تعد عرقية الروهينجا المسلمة في ميانمار واحدة من الأقليات الأكثر اضطهادًا على مستوى العالم أجمع وفق شهادة الأمم المتحدة، فأبناؤها قد جمعوا أصنافًا وألوانًا من المآسي لا تكاد تجتمع لأحد غيرهم في العالم، وقد بدأت معاناتهم في بلادهم ميانمار (بورما سابقاً) بسبب التطرف البوذي المدعوم من جنرالات الجيش القوميين.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، يواجه الروهينجا الذين يعيشون بإقليم «راخين» غرب البلاد تمييزاً عنصريًا وتشكيكًا في انتمائهم لميانمار، حيث جرى وصفهم بالـ«بنغاليين» باعتبارهم في الأصل مهاجرين من بنجلاديش المجاورة.

وقد تعرضوا طوال العقود الماضية إلى أعمال عنف ممنهج ترعاه الدولة، لكن القمع وصل إلى مداه في أغسطس/آب 2017، حين شن الجيش والرهبان البوذيون المتشددون مجازر مروعة ضد الروهينجا راح ضحيتها الآلاف من القتلى والجرحى بأعداد غير معروفة على وجه الدقة حتى الآن، وأُحرقت بيوتهم واختفت أعداد كبيرة من القرى من الخرائط تمامًا، وكان من أشد ما لاقوه حملات الاغتصاب الوحشي الجماعي التي قامت بها الحشود البوذية المهاجمة مما دفع مئات الآلاف للفرار باتجاه الغرب وعبور الحدود مع بنجلاديش، وهو ما كان يصبو إليه المهاجمون.

مسيرة الآلام

بعد عبور خط الحدود، بدأ فصل جديد من المأساة. ففي مسيرة الفرار، تعرضت العوائل النازحة لظروف قاسية. فقد تشتت شمل الأسر في زحمة الهرب المفاجئ، وفقد كثيرون أحباءهم، وفقد بعضهم أرواحهم في الطرق الوعرة، وتخلى العديد من الأزواج عن زوجاتهم المغتصبات فرارًا مما اعتُبِر «عارهن»، وتركوهن مع الأطفال ورحلوا.

لم ترحب بنجلاديش الفقيرة بضيوفها الجدد، واكتظت مخيمات النزوح بعد تدفق قرابة سبعمائة ألف شخص انضموا لمئات الآلاف من اللاجئين القدامي الذين هاجروا لنفس الأسباب، حتى ضاقت بهم الأرض وافترشوا الغابات، وباتت الأسر التي أعياها السفر الطويل في العراء بين الحشائش والأشجار ليتضح لهم لاحقًا أن سكنهم الجديد عبارة عن ممر لقطعان الفيلة الآسيوية التي تقدر بالمئات من الفصائل الأشد خطورة على البشر، وأن من عادة هذه الحيوانات أنها تستهدف التجمعات المأهولة بخاصة في مواسم المطر عندما تنضج فاكهة المانجو والكاكايا، ليلقى عدد من النازحين حتفهم دهسًا تحت أرجل الفيلة الغاضبة ممن زاحموها في مواطنها، فحتى هذه الحيوانات اعتبرتهم غرباء غير مرحب بهم.

أما من أسعدهم الحظ وأدركوا مكانًا في مخيمات اللجوء منذ البداية، فقد وجدوا أنفسهم مكدسين في أماكن محاطة بالأسلاك الشائكة لا تليق بسكنى البشر، معرضة لكل أنواع الكوارث، فلا خدمات ولا وظائف ولا مساعدات إلا ما يكفي بالكاد لإبقائهم في تلك الحياة ليُكملوا فصول المأساة، فالعثور على مرحاض أو مكان نظيف حلمُ بعيد المنال في هذه الظروف.

فمع هطول المطر الغزير، يحبس الناس أنفاسهم لأن ذلك قد يعني وقوع انهيارات طينية وغرق خيامهم في السهول الموحلة، كما وقع في يوليو/ تموز الماضي حين تسببت الأمطار الموسمية في فيضانات دمرت ما يزيد على خمس وعشرين ألف مأوى، وإصابة الباقي بدرجات متفاوتة ومقتل بعض اللاجئين، وفي مارس/آذار الماضي انتشر حريق أتى على آلاف المساكن في ظل غياب وسائل الحماية والأمان.

ويعيش في بنجلاديش نحو مليون من مسلمي روهينجي، أغلبهم داخل مخيم كوتوبالونغ في مقاطعة كوكس بازار. وتسعى الحكومة البنجالية بشكل حثيث لترحليهم إلى ميانمار رغم تشدد الأخيرة وممانعتها، بخاصة بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في صباح يوم 1 فبراير/ شباط الماضي.

