من المعتاد في عصرنا الحالي أن يتميز فنان ما في مجال معين خاصة مع النمو الهائل لصناعة الترفيه وانتشار الوسائط والإنترنت من طرف الكرة الأرضية إلى طرفها، ما ليس معتادًا هو شخص يحضر عالمًا جديدًا بالكامل لم يكن موجودًا من قبل، العالم قبل «المعلم» غير العالم بعدها.


السنوات الأولى

في إيران بعد سنة واحدة من الثورة الإسلامية، ولد «سامي يوسف» في طهران عام 1980، قبل أن تغادر أسرته ذات الأصل الأذري إلى إنجلترا. منذ حداثته أظهر سامي نبوغًا ملحوظًا في الموسيقى، ساعدته على هذا بيئة المنزل، فوالده مطرب وملحن موسيقي أصيل، وطبقًا لسامي فهو من أكثر من عرفهم موهبة وهو الأكثر تأثيرًا على الإطلاق في شخصيته سواء الموسيقية أم جوانب حياته الأخرى.

كان للخلفية الثقافية الواسعة التي حظي بها أثر واضح على كل حياته التالية؛ من أصل أذري، مولود في إيران، نشأ في لندن بكل تنوعها الثقافي والعرقي، نشأ مؤمنًا بالتعددية وبتقبل الآخر. مع تأثير والديه وحسهما الفني العالي بدأ بتعلم أول آلاته، «التامباك» ومن الواضح أن والده كان علميًا تمامًا فيما يخص هذا الأمر فبدأ التعلم بقراءة كتاب عنها، في السنوات التالية تعلم سامي على يد والده المزيد من الآلات الشرقية والغربية كالعود، والطبلة، والبيانو، والكمان، وعن النواحي المتصلة بالموسيقى كالتلحين والمقامات.

رغم الانفتاح الكبير الذي أحاطه إلا أنه التزم بالتقاليد إلى حد الكلاسيكية ولم تبهره لندن الحديثة، فكما يقول: «ما عيب أن تكون تقليديًا؟»، حتى أنه في مراهقته كان يذهب للمدرسة مرتديًا ربطة العنق. وفي فترة شبابه كان عليه أن يقرر ما إذا كان ينوي الاستمرار في المجال الموسيقي أم يلتحق بـ«King’s college» لدراسة الحقوق -أما والدته فقد كانت ترغب أن يصبح طبيبًا- كان قد عمل منذ كان في الخامسة عشر في إنتاج الموسيقى في إستوديو تسجيل، ووجد عالم الموسيقى التجاري لا يناسبه فكان الابتعاد تمامًا ودراسة الحقوق احتمالاً واردًا، لكنه أصدر أولاً ألبوم المعلم.


المعلم: الانفجار العظيم

لا يمكن لأي منا أن ينسى تلك الفترة التي عرف فيها العالم العربي أغنية «المعلِّم»، في عام 2003 صنعت ضجة غير مسبوقة، خصوصًا بالنسبة لأغنية «إسلامية»، واحتلت الأغنية المركز الأول في مصر وتركيا لمدة 3 أشهر.

ضم الألبوم الذي أصدره يوسف وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره ثمان أغانٍ، وبدأ الاهتمام به كظاهرة في العالم العربي حيث كانت الأغاني الدينية مقتصرة على أغنية من عام لآخر يغنيها مطرب شهير لبرنامج ديني، أو ابتهالات المنشدين، أما أن يكون هناك مطرب يغني بشكل مخصوص أغاني دينية فقط دون أن يكون منشدًا كان هذا جديدًا تمامًا، ولعل مع انتشار العديدين ممن يغنون هذا النوع الآن قد نظن الأمر عاديًا لكن وقتها كان سبقًا. سامي يوسف خلق مجالاً لم يكن موجودًا من قبل.

لم يكن فقط مغنيًا جيدًا، أذكر في هذه السنوات الأولى لقاء له مع الرائع «عمار الشريعي»، وكنت مذهولة كما كان معظم الناس الذين شاهدوه لأول مرة في لقاء، كيف لهذا الشاب الوسيم المبتسم أن يغني بصوت رائع بهذه الاحترافية ويجيد العزف على أكثر من آلة، ويمتلك ثقافة موسيقية وثقافة عامة مبهرة هكذا؟.

