تحمل كلمة «الحنين» في الوعي الجمعي لأغلب البشر معنى العودة إلى الماضي، كتب محمود درويش «1941-2008» «أحنُّ إلى خبز أمي/ وقهوة أُمي/ ولمسة أُمي»، أي إن الحنين أصبح دلالة العودة بالزمن إلى الخلف، ورغم أن المعاني في معاجم اللغة العربية كثيرة عن كلمة «الحنين»، فبعض من المعاجم تحلل أن المعنى الأقرب للكلمة أنه «الشوق/ شدة البكاء»، إلا أن هناك معنًى آخر وهو «حَنَّ يَحِنُّ حَنينًا: اسْتَطْرَبَ»، ما فعله سعيد الكفراوي «1939-2020» في مجموعته «دوائر من حنين» الصادرة في عام 1997 عن دار توبقال أنه جعل «للحنين» معانيه كلها، فالحنين عند الكفراوي لم يكمن في العودة إلى الماضي فقط، بل أصبح دائريًّا يمس الماضي والحاضر والمستقبل.

احذر طريق غير ممهد 

 اعتمد جيل الستينيات في كتابته على «الرمزية-allegory»، وتأثر معظمهم بالطريقة التي كتب بها إرنست همنغواي «1899-1961»، ورغم انتماء سعيد الكفراوي إليهم بسبب تاريخ مولده واجتماعه بهم، إلا أنه سار في طريق آخر، اعتمد الكفراوي في كتابته على ذاته، لكنه رغم ذلك لم يكتب كتابة تندرج تحت تصنيف «non fiction – سرد ذاتي/غير خيالي»، بل نسج من ذاته خيالًا جامحًا، لكنه متكئ على مخزون تجارب ذاتية. 

لم ينتبه إلى قيمة ما كتب الكفراوي إلا شكري محمد عياد «1921-1999» وصديقه جابر عصفور «1944-2021». كتب عياد في دراسة نقدية: «الخيال القصصي الذي يحوم حول تجليات الروح، يقبل بسهولة الخرافي والمعجز، لأنه ينتمي لنفس العالم الذي ينتمي إليه القص الشعبي، حيث يتحاور الواقعي اليومي بتفاصيله المحددة، مع الأسطوري والخارق، في تآلفٍ تام ولذلك نجد الزمن كأنه الزمن البئر فيه تنفطر تجارب، حيث يمثل الزمن البئر مفهوم الإنسان للخلود والحضارة».

وربما هذا  يُظهر بعضًا من نقاط التميز عند الكفراوي، تحديدًا نقطة الزمن البئر الذي يدل على محاولات الخلود والهروب من الموت، لكنه رغم التفاته إلى هذه الجزئية في كتابة الكفراوي، إلا أنه أيضًا يتناوله من منظور ضيق للغاية، منظور قد ينتقص من قيمة أدب إسماعيل الشيخ الحقيقي «نسبة إلى بطل رواية الكرنك لنجيب محفوظ»، فالكفراوي الذي كان مشغولًا فعلًا بأفكارٍ مثل الخلود والموت والريف والموروث الشعبي  من الريف كتب عن المدينة وقسوتها، ليس من منظور أبناء الريف، الذين تبهرهم العادات المغايرة لما تربوا عليه في الريف، بل عن المدينة من منظور رجل عاش عمره كله في شوارع مدينة لم يألفها. وكتب أيضًا عن الاضطهاد والقمع السياسي للحريات، لكن ليس من منطلق أيديولوجي، بل من منطلق إيمانه بحرية الفرد، أيًّا كان انتماؤه. 

احذر الطريق غير ممهد  هي عبارة تليق بعلاقتي الشخصية مع كتابة سعيد الكفراوي، وأيضًا علاقة كتابة الكفراوي بجيله من الكُتَّاب.

