في أمريكا اللاتينية كان الرعب يصيب كل من يفكر في انتخاب اليسار. العالم سيقاطعك، وسماؤك ستمطر عقوبات، وثرواتك الطبيعية لن تنفعك، والقوى العظمى الدولية ستخطط لإغراقك في فوضى سياسية سريعة وعميقة. لكن يبدو أن كل ذلك لم يمنع دول أمريكا اللاتينية في العودة مرة أخرى للقطار الذي سقطت منه منذ سنوات، قطار المد القرمزي.

منذ عشرين عامًا شهدت أمريكا اللاتينية مدًا يساريًا ضخمًا. كان تدريجيًا لكنه كان سريعًا كذلك. بدأ مع وصول هوجو شافيز إلى رأس الحكم في فنزويلا عام 1998. ثم لحقه لولا دا سيلفا في البرازيل عام 2002. وبعد عام واحد وصل نستور كيرشنر إلى سدة الحكم في الأرجنتين. أما عام 2005 فأصبح إيفو موراليس رئيسًا لبوليفيا. وعاد دانيال أورتيجا إلى الحكم في نيكاراجوا في نفس العام. بعد 3 سنوات وصل خوسيه موجيكا إلى الحكم في أوراجوي. ثم في عام 2010 انتخب البرازيليون ديلما روسيف بديلة لدا سيلفا. وأصبح نيكولاس مادورو خلفًا لزعيمه وقدوته هوجو شافيز عام 2013.

تلك الفقرة السابقة تختزل سنواتٍ من أعمار تلك الدول. في تلك السنوات قررت تلك البلدان، بغير تحالفٍ منظم، أن تنعطف نحو اليسار. اختار المجتمع الغربي أن يُطلق على تلك الانعطافة مصطلح الغزو اليساري للسلطة. لكن اختار المؤيدون أن يصفوها بالموجة الوردية أو المد الوردي أو المد القرمزي.

لكن إذا نزعنا عن كلمة غزوة دلالتها التي أرادها الغربيون، أن يبدو الأمر كأنه احتلال وفرض لأنفسهم بالقوة، فيمكن وصف ما فعله اليسار في تلك المرحلة بالغزو فعلًا. فهؤلاء الذين وصلوا إلى أرفع منصب سياسي في بلدهم أتوا في الأصل من أدغال بلادهم، ومن مناطق مهمشة. وكذلك أتوا من عصابات أو جماعات كانت تؤمن بالعنف المسلح طريقةً للثورة.

البلدعدد السكان
(مليون نسمة)
الرئيسالحزبالأيديولوجيةسنة الحكم
البرازيل216لولا دا سيلفاحزب العماليسار2022
كولومبيا53جوستافو بيتروالعهد التاريخي من أجل كولومبيايسار2022
الأرجنتين46ألبرتو فرنانديزالحزب العدلي (البيروني سابقا)يسار2019
بيرو34بيدرو كاستيلوحزب بيرو الحرة (غادر الحزب)يسار2021
فنزويلا27نيقولاس مادوروالحزب الاشتراكي المتحديسار2013
تشيلي20جابرييل بوريكحزب التلاقي الاجتماعييسار2022
الإكوادور18جواليرمو لاسوحزب خلق الفرصيمين2021
بوليفيا12لويس آرسالحركة من أجل الاشتراكيةيسار2020
الباراجوي7ماريو عبدو بينيتيزحزب كولورادويمين2018
الأوروجواي4لويس لاكالي بوالحزب الوطنييمين2020
رؤساء أمريكا اللاتينية وانتماءاتهم السياسية

اليسار يعيد ترتيب أوراقه

لعل ذلك ما يفسر جانبًا مما حدث للموجة الوردية. إذ تكسرت تلك الموجة على صخرة الواقع الصعب، والتحالف الدولي ضد اليسار. الخبرة غير الكبيرة لهؤلاء القادة في مجال السياسة، وأصولهم التي جعلت العالم يتوجس منهم، أودت بمعظم تجارب المد الوردي إلى نتائج سيئة اقتصاديًا واجتماعيًا. تلقفت الأحزاب اليمينيّة والشعبوية تلك الأداءات السيئة كي تقفز على الحكم مرة أخرى.