صعد سامي يوسف بثقة إلى مكانة مميزة عند الناس، المسلمون في أنحاء العالم بمختلف طبقاتهم وأعمارهم استقبلوا هذا القادم من بريطانيا من أصول شرقية بترحاب شديد. كان الألبوم من تأليفه وتلحينه بالكامل ومن تمويله أيضًا. بعد صدوره انتقل سامي يوسف إلى مصر ليتعلم العربية وظل يقيم فيها لمدة أربع سنوات.

استمر النجاح مع صدور ألبومه الثاني «أمّتي My Ummah» في عام 2005 وتلقاه الجمهور بترحاب وحماس يماثل الألبوم الأول – هذا الحماس سيستمر معه طوال مسيرته المهنية.

وتوسعت المواضيع في هذا الألبوم، فضمت أغاني عن الحق في الحجاب «Free»، وعن الناس في مناطق النزاع «Try not to cry» التي كانت عملاً مشتركًا مع فرقة الراب النرويجية الشهيرة «Outlandish»، بالإضافة بالطبع للأغاني إسلامية الطابع وأكثر أغانيه شهرة على الإطلاق وأكثر الأغاني استخدامًا كنغمة للجوال في مصر «حسبي ربي».


الألبوم الثالث Without You

في 2009 كان الحماس مماثلاً للألبومين السابقين رغم أنه حمل معه الكثير من المشاكل بسبب خلافات بين المطرب وشركة الإنتاج الشهيرة التي أصدرت الألبوم «Awakening records»، قال يوسف إن تسجيلات الأغاني كانت مبدئية ولم يتم استشارته في أمر نشر الألبوم تجاريًا لأن جودة الألبوم لا توافق معاييره العالية في الأغاني! (أصدر هو لاحقًا نسخًا تم تعديلها من الأغاني التي في الألبوم).

هذا الألبوم الذي لم يعتبره هو جيدًا كفاية حقق نجاحًا ساحقًا، كان يضم تنوعًا واضحًا، أغاني عن الحرب، عن الرجاء، أغاني تخاطب الإنسانية والروح والجمال مثل «Without you» و«A thousand times»، وعن فلسطين «Forever Palestine»، مجددًا كانت الألحان لا تضاهى، مختلفة عما قدمه من قبل مع الكلمات الصادقة التي تصل للقلب مباشرة. بعد خلاف ألبوم Without You، ترك يوسف شركته القديمة وبدأ مرحلة جديدة.

في 2011، أصدر أغنية مفردة «I’m your hope» بعد الربيع العربي التي استقبلها الشباب بالذات بتقدير عالٍ، بينما يهتف الشباب ضد الطغاة كان سامي يوسف يغني:

لا تنسني أنا ضميرك :: لا تؤذني أنا شبابك سلّمهم يا رب :: سلّمهم يا رب

مرحلة جديدة.. نوع جديد

لم يتوانَ منذ البداية عن توضيح أنه ليس مغنيًا إسلاميًا، وليس منشدًا. هو يرفض وضع كلمة إسلامي لتوصيفه أو لوصف فنه، بل يفضّل تسميته «فن له غرض Art With Purpose»، هو مطرب يصدف أنه إسلامي، لكنه لا يتحدث باسم الإسلام ولن يغني أغانٍ ذات طابع ديني فقط لأن السوق يتطلب هذا.

على الجانب الآخر هو ليس كما تصفه الصحف الغربية بأنه نجم روك أو بوب إسلامي، كما يرفض الوصف الشرقي يرفض الوصف الغربي كذلك، هو ليس جاستن تيمبرليك مسلم مثلاً بل يقدم شيئًا جديدًا مميزًا، مع هذا الموقف الأيديولوجي بدأت تتضح ملامح النوع أو الـ«genre» الذي يغنيه سامي يوسف في ألبومه الرابع، ليس دينيًا بالضبط، لكن إنساني وربما روحاني «Spiritique» كما وصفه هو نفسه.

هذا النوع الخاص جدًا الذي ليس فقط تعريبًا لألحان غربية ولا نسخًا من الألحان الشرقية التقليدية، هو شيء أكبر وأكثر أصالة وعمقًا بكثير وإن كان يضم لمحات من هذا وذاك. كانت هذه فترة مضطربة في حياته بعد خلافه مع شركته وتنقله بين عدة دول مع وبدون زوجته مريم؛ الألمانية التي تحولت للإسلام بعد دراسة جادة.