 العودة إلى أرشيف 

«جاليري 68»، وهي مجلة نُشرت في نهاية الستينيات بخمسة أعداد، أنشأها إدوار الخراط وإبراهيم منصور، ولم يترأسها رئيس تحرير رغم أنه بالعودة إلى أرشيف الشارخ يذكر أن أحمد مرسي ترأس تحريرها، لكن وفقًا لما ذكره شعبان يوسف على حسابه الشخصي على موقع فيس بوك، مرسي مع الخراط مع إبراهيم منصور ساهموا في اختيار ما يُنشر عليها، أي إن رئاسة التحرير كانت مشتركة بينهم جميعًا. 

لنعد إلى الكفراوي الوحيد من أبناء جيل الستينيات الذي لم يكتب في المجلة التي كتب فيها كل أبناء جيله، وربما هذا دليل على الإقصاء بشكل أو بآخر، أو بمعنًى آخر هو اللقطة التي تدل على عبارة احذر طريق غير ممهد، لكن لماذا طريقه غير ممهد، يرجع هذا تحديدًا إلى ما ذُكر في الأعلى عن الفرق بين إسماعيل الشيخ وجيله. اختياره الكتابة بلغة مركبة عكس الكثير من أبناء جيله، اختياره الكتابة بدون هموم قومية، وحتى اختياره الاعتماد على الكتابة التي تمزج ما هو واقعي بما هو خيالي، كل هذه أسباب ربما تسببت في إقصائه. 

لنعد إلى عبارة احذر طريق غير ممهد لكن بالنسبة إليَّ، في الوقت الذي لم يعد فيه للصحافة الثقافية قيمة حقيقية، وأصبحت آليات النقد هي ما يُكتب على جود ريدز وفيس بوك وتويتر، عليك أن تختار طريقًا ما، إما أن تصبح مبتذلًا وتسير خلف ما يكتب هناك، أو أن تختار طريقًا مختلفًا لإنشاء خريطة قراءة خاصة بك بعيدة عما هو رائج.

في ظهيرة أحد أيام أغسطس عام 2021 وقع أمامي مجموعة «دوائر من حنين» في سور أبو الريش، السيدة زينب سابقًا، كتاب حوافه مغرقة بالتراب، لكن العنوان هزني، وأيضًا العناوين الداخلية المُقسمة للحنين خمس دوائر، هي: «حنين قروي، حنين مؤلم، حنين للدهشة، حنين للماء، حنين ختامي»، أعرف إسماعيل الشيخ أقصد الكفراوي، لكنني لم أملك نسخة من هذه المجموعة، وحتى عندما بحثت عن الكفراوي على فيس بوك لمعرفة إذا كانت هذه المجموعة له فعلًا أم لا، وجدت ما لا أستسيغه  دومًا، ألا وهي الكتابة عن شخصه، كونه مرحابًا، كريمًا، ملامحه جميلة، طيبًا، أو جملة «هو في زي عم سعيد»، لا أستسيغ الكتابة التي تكتب عن شخص الكاتب لا كتابته، لأنها لن تذكر بمرور الوقت، أو ستُذكر، أو ستبروز هذا الكاتب في منطقة حدودها شخصيته لا كتابته، لذا لا يهم إن كان الكفراوي طيبًا أو شريرًا، المهم دائمًا إنتاج الكاتب ونقده تبعًا لسياقه الزمني.  

جواب من الكاتب لزوجته، أرشيف الفنان عمرو سعيد الكفراوي لم ينشر من قبل.
جواب من الكاتب لزوجته، أرشيف الفنان عمرو سعيد الكفراوي لم ينشر من قبل. 

صوت يملك جماليات مختلفة

ولكنني حر إلى حد الوحشية والاعتداء في الفن.

 يُحسب سعيد الكفراوي على شلة المحلة من الكُتَّاب، وهذا بدوره يحصره أيضًا في صورة الكاتب الذي كتب عن الريف فقط، كما ينمط كتابة بعضًا من هذا الجيل في هذه الصورة أيضًا، رغم أن كتابة سعيد الكفراوي عن الريف في مجمل أعماله لا تمثل النسبة الكبرى في أعماله، بالعودة إلى «دوائر من حنين» يظهر الريف في البداية ثم يكتب عن المدينة والمكان بلا وصف مُحدد يدل على ما إذا كان المكان مدينة أو ريفًا، حتى في كتابته يظهر الموروث الشعبي من الريف لكنه لم يصوره بالصورة النمطية المعتادة عن الريف، كان يملك صورة مختلفة ومتفردة عما يُكتب عن الريف في ذلك الوقت.

