في لقطة لا يمكنك وصفها سوى بالشجن المحبب وقف «سمير غانم» على مسرح مهرجان القاهرة السينمائي في دورته التاسعة والثلاثين ليلقي كلمة قصيرة بعد تكريمه الأول على الإطلاق، ليقول بابتسامته الساخرة أنه شاهد منذ عدد قليل من السنوات ممثلاً أمريكيًا في حفل توزيع الأوسكار بعد فوزه يخاطب الجائزة قائلاً لها «تمانييييين سنة وأنا مستنيكي»، ثم تتحرك الكاميرا لنرى زوجته «دلال عبد العزيز» تكفكف دمعات هاربة وتتمتم «الحمد لله» وتربت على قلبها مشيرة له من موقعها وسط الجمهور.

تلك لقطة لا تعبر عن الفرح الخالص، ولا تعبر أيضًا عن المرارة النقية، هي خليط من مشوار العمر والحزن والفرح والشجن والترفع والاحتياج والكثير جدًا من سقوط أقنعة اللامبالاة وحلول الرضا المشوب بالعتاب بدلاً منها، تلك لقطة لا يمكن لوجه سوى وجه «سمير غانم» أن يعبر عنها، بابتسامته بزاوية فمه، ونظارته الكبيرة وباروكته اللامعة، وملابسه السوداء المطعمة باللمعان، تلك لقطة تأخرت جدًا ولذلك كان لها مذاق خاص واستحقت أن يتحدث عنها المهتمون بالفن طويلاً.

سمورة بيحييكوا

ببعض ضغطات الأزرار على أي محرك بحث يمكنك أن تعرف تاريخ حياة سمير غانم بالكامل، بدءًا من بداياته مع جورج سيدهم والضيف أحمد مكونين فرقة ثلاثي أضواء المسرح، مرورًا بحل الفرقة بعد وفاة الضيف واتجاه سمير وجورج للتمثيل في أفلام ومسرحيات معًا أو منفصلين، ثم مرحلة لمعان نجمه في التليفزيون مع المسلسلات والفوازير وشخصية فطوطة وانتهاءًا بلحظة تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي بجائزة فاتن حمامة التقديرية، ولكن كل تلك التواريخ لن تنقل لك سمير غانم كما يمكن لأحد محبيه أن يصفه.

سمير غانم رائد (كوميديا الفارص)، الضحك لمجرد الضحك، إفيهاته الطازجة دومًا وحركاته التي يمكنك أن تصفها أحيانًا بالابتذال عندما تراه يرقص بشورت بكرانيش أو متحزمًا بإيشارب فاقع اللون، إكسسواراته التي لا تعرف من أين يمكن أن تشتري مثلها بدءًا من نظاراته الغريبة مرورًا بملابسه اللامعة وحتى أحذيته وباروكاته، تقمصه لأي شخصية أيًا كانت حتى ينتزع الضحكات من الحضور حتى لو اضطر لتركيب أقماع في صدره ويلعب دور امرأة، صوته الذي يتلون حسب الجملة التي يريد قولها، كل هذا يفعله مع وجود شنبه الكبير الذي يحتل مساحة لا بأس بها من وجهه والذي يعطيه مظهرًا وقورًا جدًا يمكنك حتى أن تخشاه إذا لم تكن تعرف أنه هو سمير غانم، سمورة، فطوطة.

كوميديا لم يأت أحد بمثلها، كان يلعب في منطقة وحده رغم أنه كان يزامن عادل إمام ومحمد صبحي في نفس التوقيتات تقريبًا مع احتفاظ سمير غانم بالأسبقية بالطبع من حيث الزمن الذي بدأ فيه كل منهم، ولكنه احتفظ بلون الكوميديان فقط، لم يجرب أن يلعب أدوارًا درامية (باستثناء فيلم الرجل الذي عطس والذي كان رغم نهايته الدرامية كوميديًا أيضًا ولم يكررها مرة أخرى) أو قام ببطولة أعمال تعرض وجهة نظر سياسية (باستثناء مسرحية جحا يحكم المدينة وهي التجربة التي لم يكررها أيضًا)، ظل يحتفظ بملعبه الواسع جدًا الذي يلعب فيه منفردًا، فكان دائمًا بطل كوميديا الفارص الذي لا يضاهيه أحد.

