجسه. شخصياته رومانسية على نحو ميؤوس منه، تتأرجح دومًا بين النوستالجيا والفانتازيا.

في أحدث أفلامه (Rifkin’s Festival) يأخذنا آلن هذه المرة لمدينة سان سباستيان الاسبانية، هو الذي اعتاد مؤخرًا في أفلامه التجول بحكاياته في مدن أوروبية ذات سحر خاص. يذهب مورت ريفكن/ والاس شون بصحبة زوجته سو/ جينا جيرشون لحضور مهرجان السينما الذي يقام هناك لأنه غير قادر على مقاومة شكه في إعجاب زوجته بالمخرج الفرنسي فيليب/ لويس جاريل الذي يدير الحملة الدعائية لفيلمه الجديد وهو مثال آخر للمثقف المتعجرف والمدعي الذي يتكرر ظهوره في أفلامه ويحلو له السخرية منه، تخبر سو زوجها عن فيليب: هل سمعته يتحدث عن فيلمه القادم، أنه سيحاول حل معضلة الصراع العربي الإسرائيلي؟ فيجيبها نعم، أنا سعيد أنه سيتوجه لصناعة أفلام الخيال العلمي.

نعرف أيضًا أن مورت كان أستاذًا جامعيًا في شبابه يدرس السينما والآن يعمل على رواية يرغب في أن تكون تحفة أدبية وليس مجرد كتاب آخر لكنه غير قادر على الإنجاز. نتحرك هنا في منطقة آلن المألوفة والآمنة، نحن أمام الشخصية الرئيسية المعتادة في سينماه بكل عصبيتها وأسئلتها. نفس نمط العلاقات والانجذابات، زواج مهترئ بين شخصيتين متباينتين مع مصادفات تدفع الشخصيتين في اتجاهين مختلفين. تدفع سو إعجابها بفيليب خطوة أبعد وتقرر الانفصال عن مورت بينما يقع مورت المصاب بوسواس المرض في حب طبيبته الإسبانية التي درست الطب في نيويورك وتشاركه ذوقه السينمائي ومحبته للأفلام الكلاسيكية لكنها تقرر الاستمرار في زواجها بالرسام الإسباني الذي يخونها باستمرار ويهددها بالانتحار حال انفصالها عنه.

 في مشهد هو أقرب إلى حلم يقظة حاكى أحد مشاهد تحفة الإيطالي الكبير فيلليني (ثمانية ونصف- ½8) يلتقي مورت بحاخام هو أحد شخصيات ذاكرته يسأله: أخبرني يامورت: أما زلت تسأل مثل هذه الأسئلة الكبيرة؛ الرب، الموت، معنى الحياة ؟ فيجيبه: بالطبع إنها الأسئلة الوحيدة التي تستحق أن تسأل، والباقي مجرد تفاهة. طيلة مسيرته السينمائية وهذه هي نفس الأسئلة التي تؤرق شخصيات آلن لأنها في فلسفته هي وحدها الأسئلة الجوهرية للإنسان، أسئلة يتخبط معها الإنسان طيلة حياته دون إجابة قاطعة.

 تحية آلن لفن السينما أو سينما الفن

إذا كان لي أن أغلق عيني وأتخيل وودي، صورة له سأبقيها معي فستكون صورته وهو يشاهد فيلم برجمان (صرخات وهمسات – Cries and Whispers) كان مأخوذًا تمامًا بالفيلم وقد ظهر ذلك واضحًا على وجهه، رأيت ذلك وتأثرت به وأحببته أكثر
ديان كيتون عن وودي آلن
لقطة من فيلم Rifkins Festival
لقطة من فيلم Rifkins Festival

في أفلامه السابقة، رأيناه يحيل إلى أفلامه المفضلة أو يتحدث عن مخرجيه المفضلين بل هناك بعض أفلامه التي تعد كمحاكاة حرة لسينما المعلمين الأكثر تأثيرًا في سينماه، برجمان و فيلليني مثل (Interiors) و (Stardust Memories). في (Rifkin’s Festival) هذه هي المرة الأولى التي نشاهد فيها ذلك على هذا النحو المكثف والذي يبدو كتحية لفن السينما، للسينما التي يفتقدها آلن اليوم كما أنها جزء من حالة النوستالجيا المسيطرة على بطله حيث يصير المهرجان الذي يسكن عنوان الفيلم هو مهرجان آلن الخاص، فباستثناء فيلم «فيليب» لا يبدو الفيلم مهتمًا بما يعرض على شاشة المهرجان الذي تدور أحداث الفيلم خلاله بل بما يعرض على شاشة أحلام مورت ريفكن سواء كانت أحلام نوم أم يقظة.