 وبالعودة إلى إنه «حر حد الوحشية في الفن» ما يصنع الكاتب هو ما يقرأ، وبتحليل ما كتب سعيد الكفراوي في «دوائر من حنين» وبالعودة إلى أرشيف الفنان عمرو الكفراوي أيضًا، نجد أن كتابة الكفراوي لم تكن متشابهة مع أقرانه، لكن ما هو السبب إذن؟ السبب يرجع إلى تأثر سعيد الكفراوي بأدب أمريكا اللاتينية مثل «بيسوا/بورخيس» وأيضًا تأثره بأدب ويليام فوكنر «1897-1962»، لذا لم يعتمد الكفراوي في كتابته على رمزية هيمنغواي، وهذا ما جعله يعتمد في كتابته على دمج الواقع بالخيال، أي إن ذاته كانت جزءًا من لعبة الكتابة، لا تأخذ أكبر من حجمها ولا ينتقص من قدرها، قصص تُكتب مثل وجبة بمقادير ميزانها شعوره بحريته في الفن والأدب، مقادير نابعة من صوته الخاص، غير عابئة بأصوات من حوله.

بل اختار طريقًا متفردًا لكتابته، فالرجل الذي أخلص لفن القصة القصيرة من وجهة نظر الجميع كان يقرأ الرواية بنهم شديد، حتى إنه كتب رواية ولم تُنشر لوفاته، قضى في كتابتها خمسة عشر عامًا، ولم تنشر في حياته لأنها لم تكتمل من وجهة نظره، كانت الرواية بعنوان «بطرس الصياد»، ترك أيضًا إرثًا من نصوص لم تنشر بعنوان «عشرين قمرًا في حجر الغلام». 

وربما يرجع حصره في الرجل الذي كتب عن الريف فقط إلى عناوين ما كتبه، فكلها عناوين تنتمي إلى البساطة من وجهة نظر البعض، لكن بالنظر في تاريخ عناوين كُتَّاب المدينة ستجد أن أجمل عناوين تنتمي إلى مدرسة البساطة لا التعقيد، فالعناوين العالقة في أذهان الناس هي عناوين يحيى حقي مثلًا لا عناوين ما كتب نجيب محفوظ، وهذه ليست مقارنة بينه وبينهم، أو بين حقي ومحفوظ، هي فقط دلالة على ما ذُكر في الفقرة السابقة حول خلل تقييم الكُتَّاب عبر وسائل لا تنتمي إلى النقد بأي صلة.

ولسعيد الكفراوي عدد من مجموعات القصص صنعت له مكانة متميزة وأكدت حرصه على خوض تجاربه الإبداعية فى جسارة لافتة، كما أبرزت قدرته على التوغل فى عوالم لم تعتدها الكتابة القصصية، خصوصًا عوالم المكبوت الغرائبي، منطلقًا من ميراث القرية المصرية ومن وعي يختلط فيه الحلم بالكابوس، لكنه وعي لا يتوقف عن التجريب الذى يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع، كاشفًا عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين التي يتهددها الموت بأشكال عدة. 
د. جابر عصفور
صورة سعيد الكفراوي، وصورة نور الشريف بطل فيلم الكرنك(إسماعيل الشيخ)
صورة سعيد الكفراوي، وصورة نور الشريف بطل فيلم الكرنك (إسماعيل الشيخ)