الألبوم الرابع «أينما تكون Wherever You Are» كان خير مثال على هذه الروحانية والتغلب على المصاعب، فيما عدا 3 أغانٍ من 12 أغنية كل الأغاني تتحدث عن الحياة ومواجهتها مثل: «Make me strong»، والأغنية التي غناها بأربع لغات مختلفة «You Came To Me».

الألبوم الخامس «Salaam» في عام 2012، ظل يحمل خصائص سامي يوسف المعتادة؛ موسيقى مبهرة تجمع بين الشرق والغرب – لكن تميل للموسيقى الغربية أكثر – مواضيع تلمس الروح مؤكدًا على أهمية تقبل الآخر ومحاولة الوصول للسلام الداخلي. أعاد في هذا الألبوم غناء بعض أغاني ألبومه الثالث without you بأسماء جديدة .كانت جرعة الطاقة الإيجابية في هذا الألبوم أعلى من المعتاد، الأغاني حملت أسماء مثل Happiness و Smile لذا يمكننا أن نتوقع محتواها.

من ضمن الخمسة عشر أغنية التي ضمها الألبوم، كانت هناك مفاجأة سارة، يتعاون سامي يوسف دائمًا مع مطربين من مختلف الأماكن والخلفيات الثقافية، التعاون في هذا الألبوم كان مع المطرب القدير «باباك رادمانيش»، والده، في أول وآخر تعاون بينهما حتى الآن، غنى سامي بالإنجليزية بينما غنى والده بالفارسية، يمكننا أن نلمس ما يقصده يوسف عندما يقول إنه يعتبر والده من أفضل الفنانين الذين عرفهم وأن نلحظ الشبه بينهما.

https://www.youtube.com/watch?v=fdo6KndhPPw

في 2014 تبع «سلام» ألبوم أكثر تنوعًا وإبداعًا؛ الألبوم السادس «الجوهر The Centre». مجددًا تتحدث الأغاني عن الرحلة الروحية، بين الأغاني إسلامية الطابع مثل «Lament» التي يرثي فيها الرسول الكريم، و«Khorasan»، وأغانيه الأخرى التي تمجد الحرية والمحبة والروح الإنسانية الثمينة مثل «Pearl» ومثل «The Key» التي غناها على اللحن القديم فائق الشهرة لأغنية «لما بدا يتثنى».

في العام التالي 2015 في تجربة جديدة عليه قام سامي يوسف بعمل الموسيقى التصويرية للفيلم الإنجليزي الإنتاج عن العالم الإسلامي «الحسن بن الهيثم» «1001 Inventions». وفي نفس العام كان هناك ألبوم «Songs of The Way»، الذي كان يحمل طابعًا إسلاميًا شرقيًا مميزًا، مع الكثير من استخدام الموسيقى الإيرانية بمساعدة والده وموسيقيين إيرانيين آخرين.

كانت كل الأغاني بالإنجليزية عدا واحدة بالعربية وأخرى بالفارسية، تنوعت الأغاني بين تمجيد الله في «الحمد لله» ولمسة إنسانية مع «Let Us Not Forget»، ومن أجمل أغاني الألبوم أغنية Cadence التي يحتفي فيها بكل صوت تطرب له الروح:

آخر ألبوماته «بركة Barakah» في 2016. مجددًا لا يخذلنا يوسف ويقدم شيئًا جميلاً، ألبوم فائق الروحانية، أغانيه معظمها ذات طابع إسلامي عالٍ مثل «Taha»، و«Ya Rasul Allah»، والمزيد من التمجيد لله ومدح الرسول الكريم وأصحابه، وأغان بالتركية والأوردية. كما قام بغناء جزء من قصيدة رابعة العدوية الشهيرة «أحبك حبين» كذلك الجزء العربي «عرفت الهوى» كان رائعًا، لكن الجزء الإنجليزي الذي ترجمه العالم والباحث الإسلامي «تيموثي وينتر» كان إضافة ثمينة.

ولمزيد من إثبات مهاراته اللغوية الفائقة، هذه الأغنية التراثية الباكستانية الشهيرة Mast Qalander، نجده يغني بلكنة محلية بإجادة كأهلها.