يعرب آلن عن نيته مبكرًا من خلال الأغنية المصاحبة لعناوين البداية (Wrap Your Troubles in Dreams)، فمخاوف شخصيته الرئيسية كلها تتسرب إلى أحلامها التي تستعير مشهديتها وأسلوبيتها من أفلام آلن المفضلة مستعينًا على ذلك بكاميرا مدير التصوير الإيطالي الكبير فيتوريو ستوارو الذي يجدد تعاونه معه للمرة الرابعة.

يصوغ آلن من سينما الفن ثوبًا براقًا ترتديه أحلام شخصيته الرئيسية. «المواطن كين» لأورسون ويلز، «برسونا» برجمان، «الملاك المبيد» لبونويل، «جول وجيم» تروفو و«منقطع الأنفاس» لجودار هذه بعض الأفلام التي يمرر آلن بعض مشاهدها إلى فيلمه مضيفًا لمسته الخاصة إليها ففي أحد أحلام مورت مشهد يحاكي أحد مشاهد فيلم برسونا لبرجمان يجعل آلن ممثلتيه تتحدثان السويدية مع الترجمة تقول إحداهما للأخرى: خطيئة مورت الوحيدة أنه أحب الأفلام المترجمة. هنا يمرر ألن أكبر تحية لفن السينما للسينما الأوروبية تحديدًا. فيلمه الأحدث هو بمثابة مهرجان سينمائي يأتيك برعاية آلن وذوقه الخاص.

هل هذا هو آخر أفلام وودي آلن؟

الملصق الدعائي لفيلم The Front
الملصق الدعائي لفيلم The Front

تعرضت أفلام آلن الأخيرة بداية من (Wonder Wheel) – وهو واحد من أفضل أفلامه المتأخرة – لنوع من التجاهل النقدي الواضح، يجعل من الكتابة عن أحدث أفلامه مناسبة لقراءة اللحظة التي يعيشها مخرج كبير بحجم وودي آلن.

 دأب آلن كما أشرنا سابقًا على صناعة فيلم كل عام وهو الأمر الذي بات مهددًا الآن مع ما يتعرض له آلن نتيجة تجدد اتهامات تحرش الجنسي بديلان فارو -ابنة الممثلة ميا فارو بالتبني- المواكبة لحركة (Me Too) المنددة للتحرش والانتهاكات الجنسية في هوليوود. تعود الأزمة إلى عام 1992، حين كانت ديلان في السابعة من عمرها، وعلى الرغم من إسقاط التهم الموجهة ضد آلان في أكثر من تحقيق، أساء تجدد هذه الاتهامات إلى سمعة آلن ومكانته، ودفعت ببعض الممثلين والممثلات الذين عملوا معه سابقًا، لإعلان أنهم لن يعملو معه مجددًا، كما فسخت مجموعة أمازون عقدًا لصالح آلن بإنتاج وتوزيع أربعة من أفلامه. أوقفت العديد من الجامعات تدريس سينماه كجزء من مناهجها كما تم اقتطاع مشاركته ضمن عمل وثائقي عن فندق كارليل الشهير بنيويورك.

مذكرات وودي آلن Apropos of Nothing
مذكرات وودي آلن Apropos of Nothing

يتحدث آلن في مذكراته الصادرة حديثًا والمعنونة (Apropos of Nothing) عن اعتذار أغلب النجوم عن العمل معه في أحدث أفلامه بالإضافة لمشاكل الإنتاج والتوزيع التي يتعرض لها والتي منعت عرض فيلميه الأخيرين داخل أمريكا. يشير آلن إلى تشابه ما يتعرض له الآن مع فيلم كان قد شارك في بطولته سنة 1976 بعنوان (The Front) يدور في زمن المكارثية. يحق لنا أن نسأل الآن بعد ما يتعرض له آلن هل فيلمه رقم 49 (Rifkin’s Festival) هو آخر فيلم سيأتينا بتوقيع آلن ككاتب ومخرج؟

يكتب آلن في مذكراته المشار إليها مسبقًا بشيء من المرارة والسخرية عن اللحظة التي يعيشها: أحب صناعة الأفلام، ومع ذلك لن يصيبني الضيق إن لم أصنع أبدًا فيلمًا جديدًا وسأكون سعيدًا أن أعود لكتابة المسرحيات. إن لم يقدم أحد على إنتاجها سأكون سعيدًا بكتابة الكتب. إن لم يقم أحد بنشرها سأكون سعيدًا أن أكتب لنفسي واثقًا بأنه إذا ما كانت كتابتي جيدة ستكتشف وتقرأ من قبل الناس، أما إذا كانت سيئة فمن الأفضل ألا يطلع عليها أحد. مهما يحدث لعملي حين أرحل فهو أمر لا يخصني تمامًا.