مع قدوم عام 2015 بدأ جزر الموجة الوردية. حدث الجزر في دول عديدة مثل البرازيل والأرجنتين، حيث تقلد اليمين الشعبوي الحكم. بدأ الاعتقاد في أن اليسار قد بلغ ذروته وانتهى الأمر، وأن زمن اليمين قد جاء. ترسخ ذلك الاعتقاد مع بداية محاكمات لولا دا سيلفا وديلما روسيف في البرازيل عام 2016. وانتخاب سبياستيان بينيرا في تشيلي عام 2018. والإطاحة بإيفو موراليس في بوليفيا عام 2020. تلك الإشارات قرأها العالم أن الشعوب اللاتينية نفسها قد ملّت من اليسار، وتريد تغيير حكوماتها.

لكن في زاوية ضيّقة من المكسيك كان اليسار يعيد ترتيب نفسه. مجموعة يوبيّلا، نسبة إلى المدينة التي شهدت الاجتماع عام 2019. ضمت المجموعة عددًا من الرؤوساء السابقين وزعماء اليسار، وكان هدف الاجتماع هو إعادة تقديم اليسار لنفسه بصورة تقدمية. قالت المجموعة، إن تلك الصورة التقدمية هي الأخذ في الاعتبار ضرورة تقديم عروض مناقضة للوصفات النيوليبرالية التي دمرت بلادهم. على أن تكون تلك العروض مبنية على العدالة الاجتماعية والتضامن والديمقراطية ومواجهة القمع السياسي بكل أشكاله.

لا يمكن القول تحديدًا هل هذا الفكر التقدمي هو السبب في ما سيحدث لاحقًا، أم أن الاجتماع تزامن مع ما حدث فحسب. لكن ما هو أكيد أن منحنى اليسار أخذ في الارتفاع مرة أخرى. فظهر اليسار في المكسيك ثم الأرجنتين عام 2019. ثم انتصر اليسار في بوليفيا عام 2020. وبعد عامٍ واحد حقق نصرًا كبيرًا في بيرو وهندوراس. وفي أوائل عام 2022 انتصر في تشيلي. وفي يونيو/ حزيران 2022 انضمت كولومبيا للقافلة مرة أخرى. ولم تنته السنة إلا وحملت لليسار خبر عودة دا سيلفا للحكم على رأس القاطرة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية، البرازيل.

كر وفر بين اليمين واليسار

لهذا أصبحت الموجة الوردية الثانية أمرًا واقعيًا. فاليمين واليسار يعيشون حالة من الكر والفر داخل أمريكا اللاتينية. يحكم الاقتصاد تلك الحالة، فمع تراجع حالة ارتفاع أسعار السلع التي ساعدت اليسار على تمويل برامجه الاجتماعية في العقد الأول من الألفية، عاد اليمين للحكم.

 تتمتع تلك الموجة الجديدة بدعم، قديم جديد، من غالبية سكان أمريكا اللاتينية. فالإرث اليساري يبدو متجذرًا في الشعوب اللاتينية. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 71% من اللاتينيين يعتقدون أنهم محكومون من قبل طبقة أوليجاركية لا تراعي إلا مصالحها فقط، بينما يعاني الشعب والرؤساء يحاولون وقف التدهور المستمر في أحوال البلاد.

 لكن المختلف هذه المرة، أن تلك الموجة ليست جميعها راديكالية وثورية. إنما حركة يسارية تدرك واقعها المأزوم وتحدياتها المختلفة. لهذا على تلك الموجة أن تستفيد من المناخ الداخلي، وأن تحاول التملص من تأثير واشنطن على الداخل اللاتيني.

فتقترح الموجة الحالية إعادة هيكلة اجتماعية عميقة. فهى تركز على التضامن والحد من الفوارق الطبقية. ولعل ذلك هو ما دفع السكان لاختيارهم مرة أخرى. لأنهم عانوا من سوء إدارة للموارد في حالة وباء كوفيد-19، وبسبب التغير المناخي الذي أثر على نمط حياة الجميع. فاتسعت الفجوة الاجتماعية بين الطبقات، وازداد فقراء أمريكا اللاتينية فقرًا. لذا يمكن القول إن ما حدث كان أشبه بتصويت عقابي للذين تسببوا في تلك المأساة.

