ورثت روسيا الاتحادية عن الاتحاد السوفيتي بعد انهياره عام 1991 جيشًا مفككًا ومنهارًا. دخلت في حالة الخمول والتراجع، تاركة الساحة الدولية لغيرها، ظنًا منها أنها لن يتم استفزازها والاكتفاء بما آلت إليه. جاء الاختبار سريعًا في العام 2008، شنت جورجيا حربًا على إقليم أوسيتيا الجنوبية الموالي لروسيا، فهب الجيش الروسي للدفاع عن حليفه، ونجح في صد الاعتداء، إلا أن الحرب كشفت الحالة التي وصل إليها وريث الاتحاد السوفيتي، معلنةً ضرورة إجراء إصلاح كامل لقواته.

انتصرت روسيا والمقاتلون من أوسيتيا الجنوبية على جورجيا، اعترفت موسكو بالإقليم الذي تبلغ مساحته حوالي 3900 كم2 كدولة مستقلة بجانب بضع دول حليفة لها، لكن المجتمع الدولي لم يعترف بها بعد، على الرغم من ذلك كشفت الحرب عن ضعف الجيش الروسي، في مواجهة دولة لا تتعدى مساحتها 70 ألف كم2، أو الفقر الروسي لامتلاك قدرة ردع كافية لإجبار خصومها على عدم الإقدام من الأساس على مثل هذه الأمور.


جورجيا بالونة اختبار

استغلت القيادة الطموحة الأمر في إطلاق استراتيجية لتطوير العسكرية الروسية، سرعان ما أقر الرئيس دميتري ميدفيديف في 26 سبتمبر/ أيلول 2008 برنامج تحديث القوة وإعادة الهيكلة، أو ما يعرف بمشروع الإصلاح العسكري، لبناء القوات المسلحة، حتى عام 2020، محاولًا وقف الانهيارات المتتالية في وريثة الاتحاد السوفيتي، مع الطموح لاستعادة المجد الضائع.

والحقيقة أن هذا الأمر انْتُبِه إليه منذ تولي فلاديمير بوتين الرئاسة عام 2000، إلا أن الحرب الجورجية أكدت أنه لا بديل عن الإصلاح للجيش مع الإسراع في هذا الأمر.

اقرأ أيضًا: آسيا الوسطى: ميدان لتنافس الولايات المتحدة والصين وروسيا

وضع ميدفيديف خمسة مبادئ لتنفيذ خطة الإصلاح، متبعًا أسلوب تدوير السلطة بينه وبين فلاديمير بوتين وكان يشغل وقتها منصب رئيس الوزراء، من أجل تنفيذ خططهما سويًا. نصت مبادئ الخطة على وضع جميع التشكيلات القتالية في فئة قوات التأهب القتالي الدائم، مع رفع فعالية نظام قيادة القوات، وتكملة نظام إعداد الكوادر والعلوم العسكرية، مع إدخال أحدث الأسلحة وتطويرها، وأخيرًا تحسين الأوضاع الاجتماعية للعسكريين، وذلك للقضاء على الفساد المستشري في صفوف الجيش منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

لم توضع الخطة من أجل الدعاية السياسية أو جعلها حبيسة الأدراج، بدأ التنفيذ سريعًا، ليوقع ميدفيديف في يناير/ كانون الثاني 2009 مرسومًا يحدد عدد أفراد الجيش بنحو مليون و884 ألف عسكري، ويبدأ التنفيذ مطلع عام 2016، مخفضًا بذلك التضخم في صفوف الجيش، وبالفعل أقرت الخطة تسريح 200 ألف ضابط قبل حلول 2012، مع الاستعانة بقوات الاحتياط وقت الحاجة ويقدر عددها بـ 700 ألف شخص.

تخلت خطة الإصلاح والهيكلة عن بيروقراطية السوفيت التي أورثوها للكثير من الدول التي لم تتخل عنها حتى اليوم، معلنة إلغاء الترتيب العسكري السوفيتي القائم على تقسيم الجيش إلى منطقة عسكرية، وجيش وفرقة وفوج، مستعينة بالتقسيم الغربي، من أجل إكساب الجيش القدرة على سرعة الاستجابة والمناورة، وليس انتظار أوامر بيروقراطية عسكرية عفا عليها الزمن، لن تصمد أمام الآلة الغربية.