وكأن يوسف أيقن أن رسالة أنه ليست مطربًا إسلاميًا قد وصلت كاملة، فكانت أغاني هذا تميل للجانب الديني وللشرق مع تقليل الموسيقى الغربية والاتجاه نحو الآلات والموسيقى الشرقية بإفراط – لو كان لنا أن نقول هذا فهو لا يفعل أي شيء بإفراط بل يستخدم القدر المناسب تمامًا.


لماذا سامي يوسف؟

لماذا حقق سامي يوسف كل هذا النجاح؟، ولماذا يستحقه؟

بعيدًا عن الجانب الإنساني وتعاونه الدائم مع منظمات الإغاثة والأمم المتحدة، بالنسبة لما أحدثه يوسف من تغيير عميق في عالم الغناء فهو لم ينل التقدير الكافي، كل هؤلاء الذين تبعوا طريقه في تقديم أغانٍ ذات طابع إسلامي مع الحفاظ على العصرية كان الأمر أسهل عليهم لأنهم بالفعل ساروا في الطريق الذي مهده، مع تأكيده لمرات لا تنتهي أنه لا يقدم نسخة إسلامية من الأغاني الغربية مثلما يفعل معظم من يغنون في المجال الآن، هو يبتكر شيئًا جديدًا من الصفر، شيئًا في موقع وسط بين الشرق والغرب، لو نظرنا في الجوانب الفنية لأغانيه بعد لحظات الطرب الأولى سنجد أنه ملحن يندر وجود مثيله.

نرى هذا بوضوح في مقطوعة The dawn، تجد الأذن لحنًا حديثًا، ثم في الجملة الموسيقية التالية نجد أننا انتقلنا لدمشق في العصر الأموي، بعدها فورًا إلى شرق آسيا ثم إلى إحدى الحارات المصرية. هذه القدرة الخارقة على التلحين وعلى صب التنوع الثقافي الذي يحمله في ألحانه تستحق الإعجاب حقًا – يمكن أن نلاحظ مهارته في العزف على الآلات الوترية في هذا الأداء لـ The Dawn:

مع تأكيده الدائم أنه ليس مطربًا إسلاميًا يستمر في إنتاج أغان إسلامية تحمل من معاني الإسلام ما لا يمكن حصره. وعندما يتم سؤاله إذا ما كان يفعل ذلك من أجل تحسين صورة الإسلام أو ما شابه فإنه يرفض هذا رفضًا قاطعًا ويعيد أنه مجرد مطرب يحوّل ما يشعر به إلى فن ولا داع لأن يتم تحميله أو تحميل فنه بعدًا أعمق.

موقفه قد يبدو غريبًا فهو لن يخسر شيئا لو تقبل هذا المدح خصوصا في عالم بلغ فيه الاستقطاب مداه وأصبحنا في حاجة لتصدير صورة أكثر عصرية وتسامحًا وأقل تشنجًا للإسلام ومن أفضل لهذا سواه؟، لكنه يواصل التأكيد على أنه لا يعد نفسه نموذجًا يحتذى Role model للشباب، ولكم هذا مهم في حاضرنا فهو لا يصدر نفسه باعتباره الصواب الوحيد والواجب اتباعه في زمن يعتقد كل من يملك بضعة آلاف متابع أن عليه أن يكون نموذجا يُحتذَى.

هو لا يدعي ارتباطه بالإسلام ما سيحقق له بالطبع رواجًا واسعًا، لكنه يكتفي بموهبته وفنه وحدهما وأعتقد أنهما كافيان تمامًا لتحقيق ما يصبو إليه المرء دون الحاجة للاعتماد على أيديولوجية معينة.


ماذا بعد؟

مع هذه الموهبة الطاغية والروح العالية التي لا تكف عن الإبداع في كل تفصيلة، كل كلمة وكل نبرة صوت وكل دقة على التومباك أو ضغطة على إصبع البيانو يمكننا أن نثق أن سامي يوسف لن يتوقف عن إبهارنا، وكلما فكرنا أنه قد بلغ القمة يفاجئنا أن هناك المزيد بعد؛ المزيد من الجمال، من الابتكار، من اكتشاف أنفسنا وتقبل الآخر، من مساعدة الآخرين، من الفخر بما نحن عليه، ببذل المجهود في سبيل ما نحب، وأن نؤمن أن Worry ends, when faith begins.