الموهبة تحرق، تلك حقيقة لا يمكن تجاهلها. الموهبة نار في جوفك تعذبك وتقض مضجعك، هم بالليل ومذلة بالنهار، أنت تعرف أنك موهوب، ترغب فقط في فرصة، فرصة واحدة تثبت فيها أن موهبتك تلك حقيقية وأنك يمكن أن تخلق منها شيئاً يثبت وجودك في الحياة.

الموهبة طريقك الوحيد كي تثبت أنك هنا وأنك تحيا، خاصة لو كانت هي طريقك الوحيد لكسب الرزق، وعندما تكون هي ميراثك الوحيد في الحياة، وقتها سوف تشعر أن كيانك كله يدور في فلك تلك الموهبة، يجب أن تثبت أنك تجيدها وأنك تبرع فيها، لن يهمك ألا تجيد أي شيء آخر في الحياة وسوف تتجاهل إمكانية أنك يمكن أن تحظى بأشياء أخرى في الحياة تستمتع بها وتكفيك شر موهبتك التي يمكن أن تتوحش لتسيطر عليك تماماً.

من أكثر الأفلام التي قدمت نار الموهبة بوضوح فيلم «Amadeus»، الذي يحكي حياة الموسيقار موتسارت والموسيقار ساليري، حتى لو قال المؤرخون إن القصة ملفقة، وأنها لم تكن حقيقية، إلا أن ما يهمنا هنا وما نريد أن نتحدث عنه هو ساليري، الموسيقار الموهوب، الملعون بلعنة الموسيقى، والذي عذبته موهبته وأجبرته على أن يقضي على موتسارت.

أكثر منك مالاً وأعز نفراً

كان ساليري يحقد على موتسارت، الذي كان موهوباً ومحبوباً ويجيد الموسيقى بسهولة. لم يكن موتسارت يبذل أي مجهود كي يستطيع تأليف قطعة موسيقية مبهرة، كان الأمر أشبه بوحي من السماء يختار موتسارت دوناً عمن سواه كي يخصه بالإلهام.

وكان ساليري يرى ذلك ويتعذب، يتعذب لأنه يعرف أنه موهوب وأنه يستحق قبساً من هذا الإلهام السماوي، ولكنه في كل مرة لا يختاره، بل يختار موتسارت الشاب الساذج الأحمق، دون أن يبذل موتسارت ما يستحق عليه هذه المكافأة الإلهية.

يبدو ساليري أنانياً في ذلك، ولكنها الخطيئة التي يقع فيها البشر منذ بداية الزمان وسوف يظلون يرتكبونها حتى النهاية، أن ترى نفسك جديراً بكل شيء، وأنك تستحق الأفضل، خاصة لو كنت تمتلك شيئاً يبرر ذلك. أول خطيئة ارتكبها الإنسان، قابيل قتل هابيل لأنه رأى أنه أحق منه بحب امرأة. قتل أخاه، ارتكب أول جريمة قتل في تاريخ البشرية، وحمل كل خطايا من قتلوا بعده. ساليري هنا أشبه بقابيل.

الشعور بالاستحقاق مدمر، لا نتحدث هنا عن أن يعرف المرء قيمة نفسه الحقيقية، ولكن ألا يرى قيمة البشر من حوله، أن يرى نفسه وحيداً يستحق كل شيء، وأن يُمنح أي شخص آخر أي ميزة يعتبر ظلمًا وجرمًا في حقه.

يحدث ذلك في كل يوم، نسميها أحياناً «عدوك ابن كارك»، ونسميها أحياناً أخرى «قلة إيمان»، ولكنها في النهاية تحدث، تحدث بتواتر مثير للدهشة، يكرر البشر خطاياهم كل ساعة، وفي كل يوم جديد هناك قابيل يقتل هابيل، وكأن الأمر قدر مكتوب على البشرية، عقاب سيزيفي مبهر، دائرة مفرغة من الآثام، وحمل ثقيل من الذنب يعذب صاحبه.

الموهبة تحرق

كان ساليري موهوباً، لو لم يكن موهوباً لم يكن ليحظى بمكانة رفيعة في البلاط الملكي النمساوي، ولن يكون موسيقار القصر. كان موهوباً طبعاً، ولكن موهبته كانت متوحشة، كان يرغب في أن يكون الأوحد، وعندما قابل من يتفوق عليه دون جريرة ودون أن يرتكب في حقه أي شيء، تحرر وحش الموهبة من داخله، ليلتهم غريمه وليلتهمه هو نفسه.

الموهبة تأكل صاحبها حياً، هوس التحقق طارد ساليري في كل لحظة، لم يترك له هدنة ليهدأ ويكتفي بتحقيق نفسه، بل جعله يشعر أنه في منافسة مستمرة مع موتسارت، رغم أن هذه المنافسة لم تكن إلا من صنع خياله فقط، لم يضعه أحد أبداً في مقارنة مع موتسارت، ولا موتسارت نفسه قارن موهبته بموهبة ساليري، ولكن وحش الموهبة الذي لم يروضه ساليري ولم يهذبه سيطر على عقله.

كان يعرف أنه رغم موهبته فإنه لا يقترب من موهبة موتسارت، ولم يكن يمتلك أي شيء سوى موهبته تلك، كان تركيزه وعقله وقلبه يصبو في الموسيقى فقط، وكان موتسارت يحظى بالحب والرفقة والتقبل، فشعر ساليري أنه مظلوم، لم يحاول أن يحيا، بل غذى دوماً نار الموهبة التي تأججت لتحرق كل شيء، بدلاً من أن تنير له الطريق.

كان ساليري مذنباً ولكنه لم يكن مذنباً وحده، كل البشر مذنبون، ربما خطيئة ساليري واضحة فقط، واستشعاره للذنب كان كبيراً، ولكنه في النهاية إنسان. صحيح أن الشعور بالذنب لا يمحيه ولكنه على الأقل يخرجك من دائرة الشيطنة ويضعك في موقعك الحقيقي كإنسان ضعيف يخطئ ويخطئ ويخطئ وربما مرة أو أكثر يستطيع أن يصيب.

أخطأ ساليري – في الفيلم على الأقل – في حق موتسارت، ولكنه أخطأ في حق نفسه أكثر، فالخطايا تثقل كاهل من يرتكبها أكثر مما تثقل من ارتكبت في حقه، وقد حمل ساليري ذنبه بشجاعة واعترف أنه لم يكسب أي شيء جراء حقده على موتسارت، ولهذا خلق الله الندم.