مهمة شاقة هي أن تستخرج آراء عيسى في الدراما والسينما ما بين ملايين الكلمات التي كتبها مؤرخًا وشاهدًا على أحداث عصره، لم يكن صلاح عيسى صاحب عمود صحفي دائم يعبر عنه كناقد، لذلك يتعين عليك أن تجمع شذرات آرائه المباشرة في أعمال فنية من الصحف، ولكن ترك لنا صلاح عيسى في عمله الضخم «رجال ريا وسكينة» فصلًا خاصًّا بنقد كل ما قُدم عن ريا وسكينة من المسرح إلى السينما إلى حين كتابة الكتاب، وقبل إنتاج مسلسل ريا وسكينة الشهير في عام 2005.

حين تقرأ لصلاح عيسى كناقد فني ربما تشعر بالضجر قليلًا إذا كنت من مؤيدي سلطة السيناريست الكاملة على النص والمخرج على العمل، حيث إن صلاح عيسى يسعى إلى فرض وصاية تاريخية إلى حد ما على إبداعهم، ولكن تلك الوصاية لا تنبع من شخصية رجل متقوقع حول مجاله كمؤرخ فلا يقبل سوى الحقيقة والوثيقة، ولكنها تنبع من رجل ابن مرحلته آمن بقدرة السينما والدراما والمسرح على تشكيل وعي قوي في الناس، ولكنه وجد أن ذلك الوعي كان وعيًا مزيفًا، خلط الحابل بالنابل في فترة كان على المصريين فيها أن يعرفوا من هم رموزهم الوطنية، ومن هم مجرد أشخاص.

ولكن صلاح عيسى كان يملك حسًّا روائيًّا في منهجه التاريخي، يجعلك تقرأ أعماله وكأنها فيلم أو مسلسل حاضر الشخوص والتفاعلات، وبعيد كثيرًا عن الحقائق الجافة المتسلسلة، لذلك حين كتب صلاح عيسى كتاب «رجال ريا وسكينة» امتلكت الدراما المصرية أخيرًا العمل الأهم عن تلك القضية التي كادت أن تتحول لميثولوجيا القرن العشرين في الذاكرة المصرية.

السينما التي تخون المجتمع

ثمة محوران تدور حولهما العلاقة بين الفيلم والرواية، أو بشكل أعم بين السينما والرواية، هما: الجانب الفني لكل منهما، ثم علاقة كل منهما بشكل الإنتاج في المجتمع الذي يصدران عنه، فالسينما كعمل فني عمل جماعي، تستخدم القصة والفنون التشكيلية والغناء والرقص والتمثيل والموسيقى، ومن هنا فإن قدرتها على تقديم فكرة معينة أكبر من قدرة أي فن آخر، إذ إن الروافد التي تتجمع لكي تصب في مجرى هذه الفكرة روافد متعددة وذات تأثير بالغ في حد ذاتها.

تجيب تلك الفقرة من مقال نشره صلاح عيسى في مجلة «حوار» في العدد التاسع من عام 1964 عن رؤية سؤال لماذا يتعامل صلاح عيسى بجدية مفرطة مع السينما كقوة لها سلطة على الوعي، ولو كانت الدراما التليفزيونية منتشرة في مطلع الستينيات، لشملتها تلك الكلمات هي الأخرى.

وفي الواقع، لم تكن السينما تلعب دورًا قليلًا في حياة المؤرخ، بل كان شغفًا ممتدًا معه حتى السبعين من عمره، وهذا ما يذكره الكاتب محمد الشماع في كتابه «حكايات من دفتر صلاح عيسى» حين كلفه في لقائهما الأول في الجريدة أن يقوم بعمل تحقيق فني من خلاله بإمكانه أن يقيم قدراته كصحفي.

السينما أيضًا دفعت ذلك المهووس إلى تكريس سنوات من حياته غارقًا في أوراق وتفاصيل «قضية ريا وسكينة» لينتج كتابه عنهما البالغ 900 صفحة، حين تنبه لقوة الصورة التي غرسها فيلم صلاح أبو سيف عن السفاحتين في ذاكرة المصريين عن تلك الحقبة من تاريخ الوطن، وعن هاتين الشخصيتين الجدليتين.

التزم صلاح عيسى صف التاريخ دائمًا، ولذلك خاض الكثير من المعارك مع سينمائيين وصناع دراما كانت حادة ومشخصنة بعض الشيء، أبرزها معركته مع المخرج حسين كمال الذي عانى من لذوعة قلم صلاح عيسى حين نقده كثيرًا، ونقده موقف سينماه من قضايا المجتمع، إلى حد وصف ما يقدمه في سينماه بالإسفاف، فضلًا عن فقر تكنيكه السينمائي، وعدم إضافته بجديد للسينما المصرية، وسوء إدارته للممثلين، ويتضح ذلك في مقالة نشرها عيسى في مجلة «الثقافة الوطنية» في العدد الأول عام 1980 تحت عنوان: «إحنا بتوع الإسفاف».