الكفراوي ليس هو إسماعيل الشيخ فقط

قال الكفراوي في إحدى الندوات التي أذاعتها اليوم السابع: «إن مأساة الثقافة المصرية أن حكمتها السياسة». وبالرغم من ذلك كتب الكفراوي عن ذكرى اعتقاله في مجموعته «دوائر من حنين»، في قصة «بوابة قوطية» يفتتح القصةَ الكفراوي برجل يحاول لملمة ذكرى ما بعيدة، تكون هذه الذكرى هي أيام سجنه، وفي النهاية يختتم بمشهد ربما يعبر عن نظرته تجاه السلطة، يكتب الكفراوي: «ومدت من الباب صنية الطعام، أرز وبرتقالة وطبق من خضار مغموس فيه أوقية من لحم، لحظة تمارس فيها حريتك.. تعمل شيئًا يخصك، تأكل وتسمع وتطحن بأضراسك، وتلتقط أذنك أصوات الرفاق وهم يمزحون أحيانًا مع أنفسهم، فتشعر بحنين يفيض من قلبك، تعيش لحظة ممارسة الحرية القصيرة فتنفتح داخل وعيك الأبواب على السماء العالية الشهباء»، وما كتبه الكفراوي مثل فكرته عن الحرية «تعمل شيئًا يخصك»، وربما لو عاش مائة سنة فوق عمره هذا الرجل كان سيظل التعامل معه على أنه هو إسماعيل الشيخ فقط، حتى أصبحت هذه الشخصية سلطة متخيلة طاغية على كينونة هذا الكاتب، وربما هذا يصوب أعيننا صوب الآليات النقدية التي تستخدمها الصحافة الثقافية، واعتمادها على الكتابة تبعًا لما تفرضه سلطة وهمية لكاتب مات منذ سنوات عديدة، وربما هو نفسه بينه وبينها لكان ينتقد هذا العبث في التعامل مع إنتاج الكفراوي، ومن خلال الكفراوي وموقف الجماعات الأدبية، سواء جيل الستينيات أو حتى الأجيال التالية له معه، نستشف فقرًا وأفقًا ضيقًا في النقد، تحكمه سلطة وهمية إما لكُتَّاب كبار وهذا من المفترض أن يجعل للنقد سلطة عليهم، لا يجعل لهم سلطة حتى بعد مماتهم، أو حتى لمثقفين حصلوا على مناصب في الفترات الزمنية السابقة تبعًا فقط لقناعات أيديولوجية تنتمي إليها جماعات لها أيادٍ في تعيين فلان ونبذ الآخر، أو نفيه.

في كتابه «الكاتب وعالمه»، لتشارلس مورجان، الصادر عن المركز القومي للترجمة ترجمة (شكرى محمد عياد): «فهناك عصابات في الفن كما هناك عصابات في السياسة، وكلتاهما ترمي إلى أن تشوه الشخصية الإنسانية وتفككها وتستعبدها، إلى أن تدفع الناس للاعتقاد بأنهم ليس لهم وجود حقيقي إلا كوحدات في كتلة»، وهذا تحديدًا ما يحدث في مصر تجاه الكتابة الأدبية، أن تنظر إلى كاتب وتختزله في موقف أو سطر أو حتى كتاب أو موقف، أو تأله كاتبًا بعينه لأنه يملك سلطة وهمية أو حتى علاقات كثيرة، أو طبعًا لسانًا حادًّا ويستخدم مصطلحات كبيرة بدون سياق، لكنها تجعله صاحب سلطة، وفي الأغلب تكون هذه السلطة قاسية وغير عادلة، وهذا بدوره يجعلنا نتساءل عن ماهية فعل القراءة نفسه، وعن دور النقد الأدبي وتحليل سلطته في السنوات الأخيرة وانهيارها من تجربة الكفراوي الذي كشف عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين كما يقول عصفور. في نهاية مجموعته البديعة يكتب الكفراوي قصة بعنوان «جارنا الذي يحب قراءة الكتب»، ويصور تأثر فتاة برجل تطلع عليه صباح كل يوم من نافذتها لتراه يقرأ، تتأثر به أيضًا وتقرأ مثله، وتغير القراءة حياتها، كما غيرت حياة الكفراوي الذي أخلص لفعلي القراءة والكتابة، ولم يختزل حياته كلها في مشهد حبسه، بل بنى على تجارب حياته كلها عالمًا، يجعل من الحنين دائرة تمس الماضي والحاضر وتحلل المستقبل الآن. 

وسلام.