يحدث أحيانًا أن يخرج النموذج عن الظروف التاريخية التي أفرزته؛ مما يؤدي إلى نشوء رد فعل يحاول إعادة خلق الظروف التاريخية المناسبة لإعادة النموذج إلى مساره الصحيح أو لإعادة إنتاج نماذج جديدة؛ ولو أخذنا الاتحاد الأوروبي كعينة للدراسة، فإن المتغيرات التي أحدثتها العولمة في النماذج الثقافية والبنى السياسية، والتحولات الاقتصادية، أدت لابتعاد الاتحاد الأوروبي تدريجيًا عن الظروف التي ساهمت في تشكله وهي: الاستقرار السياسي والاجتماعي، والنمو الاقتصادي المستدام، والثراء الفردي (الرفاه)؛ الأمر الذي تسبب بصعود أحزاب يمينية شعبوية راديكالية كرد فعل على النتائج المترتبة على هذه التحولات.

وبحسب الباحث الألماني، هانز-جورج بيتز، فإن هذه الأحزاب انتهجت خطابًا ناقمًا على السياسة الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية الأوروبية، دون أن تهاجم أساسها، وقامت على مزاوجة بين الموقف الليبرالي الكلاسيكي تجاه الفرد والاقتصاد، مع أجندة سوسياسية يمينية ثقافية راديكالية جديدة. وفي كتابه «سياسة الاستياء الجديدة: الحركات الراديكالية الشعبوية اليمينية في أوروبا الغربية»، أشار الباحث الألماني إلى أن هذه الحركات اتخذت من القلق الاجتماعي، والاستياء السياسي، والتردي الاقتصادي والمخاوف حول مستقبل الهوية «الإثنو- وطنية»، أساسًا لإنتاج خطابها.أما عن الأسس الإيديولوجية لليمين المتطرف؛ فبحسب ما أشار الباحث الهولندي (كاس مد) في كتابه «إيديولوجيا اليمين المتطرف» فهي: «القومية أو الانتماء للوطن»، «العداء للأجنبي»، «حفظ القانون والنظام»، وأخيرا «النظرة الشوفينية للرفاهية»؛ اي ضمان الدولة عبر سياساتها الاجتماعية رفاهية أفراد إثنيتها دون الأجانب، أي لا يؤثر الوجود الأجنبي على الرفاه الفردي، أو أن لا تتخذ الدولة أي سياسات اجتماعية قد تؤثر على رفاه مواطنيها.


الكراهية كعاطفة مدنية

أمبرتو إيكو: مقبرة براغ

النص السابق الذي أورده الفيلسوف الراحل أمبرتو إيكو، في عمله الروائي «مقبرة براغ»، تناول قضية الوجود اليهودي في أوروبا-، يمكن تعميمه على كل ممارسة عنصرية، وبما أن فكرة «الأغيار» ووجود «عدو» و«آخر»، هي فكرة أصيلة في أي خطاب شعبوي استعلائي ذو نزعة ارستقراطية متعالية، فإن أي حراك يميني راديكالي كان لابد أن يتصف بالإقصاء، ثنائية التفوق والدونية، أي بالمحصلة خطاب عنصري. ولأن العنصرية انتقلت في أوروبا من التسويغ الطبيعي للسلالات الحاكمة والعائلات الارستقراطية، وانتقلت إلى تبرير طبيعي لتفوق السلالات العرقية والإثنية واللغوية، فإن من الطبيعي أن تجد مثل هذه النداءات آذانًا مصغية من الرجل الأوروبي الأبيض.لا بد إذًا أن تجد هذه الحركات ما يسميه الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي «رفاق لعب»، وهم الذين يصطنعهم الفلاسفة ليُجروا معهم سجالات على أرضيّة حددها هؤلاء الفلاسفة سلفا، وبإمكانهم أن يهزموا عليها «رفاق اللعب» بسهولة، وبعد ان اتخذت أوروبا اليهود كـ «رفاق لعب»، فترة من الزمن حان الوقت لإيجاد «رفاق لعب» جدد، يتم اختزالهم في صورة نمطية محددة لكي يسهل هزيمتهم في اللعبة، وبمجرد حدوث أي مصيبة يجد اليمين المتطرف فرصة سانحة للفوز في اللعبة التي وضع هو قواعدها وتدرب عليها، فـ «رفاق اللعب» من يتحملون سبب البطالة، وارتفاع نسبة الجريمة، والإرهاب وانعدام الأمن الاجتماعي، وهم من يهدد «التجانس الإثني»، والهوية «الإثنو-وطنية»، ويشكلون تحديًا في وجه «التقاليد القومية التاريخية».