ينطلق صلاح عيسى في نقده للفيلم من رؤيته إلى أنه فيلم في سلسلة أفلام بمثابة ردة وقحة عن الناصرية، وهي التي ميزت عهد السادات منذ عام 1975 ويشاطره في تلك النظرة عمومًا الناقد السينمائي علي أبو شادي، ويرى أن نوعًا من الخيانة الفكرية يميز طابع أفلام هؤلاء السينمائيين من مخرجي القطاع العام للسينما الذي رعاه عبد الناصر، ورغم أن صلاح عيسى ليس ناصريًّا، بل اُعتقل في عهد عبد الناصر، إلا أنه يبدو وكأنه ينتصر لقضية حق بشكل ما.

في فيلم حسين كمال يظهر الأبطال كأشخاص مظلومين دون فعل أي شيء، ألقي بهم في غياهب السجون دون أي سبب، وتلك الهفوة الأولى التي يراها صلاح عيسى، فبالارتكاز على هذه النقطة، تموت ظاهرة النقد الموضوعي للحقبة الناصرية حين نتجاهل الحديث عن مغزى اعتقال قوى سياسية بعينها في فترة الستينيات وتحديد موقف تلك القوى من السلطة.

إن حسين كمال كما يراه عيسى، جبانًا، يتجنب الحديث عن القوى السياسية المظلومة في حقبة ناصر، سواء كانوا شيوعيين أو إسلاميين لعلمه جيدًا أنهم لا زالوا يعملون في الساحة السياسية حتى لحظة إنتاج الفيلم وعرضه، لذلك فهو يخشى أن يتخذ موقفًا واضحًا من القضية حتى يتجنب صدامًا حتميًّا مع القوى السياسية التي تحكم البلاد.

ينتقد صلاح عيسى أيضًا فكرة تقديم صورة غير مبررة لدموية الدولة الناصرية، حتى تحول الفيلم إلى مهزلة كاملة، ففترة الستينيات كما يراها كمؤرخ، وكمعتقل سياسي ذاق السجن، لم تكن مشبعة بتلك الدوافع السيكوباتية التي تحرك أبطال الفيلم الذين يمثلون موقف السلطة.

ويبدو أن وصاية صلاح عيسى التاريخية على سينما «الإسفاف» لحسين كمال هي غيض من فيض، فحين دُعي إلى التحكيم في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1997 وشاهد 17 فيلمًا هي حصيلة إنتاج هذا العام، أسماها «سينما أونطة» تنافق هوى المشاهدين الذين يهوون مشاهدة نهاية سعيدة تصلح واقعهم المزري.

ريا وسكينة: أممٌ أمثالكم

وللدراما مع صلاح عيسى قصة أخرى، خاصة أن المواضيع التاريخية في الدراما وبسبب طول المسلسل تشتبك أكثر مع قضايا التاريخ من السينما.

لقد كان صلاح عيسى متابعًا جيدًا للدراما الرمضانية، حتى إنه كان يحلل جدول البث لشهر رمضان معطيًا توقعاته، ناقدًا لكثرة الأعمال، وعشوائية تنظيم الوقت، في كل عام من الشهر الكريم، لذلك كان متنبهًا للأعمال التليفزيونية التي يقدمها محمد صبحي، وحتى محمد رجب.

انتقد صلاح عيسى من نفس الموقف التاريخي لديه مسلسل فارس بلا جواد لإظهاره شخصية حافظ نجيب كبطل وطني، بينما لم يكن حافظ نجيب أكثر من مخادع مقامر، وأديب محتال.

فكما يقول عيسى: «عندما تتناول الدراما سيرة شخصية معينة، تنسج حوله عدد من الشخصيات ليست موجودة في الواقع وتغلفها بمعلومات مصطنعة وتاريخ وهمي، حتى تتمكن من مط المسلسل إلى 30 حلقة، فهذا موضوع تجاري بحت».

وهكذا ينتقد صلاح عيسى مسلسل «أدهم الشرقاوي» الذي قام ببطولته الممثل محمد رجب، لأن صانعيه كان عليهم بذل مجهود أكبر في البحث عن معلومات حقيقية لشخصية أدهم بدلًا من إعادة نسخ أعمال قديمة عنه، ومواويل شعبية كمصادر لكتابة المسلسل، فالموال لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مصدرًا في كتابة الأعمال الدرامية، وإلا كان يجب على صناع العمل أن يكتبوا في تتر المسلسل أنهم يكتبون ملحمة شعبية، وليس تاريخًا حقيقيًّا.

وهذا تحديدًا ما جعل صلاح عيسى يقدم عمله الضخم عن ريا وسكينة، والذي تحول لمسلسل فيما بعد في العام 2005 – وإن لم يسلم من نقد عيسى أيضًا – حيث إنه ابتعد في سرديته عن الملحمة الشعبية، والتي استطاعت أن تكرس سرديتها عن ريا وسكينة بقوة في المجتمع المصري وذاكرته.