تلك النقطة يجب ألا تغيب عن أذهان أصحاب الموجة الثانية. لأن الناخبين ينتظرون تحسنًا ملموسًا في واقع حياتهم. لا يريدون مواجهة الإمبريالية الأمريكية، بقدر ما يريدون منها أن تخفف ضغطها عليهم. لذا فربما يجب على اليسار أن يتحالف مع الولايات المتحدة لرفع تلك الأعباء الملقاة على عاتق أبناء أمريكا اللاتينية، حينها قد يكون اليسار قد حقق الانتصار الأكبر في تاريخه، وحصد تذكرة للحكم لعقود طويلة.

كذلك تزامن صعود اليسار المؤمن بالفعل بقضايا المناخ، مع ضرورة عالمية لتقليص انبعاثات الكربون والتوجه نحو الطاقة النظيفة. بالتالي تكون خطط بعض اليسارين، مثل بيترو في كولومبيا، للتخلص من النفط والفحم، سببًا أساسيًا في حرمان دولهم من قرابة نصف عائداتهم التصديرية. فبهذا التوجه تجابه دول أمريكا اللاتينية توقعات قاتمة بشأن اقتصاداتها.

البندول لن يتوقف

مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة تشعر بالقلق من هذا المد الجديد. ربما ترسل برقيات التهنئة رسميًا، بينما القلق على تلك الحدائق الخلفية لا يفارقها. لهذا فقد تستغل قضايا عادلة، كالمناخ والانبعاثات الضارة، من أجل كبت اقتصادات تلك الدول. لكن فشل الولايات المتحدة في الإطاحة بالنظامين الفنزويلي والكوبي منح قوة لليسار ونموه في المنطقة. خصوصًا مع تجربة الشعوب لليمين أملًا في أن يوقف الفساد ويعيد إليهم ثرواتهم المنهوبة ويُحسن ظروفهم المعيشية، لكن وجدوا اليمين أضعف بكثير مما توقعوا.

والأهم أن يتحالف اليسار مع نفسه أولًا. فيمكن القول إن المد الوردي هذه المرة ليس متناغمًا بقدر السابق. فهناك حكومات راديكالية في فنزويلا ونيكاراجوا،  يصفها الغرب بالسلطوية، ويسار شعبوي في المكسيك، وحكومات مهزوزة وضعيفة نسبيًا في الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا، واليسار المعتدل في البرازيل.  

فبينما يكافح الشاب الثلاثيني جابريل بوريك في تشيلي من أجل القضايا البيئية والجندرية وحقوق المثليين، نجد أن خوسيه كاستيلو في بيرو يبدو محافظًا للغاية يعارض الإجهاض وزواج المثليين ويطالب بعودة عقوبة الإعدام. ولعل الرهان الأبرز يقع على البرازيل، فلولا معروف أنه يساري معتدل ليس راديكاليًا ولا شعبويًا، وسينضم لأي مشروع يهدف إلى تحقيق تكامل سياسي واقتصادي ورفع الأعباء عن أبناء شعبه.

وبعودة المد الوردي للحكم سينشط تحالف بريكس، الهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا والصين، الاقتصادي والمنادي بالتعددية القطبية. ما يمكن أن يمنح أملًا لشعوب تلك البلاد في الحصول على دعم الصين وروسيا في مواجهة التحديات التي تواجههم. وخصوصًا من الصين التي غالبًا ما تقف في صف أمريكا اللاتينية، على النقيض من الولايات المتحدة التي تسخر أحيانًا أحوالهم وتحاول بناء الأسوار بينهم.

لكن أيًا كان ما سيفعله اليسار، وكيف سيستغل هذه الفرصة الذهبية، فعليه أن يدرك أن الأمر أشبه بالبندول بينه واليمين. فسوف تلجأ الشعوب لليمين في مرحلة ما، لكن ما يمكن لليسار فعله أن يؤجل هذا اللجوء، ويجعل البندول في جهته فترة أطول كي يقطع دورته كاملة قبل أن يعود لليمين أسرع من المعتاد، مثلما ترك اليمين قبل أن يقطع دورته الكاملة.