القادمون من المتوسط

يجب أن يكون هناك عدو لنعطي الشعب أملا. قال أحدهم إن الوطنية هي آخر ملجأ للأوغاد: من ليست له مبادئ اخلاقية يغلف نفسه عادة براية. وأبناء الزنا يتحدثون دائما عن نقاوة عنصرهم. والهوية القومية هي آخر حجة للمحرومين. الحال هو أن معنى الهوية يقوم على الكره، كره من هو غير مماثل. ينبغي تنمية الكره كعاطفة مدنية. العدو هو صديق الشعوب. يجب أن يوجد دائمًا هناك أحد نكرهه لكي نجد لأنفسنا ما نبرر به بؤسنا الخاص.

لقد مارس الإنسان الأبيض شتى أشكال العنصرية تجاه «الآخر» في كل مكان في العالم، وإيمانًا منه بتفوقه أرسل مستعمريه لشتى بقاع الأرض لـ «جعل الشعوب أكثر تحضرا»، وكان «التسيد» الأوروبي يرتكز دائمًا بحسب الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين، على الاختلاف «النسبوي الثقافي الفظ» بين القومية الأوروبية وغيرها من القوميات، لذا فقد وجدت الحركات اليمينية المتطرفة في موسم الهجرة إلى الغرب فرصة سانحة للعودة مرة اخرى إلى السلطة.وبما أن موجة الهجرة الجديدة، حملت تغييرات في تركيبة المهاجرين، بعد أن كان معظم اللاجئين إلى أوروبا من الأتراك، باتت أوروبا تستقبل ملايين اللاجئين من سوريا والعراق وليبيا وإفريقيا. الأمر الذي دفع باليمين الأوروبي إلى إثارة هواجس الخطر على الهوية الوطنية، من جحافل «الهمج والبرابرة القادمين من المتوسط».لقد اختار اليمين المتطرف خطابًا يقوم على التخويف من الإسلام، عن طريق تقديم إيديولوجيا ذات نظرة اختزالية، تقوم على تنميط المسلمين كجماعة منغلقة على ذاتها، وتؤمن بقيم رجعية تحض على العنف.لذا فإن الهاربين من الجحيم في الشرق الاوسط، وجدوا انفسهم في موقع الاتهام في اي مآساة تحدث في البلاد التي حلوا فيها، ومع كل هجوم إرهابي، فإن اليمين الأوروبي يعمد لتحميلهم المسؤولية عن هذه الجرائم، عن طريق التعبئة الإيديولوجية، وإثارة إشكالات حول «جذور العنف في الإسلام»، و«الإرهاب الإسلامي»، «عدم قابلية الإسلام للإندماج مع الثقافات الوطنية الأوروبية»، «مناعة الإسلام ضد العلمنة»،«معارضة القيم الإسلامية للقيم القومية الأوروبية».إن خطاب اليمين اليمين الأوروبي، يفرض علينا توسيع دائرة البحث لتفسير نشوء هذه الحركات وتمددها وبروز نجمها، إذ ترتبط هذه الحركات بالبنى الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية وتتصل بجملة من الأصول الثقافية المؤسسة للخطاب العنصري، والتي تدفع باتجاه نشوء مثل هذه الحركات، وهو ما يبدو واضحًا في العبارات اليت ترد في تصريحات قادة اليمين، كالدفاع عن «مسيحية أوروبا»، باعتبار المسيحية مهد للعلمنة والحداثة، والجدل الفلسفي حول ارتباط المسيحية بالحداثة ليس بالجديد بين المفكرين والمثقفين وبعض المؤرخين المعاصرين.ليس من النافل، القول بأن ظاهرة مثل صعود نجم الحركات الشعبوية اليمينية في المجال السياسي الأوروبي، تتمأسس على نواة صلبة من الحراك الثقافي الفلسفي، بعبارة أخرى لا تقف عند حدود السلطة السياسية، بل تترجم إلى سلوكيات اجتماعية قد تهيئ المجال مستقبلا لتتطور إيديولوجيا هذه الحركات، إلى حركات أكثر راديكالية وعنصرية كالفاشية والنازية؛ وبحسب النظريات المفسرة لإيديوجيا اليمين فإن كثيرًا من الباحثين على رأسهم، بييرو اغنازي، الخبير الإيطالي في شؤون اليمين الأوروبي والحركات القومية، يرون بأن هنالك ترابطًا بين الحركات اليمينية والفاشية.