كان من بين الاقتراحات الموضوعة لتعزيز سرعة الاستجابة، الإكثار من تشكيلات الألوية المحمولة جوًا بعدد 6 ألوية، إلى جانب إنشاء قوة انتشار سريع، يمكنها تنفيذ عمليات مباغتة وسريعة وتقديم الدعم العاجل للحلفاء، وعرقلة تقدم العدو للحد من نزيف الخسائر البشرية والمادية، بخلاف التقسيمات الإدارية وإعادة هيكلة القوات. كما ركزت خطة الإصلاح على الاهتمام بالجانب التقني من الأسلحة لموجهة التقدم الغربي المتزايد الذي حيّد الأسلحة السوفيتية، وخفف بل ألغى الكثير من قدراتها الرادعة للخصم، لهذا نصت الخطة على أن يصل محتوى الأسلحة الحديثة بالجيش لحوالي 70%.

استمر بوتين في استكمال الخطط، واضعًا عقائد واستراتيجيات مكملة وتنفيذية للخطة الأم، وفي يناير/ كانون الثاني 2014، صادق على وثيقة مراجعة العقيدة الروسية الجديدة التي جعلت حلف شمال الأطلنطي «الناتو» التهديد الأساسي لروسيا، وذلك تعديلًا للعقيدة السابقة التي صدق عليها عام 2010، وكانت تعد الناتو «تهديدًا كبيرًا» فقط، كان هذا يعني أن الناتو مجرد تهديد ضمن مخاطر أخرى، إلا أنه وفقًا للعقيدة الجديدة أصبح الخطر الأول والاستعداد العسكري والعقيدة الدفاعية توجه له بالأساس، بما يعني المزيد من سباقات التسلح وحروب الوكالة.


لحظة إثبات الذات

اختبرت روسيا بشكل حقيقي قدراتها العسكرية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في الأزمة الأوكرانية، ثم التدخل المباشر في سوريا في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. في الأولى اندلعت تظاهرات في فبراير/ شباط 2014 ضد حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لروسيا، بسبب رفضه توقيع اتفاقات مع الاتحاد الأوروبي تزيد التقارب معه على حساب حليفته موسكو، سرعان ما أطيح به وجاء الموالون للغرب.

لم تقف روسيا صامتة، سارعت عبر قوات عسكرية تابعة باحتلال المباني الحكومية في شبه جزيرة القرم، منظمةً استفتاء على ضمها إليها خلال أيام من اندلاع الثورة، جاءت الموافقة على الانضمام لروسيا بنسبة 95%، لم يعترف الأوروبيون بذلك، إلا أن موسكو فرضت الأمر الواقع بفعل سيطرتها العسكرية على الجزيرة، ومنعت دخول أوكرانيا إليها، فهي تضم ميناء سيفاستبول، كما تضم قاعدة أسطول البحر الأسود الروسي.

لم تكتفِ روسيا بتحدي الغرب بضم القرم، وزادت على ذلك بإثارة الاضطرابات والنزاعات الانفصالية في أوكرانيا، ليعلن إقليما لوغانسك ودونيتسك استقلالهما وإقامة كل منهما جمهورية مستقلة تحمل اسمه، إلا أنهما لم ينالا اعترافًا دوليًا، وقدمت روسيا دعمًا عسكريًا لهما، وسط مطالبات ومفاوضات أوروبية لوقف هذا الأمر الذي تصفه بـ «العدوان»، وفرضت عليها العقوبات، غير أن ذلك لم يوقفها، فالآلة العسكرية بدأت عملها ولن تقف عند هذه المرحلة، التي تعتبر ترسًا في الصراعات العسكرية المقبلة بين روسيا والغرب.

اختُبرت الإصلاحات العسكرية الروسية مجددًا في سوريا بشكل مباشر، نجحت الآلة الحربية في دعم الرئيس بشار الأسد، وإخراج منافسيه أو على الأقل هزيمتهم عسكريًا، ومن ورائهم داعموهم واحدًا تلو الآخر، أصبحت اليوم الكلمة العليا لروسيا، ترك الغرب المعارضة الموالية له عارية أمام الآلة الروسية، التي اكتسحت الجميع وبأقل قدر من التكلفة المادية والبشرية، بل أضحت الأراضي السورية ساحة عرض للأسلحة الروسية الجديدة، التي اختُبرت في أجساد السوريين، وسارع الكثيرون إلى التهافت على آلات الموت الروسية التي قتلت جيرانهم.