سجن كبير

شرعت الحكومة البنغالية في تشييد مجمعات سكنية ضخمة على جزيرة نائية لم يعش عليها بشر من قبل للتخلص من مائة ألف روهينجي.

تكونت جزيرة «باسان تشار» (Bhasan Char) منذ 15 عامًا نتيجة تراكم طمي الأنهار في خليج البنغال، وتبلغ مساحتها 40 كيلومترًا، وهي عرضة للفيضانات والأعاصير إذ يقل ارتفاع أرضها عن مترين من مستوى سطح البحر، ولا تسمح السلطات لوسائل الإعلام أو المنظمات الدولية بزيارة الجزيرة التي تفتقر إلى جميع الخدمات تقريبًا وإلى وسائل النقل، وجُهزت فقط لحجز اللاجئين.

تحولت باسان تشار إلى سجن كبير، فمن يذهب لتوصيل أدوية أو أي شيء لذويه في الجزيرة يتم حبسه بها ويُمنع من الخروج منها.

وقد نظم المحتجزون احتجاجات في فبراير/شباط الماضي بسبب شكواهم من قلة الطعام بعدما كانوا يظنون أن كل عائلة ستُمنح قطعة أرض وقرض لبدء حياة جديدة وفقاً للوعود المنسوبة للمسؤولين البنجال.

ورغم كثرة الجهود الإغاثية العربية والإسلامية، على غرار مساعدات مركز الملك سلمان بالمملكة العربية السعودية، فإن إعالة مليون لاجئ وتوفير حاجاتهم اليومية تظل مهمة صعبة الإنجاز.

رحلات الموت

يخاطر اللاجئون بركوب البحر للهرب من هذا الواقع المزري، ولكنهم في تلك الأثناء يتعرضون للاختطاف من جانب عصابات تهريب البشر الذين يتصلون بعائلاتهم لمساومتهم على أموال مقابل الحفاظ على حياة ذويهم، ثم يتركونهم بعد الحصول على الأموال أمام شواطئ أي دولة.

وتعد ماليزيا أولى الواجهات لتلك الرحلات البحرية، إذ تستقبل ثاني أكبر عدد من الروهينجا. لكنها في ظل انتشار فيروس كورونا المستجد، لم تعد تتساهل في قبولهم، واعتقلت المئات منهم بعد تصاعد الاتهامات لهم بنشر الوباء.

وأعلنت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين أن تلك الرحلات كانت أشد خطراً ثماني مرات في 2020 مقارنة بعام 2019، إذ لقي 218 منهم مصرعهم خلال الإبحار. وبحسب تقرير للمفوضية بعنوان «متروكون في عرض البحر: الرحلات الخطيرة للاجئين عبر خليج البنغال وبحر أندامان»، فإن نحو ثلثي هؤلاء من النساء والأطفال، مما يجعلهم أكثر عرضة لاستغلال المهرّبين.

بلا تعليم

هناك قول مأثور يتم تداوله في مخيم كوتوبالونغ يقول: «لتدمير شعب، ليس من الضروري قتلهم، بل يكفي حرمانهم من التعليم». فنحو 400 ألف طفل ممنوعون من المدارس منذ سنوات، باستثناء بعض الدروس التي يتطوع بإلقائها بعض البالغين. فالحكومة البنجالية تحظر عليهم الالتحاق بالمدارس سواء العامة أو الخاصة، وطردت منها الأطفال الذين تمكنوا من التسجيل فيها حرصًا على عدم تمكينهم من الإلمام بلغتها، مما سيدفعهم للتشبث بالبقاء على أرضها والاندماج وسط السكان.

ونفس الأمر في جزيرة باسان تشار التي نُقل إليها أكثر من 20 ألف لاجئ؛ رغم أن بنجلاديش وافقت على الميثاق العالمي للاجئين عام 2018 الداعي إلى توفير تعليم مناسب لأطفال اللاجئين في غضون ثلاثة أشهر من دخولهم البلاد.

وقد شيدت بعض المنظمات الإنسانية ثلاثة آلاف مركز تعليمي أغلقتها الحكومة البنجالية كلها في مارس/آذار 2020 بحجة انتشار فيروس كورونا. ولنفس السبب، ألغت مشروعًا آخر كانت سمحت به لتدريس 10 آلاف طفل مناهج ميانمار. وقد نشرت الصحف البنجالية مثل «نيا ديغانتو» وغيرها تقارير عن اعتناق بعض الروهينجا للمسيحية نتيجة الجهود التبشيرية في مجال التعليم.