لقد درس صلاح عيسى ونقد كل الأعمال الفنية التي تناولت شخصية ريا وسكينة، وكتب مبررًا لإعادة تأريخه لسيرتهما: «أما وقد اعتبرهم الجميع أصحاب نفوس ميتة، فقد كان طبيعيًّا ألا يهتم أحد بالتأريخ لسيرتهم الاجتماعية والسياسية، أو يعنى حتى بالتعامل معهم بصدق، أو يعول، وأن يصدر العدل الذي يلبس الطرابيش الحكم ضدهم، قبل المداولة».

تناول صلاح عيسى بالنقد قصة ريا وسكينة التي قدمها الريحاني أول مرة في المسرح، وقدمها حسين كمال آخر مرة في المسرح، وبينهما أفلام سينمائية، كنسخة صلاح أبو سيف الجادة، ونسخ إسماعيل يس ويونس شلبي الهزلية، ورآها كلها أعمالًا خفت فيها التعليق الاجتماعي.

لقد نسجت صورة أسطورية في تلك الأعمال تتحدى وقائع التاريخ، وتنظر إلى ريا وسكينة ورجالمها باعتبارهم رمزًا للشر المجرد الذي لا دافع له، ولا عذر يمكن أن يبرره أو يعتبره ظرفًا مخففًا في الموازين التاريخية للمؤرخين الفولكلوريين.

ينتقد صلاح عيسى كتابة نجيب محفوظ السينمائية لفيلم ريا وسكينة الذي أخرجه صلاح أبو سيف، فالصورة التي ظهر بها الفيلم في النهاية، من منظور شرطي، على نمط أفلام المطاردة في الغرب الأمريكي، ناقضت السياق العام لرؤية الاثنين اللذين عُرفا بالاهتمام بأثر الدوافع الاجتماعية على سلوك الأفراد، على النحو الذي يتضح في أعمال المرحلة الواقعية في أدب نجيب محفوظ، والواقعية في سينما صلاح أبو سيف.

لقد شوهت تلك الأعمال كما يرى عيسى القصة حين همشت دور الشخصيات الحقيقية لصالح الشخصيات المتخيلة، وحين بدا الرباعي ريا وسكينة وعبد العال وحسب الله كما لو كانوا فريقًا من الكومبارس المتكلم، لا تكاد ملامح شخصية كل منهم تتميز عن ملامح الآخر.

إن انعدام محاولة تفهم الدوافع الحقيقية والسياق الاجتماعي للجريمة هما ما ميز أعمال ريا وسكينة على مدى ثمانية عقود من حدوث الجريمة، وهي صورة تخلو من التفاصيل ومن الملامح، وأدخلتا الشخصيتين التاريخ والفن باعتبارهما رمزًا للشر المجرد، ومجرمتين بالفطرة، أو بحكم تكوينهما الطبيعي.

التاريخ ينتصر للمشاهد

إن تلك القراءة النقدية المتمعنة هي التي قادت في النهاية إلى مسلسل ريا وسكينة الذي كتبه السيناريست مصطفى محرم مستلهمًا كتاب صلاح عيسى، وكما يرى المخرج والناقد أسامة فوزي أن نجم هذا المسلسل لم يكن سوى صلاح عيسى، الذي صور بدقة حياة البؤس والشقاء التي عاشها المصريون في مرحلة الاحتلال وأعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي دفعت أحد الممثلين في أول حلقة من المسلسل بعد أن علم بموت أبيه إلى القول: أبوي مات من الجوع.

لقد وضع صلاح عيسى الشخصيات في كتابه في مكانها وزمانها الصحيح، وكما ظهر في المسلسل فيما بعد، من الملبس والمأكل إلى الكلمة، وقدم صورة واقعية أثارت ولع المخرج محمد خان الذي كان متحمسًا لصناعة المسلسل في مشروع مشترك مع MBC إلا أن المشروع لم يكتمل، وصرح خان إلى الصحفي محمد أحمد قائلًا: «لن يستطيع مخرج غيري أن يقدم مسلسل ريا وسكينة، وعندي أمل في أن أقدمه سينما فيما بعد، لأن الحقيقة أن كل ما قُدم عن ريا وسكينة من قبل لم يكن حقيقيًّا، ومع احترامي لفيلم صلاح أبو سيف، وكتابة نجيب محفوظ السيناريو له، إلا أنه كان تخريفًا».

لم يكتب صلاح عيسى للسينما ولا الدراما، لكنه كتب تاريخًا بعين سينمائية وروح درامية، لم تنهل منها الشاشة العربية ما يكفي حتى الآن، ولكن يكفيها إن توقف الأمر عند مسلسل ريا وسكينة، الذي انتصر لوصاية التاريخ على الإبداع كما يراها صلاح عيسى، بل إن وصاية التاريخ تلك هي ما انتصرت للبعد الدرامي.