أكد الأمر ما كشفه رئيس لجنة مجلس الدوما لشئون الدفاع فلاديمير شامانوف، في فبراير/ شباط 2018، حينما قال إن روسيا أكدت للعالم فعالية الصناعة العسكرية الروسية، باختبارها أكثر من 200 سلاح جديد في سوريا، ما أدى إلى زيادة مبيعات السلاح الروسي، لترتفع صادرات روسيا من الأسلحة عام 2017 بنسبة 2.3%، مقارنة بعام 2016، محققة مبيعات بلغت قيمتها 15 مليار دولار، محتلة المركز الثاني عالميًا، رغم العقوبات الأمريكية والأوروبية.


هل ردعت روسيا خصومها؟

ركزت روسيا بشكل أساسي في خطة الإصلاح العسكري على الأسلحة التقليدية ورفع كفاءة مقاتليها، بجانب الاهتمام بتطوير الصواريخ الباليستية وأنظمة الدفاع الجوي، أما السلاح النووي فظل قدرة ردع كما كان منذ الحرب الباردة، فهو لم يمنع سقوط الاتحاد السوفيتي، حتى إن ناله بعض التطوير مؤخرًا، فمن غير المقبول استخدامه في هذه الصراعات التي اعتمدت على القدرات التقليدية، ونجحت في إمالة كفة الميزان لصالح روسيا حتى الآن.

تباهى بوتين في مارس/ آذار 2018 بما حققته خطة الإصلاح العسكري باعتماد القوات المسلحة أكثر من 300 نموذج عسكري جديد منذ عام 2012، من بينها 80 صاروخًا بالستيًا جديدًا و102 صاروخ بالستي للغواصات و3 غواصات استراتيجية، من هذه الصواريخ ما يعمل بالطاقة النووية، وأخرى لا يمكن اعتراضها نهائيًّا من قبل أي أنظمة دفاع جوي، مثل منظومة الصواريخ العابرة للقارات «سارمات»، ومنظومة صواريخ «كينجال»، وهي أسرع من الصوت بمقدار 10 مرات، ومنظومة «أفانغارد»، وتتجاوز قدرتها سرعة الصوت بـ 20 مرة.

اقرأ أيضًا: الأسلحة الروسية الجديدة: بين أحلام بوتين وواقع روسيا

بعد هذا الاستعراض عاد بوتين مجددًا بعرض عسكري ذي دلالات سياسية واستراتيجية، منظمًا في الفترة من 11 إلى 17 سبتمبر/ أيلول 2018 مناورات «الشرق-2018»،أكبر مناورات عسكرية لروسيا منذ عام 1981، التي نفذها الاتحاد السوفيتي، وشارك فيها نحو 36 ألف قطعة وآلية عسكرية حديثة، بجانب 300 ألف عسكري وألف طائرة حربية، بخلاف مشاركة أسطول الشمال وأسطول المحيط الهادي، واختُبر في المناورات معظم الأسلحة، في رسالة للغرب أن الجيش الروسي نفذ شوطًا كبيرًا من خططه العسكرية، وبات قادرًا على المواجهة، وفي مسارح ومناطق متباعدة وخارج أراضيه.

لم تحقق روسيا فقط جزءً كبيرًا من خطط الإصلاح العسكري الذي اختبر فعليًّا، بل استطاعت الترويج لمنظومتها العسكرية، مهددةً السلاح الغربي، فالولايات المتحدة انتفضت لهذا الأمر، فمثلًا هددت تركيا وغيرها الساعين لامتلاك منظومة الدفاع الجوي «إس 400»، وفرضت عقوبات على الصين لشرائها المنظومة ذاتها بجانب أسلحة أخرى، ويبدو أن الأمر لن يتوقف عند هذا السلاح، إنما ستمتد المنافسات والصراع الذي بدأه الروس فعليًّا بخطط الإصلاح العسكرية استعدادًا للسيناريوهات المقبلة لأبعد من ذلك.