الرجل الذي ضحك

كان سمير غانم ولا زال صاحب مبدأ، هو لا يتحدث جديًا مطلقًا في أي لقاء عام، حاول أن تستدرجه للحديث في السياسة سوف يخرج من السؤال كالشعرة من العجين دون أن يجيب ودون أن يتهرب بجبن، هو بالفعل يدافع عن مبدئه في الحياة، هو يعرف كيف يعيش ولا يريد أن يشغل باله بأي شيء يعكر استمتاعه، حتى في لقاءاته عندما يحدثه أحدهم عن صديق عمره جورج سيدهم وحالته الصحية يصرح بلا خجل ولا مداراة ولا تصنع أن زوجته هي المسئولة عن متابعة حالة جورج ومساعدته إذا احتاج مساعدة، عاش سمير غانم كي يضحك ويجعل الآخرين يضحكون، لدرجة أنه كان يصرح دومًا أن دلال عبد العزيز هي من كانت تطارده كي تتزوجه وكان يروي تفاصيل مختلفة في كل لقاء تليفزيوني حتى ظهرت دلال مؤخرًا وصرحت أنه هو من كان يطاردها وهو من اتخذ الخطوات الأولى بادئة حديثها قائلة «بيستعبط».

إذا شاهدته في أي لقاء منوعات سوف تجده يتحدث دومًا عن تقديره لجمال المرأة رغم أنه لا يروي أي حوادث أو مغامرات شخصية، ولكنه دومًا يلتف بالحديث حتى يخيل لك أن له صولات وجولات في حين أن زيجته من دلال عبد العزيز وأسرته بشكل عام من أنجح الأسر وأطول الزيجات في الوسط الفني، ولكن حديثه هذا تكملة لهالة الكوميديا أو إذا شئنا أن نطلق عليها ببعض الأريحية هالة «الهلس» التي يحيط بها سمير غانم نفسه.

قام سمير غانم ببطولة العديد من أفلام المقاولات – ما يربو على الخمسين فيلمًا – ورغم اعترافه أنه قام بذلك في سبيل المال إلا أنه لم يتبرأ من هذه الأفلام ويكرهها كالنجوم الآخرين الذين شاركوا في مثلها بل يقول عنها إن «كمية الضحك الموجودة في فيلم واحد منها تعادل خمسة أفلام مما تقدم الآن على الساحة»، فهو يؤمن بأهمية الضحك للضحك حتى لو كان الفيلم رخيصًا بلا قصة ولا تكنيك ولكنه مضحك إذن فسمير غانم يحبه بلا جدال.

لماذا لم يعيروه انتباهًا؟

رغم تاريخه الحافل الذي يمتد قرابة الخمسين عامًا، لم ينتبه أحد من القائمين على صناعة الفن في مصر لسمير غانم ويمنحه حتى تكريمًا واحدًا، لم يتجاهلوه قطعًا فسمير غانم يقدم دومًا في كل البرامج والحفلات والمجتمعات المعنية بالفن على أنه أحد أعمدة الكوميديا المصرية وروادها، إلا أن هذا التقدير الضمني لم يدخل في حيز الرسميات أبدًا.

ربما كان هذا لأن سمير غانم نفسه لم يبدو مهتمًا أبدًا ولم يتحدث عن تجاهل المحافل الفنية لتاريخه ولم يمنح الأمر بعدًا دراميًا وظهر دومًا بمظهر الفنان المتحقق الذي لا ينقصه أي شيء فنسوا أنه ينقصه التكريمات والجوائز، وربما لأن سمير غانم لم يكن أبدًا واجهة إعلامية تتحدث باسم الفن والفنانين ويطلق تصريحات رنانة ويدلي بدلوه في كل وأي شيء فلم يكن أبدًا مهمًا للوسط أن يسترضيه فلم يمنحه أحد أي جوائز، وربما حدث هذا لأن سمير غانم لم يقدم أعمالاً تصنف من وجهة نظر المجتمع في خانة الأعمال المهمة، فلا تحمل أعماله قيمًا سياسية مباشرة مثلاً ولا تنحاز لأي طرف متصارع على مدار تاريخه، فتجاهله أهل الفن لأنهم لم يعترفوا أبدًا بالكوميديا الخام كفن مهم في حد ذاته.

تخمينات كثيرة يمكننا أن نفكر فيها ونفرد لها الصفحات ونتحدث ونفكر، ولكننا إذا فعلنا ذلك نكون حدنا تمامًا عن طريق سمير غانم الذي عاش دائمًا وحتى الآن في سبيل أن يستمتع فقط، وقد منحته الأقدار تكريمًا صحيح أنه جاء متأخرًا جدًا إلا أنه جاء فلا داعي للكثير من التنظير ولنحذُ حذو سمورة وننسَ الموضوع تمامًا، ونضحك.