تخوض «نورا أمين» في روايتها الجديدة «ساركوفاج» غمار تجربةٍ روائيةٍ جديدة، من خلال لعبة سردية تنهض على تقنية الحوار الداخلي/المونولوج الطويل بين شخصيّات الرواية التي تعيد استكشاف نفسها وتعريف القارئ بعالمها وما فيه من غرابةٍ وتغيّرات، تلك اللعبة التي تستدعي الحديث عن دور «الكتابة»، و«القراءة» وما يسهمان به في تشكيل العالم، كما تتناول حديثًا عن أهمية «الذاكرة» وتناقش أفكارًا عديدة تتعلّق بالنسيان جدواه وحقيقته، ودور المرأة/الأم بين الإخلاص للحب والخيانة، وغيرها.

لا تعتمد الرواية على شخصيّاتٍ كثيرة، ولا أحداثٍ ومواقف متشعبة، بل تعمد بشكلٍ كبيرٍ على التكثيف، حد أن القارئ بعد الانتهاء منها (وهي رواية قصيرة) يشعر أنه كان بإزاء قصة طويلة نوعًا، تركّز بشكلٍ أساسي على علاقةٍ قائمة بين امرأتين، لا نلبث أن نكتشف أنها البنت وأمها التي تستعيد علاقتها بها من خلال مذكراتها التي تركتها داخل صندوقٍ خشبي

كان الصندوق الخشبي فعلاً أشبه بالتابوت الحجري. لكنّه كان تابوتي أنا وليس الكتابة، كنت أنا القابعة بالداخل منذ طفولتي. جثة صغيرة لطفلة لم تنضج بعد، لذلك هرعت سريعًا لأختبئ بداخله، لأهرب إليه وفيه من الهزّة الأرضيّة… كنت أفضّل المكوث في الطفولة على أن أنضج وأصبح وحيدةً وقاسية مثلها. لكن يبدو أنني أفقت قليلاً على جسدي الجديد عندما خرجت من الصندوق بصعوبةٍ بالغة وقدماي ملتصقتان بالكراستين. كان ذلك الخروج أشبه بولادةٍ أكثر من إدراك متأخر أني غادرت مرحلة الطفولة، غادرت الرحم غادرت الجهل، وشيئًا فشيئًا استيقظت جثة الطفلة في ذلك التابوت الحجري، ودبت فيها الحياة بالكتابة.

ثمَّ حكايةٌ بالتأكيد، وتفاصيل تتكشّف للقارئ شيئًا فشيئًا من خلال السرد، ولكن النص يبدو غير عابئٍ بما في داخله من «مفاجآت»، فالرواية ليست تلك الرواية البوليسية التي تعتمد على لغزٍ وتسعى للكشف عنه، بل تقدم أوراقها بكل سهولةٍ ويُسر من خلال ذلك الحوار الداخلي بين بطلتي العمل، الذي يتم سرده مرة من خلال الراوية/البنت، ومرة أخرى من خلال مذكرات الأم المتروكة في ذلك الصندوق، تتقاسم البطلتان ذلك الوعي بالحياة وبالخلاص من خلال القراءة أولاً، واستعادة اكتشاف العالم السحري الذي يدور بين طيّات الكتب، ثم إيجاد حياةٍ خاصة بهم والتعبير عنها من خلال الكتابة، لذا ليس غريبًا أن تتماهى البطلة مع «فرجينيا وولف» مثلاً

أقرأ فرجينيا وأتوه معها، أنسى واقعي ولغتي، أنسى حياتي. أصبح أنا فرجينيا ربما أفضل مهنة لي الترجمة، أستطيع أن أترجم فيرجينيا كما لو كانت هي التي تكتب بالعربيّة، أستطيع أن أتقمصها وأقلد خط يدها في الكتابة. يجمع بيننا هذا الإحساس الطاغي بالوحدة. يمكنني أن أخمّن أن قدرًا كبيرًا من كتابتها كان يتكئ على الوحدة، بالتأكيد هي ليست مثلي، لا تجلس وتحدث نفسها على الورق. هي أديبةٌ كبيرة، لكنّها تتحرّك أيضًا من منطلقات شخصيّة. أعشق هذا السبيل ولا أجده إلا في كتابات النساء.

كراستين تجدهما البنت/البطلة في ذلك الصندوق الخشبي الغريب، فيقلبان حياتها رأسًا على عقب، ويكشفان لها أسرارًا تعرفها لأول مرة، ويبرران لها موقف أمها منها، بل يعرفانها كذلك على سبب وفاة والدها!

الجميل في الأمر أن كل ذلك يتم من خلال طقس الاعتراف الذي تمارسه الأم من خلال كتابتها من جهة، وتستقبله البنت بقراءتها لتلك المذكرات بشكلٍ من التصالح مع تلك الأخطاء ومحاولة التجاوز، بما يجعل عمليات الكتابة والقراءة في النص ذات خصوصيّة شديدة تدفع للتغلّب على صعاب الحياة، إذ كانت القراءة في البداية بالنسبة للأم بوابتها على ما لم تعرفه من العالم، وهي التي أدت بها إلى التعرف على الحب الحقيقي، كانت القراءة بالنسبة للبنت وسيلتها للمقاومة استطاعت من خلالها أن تصنع عالمها الخاص، فلمّا كبرت كانت الكتابة وسيلتها لفهم العالم وإدراك ما خفي عليها منه.

وعلى الرغم من أن النص/الرواية تنقسم إلى أربعة أقسام بدون ترقيم أو إشارات، إلا أنه يبدو وحدةً واحدةً متكاملة، تتقاطع فيه رسائل الأم مع اعترافات البنت، ليشكلا معًا الصورة النهائية للرواية، والتي تضع القارئ وجهًا لوجهٍ أمام حالة الرواية الخاصة وأفكارها، لاسيما تلك الأفكار المتعلّقة بالكتابة وقدرتها على استعادة حياتها من غمار النسيان الذي كان يمكن أن تضيع بسببه، وكأن التدوين وكتابة المذكرات هنا بمثابة فرصة جديدة لاستعادة تلك الحياة التي ربما تكون قد ماتت أو تم وأدها داخل تابوتٍ حجري «ساركوفاج».

في النهاية تضع الراوية القارئ أمام حيرةٍ حقيقيّة متمثلة في التشكيك في كل ما دار في الرواية من حكايات، وكأنّها تريد منه أن يستعيد قراءة الحكاية، أو هي تفتح مساحاتٍ أخرى لتأويلها، لذا فلا عجب أن تكون جملة النهاية

الحياة الكتابية ليست ملكًا لأحد، الكتابة ليست حكرًا على أحد

نورا أمين روائيّة ومترجمة مصريّة، صدر لها عدد من الروايات منها «جمل اعتراضيّة» 1994، و«قميص وردي فارغ» 1997، كما ترجمت عن الفرنسية والإنجليزية لمارغريت دوراس، وآني أرنو وغيرهما، كما عملت في الإخراج المسرحي عام 2000 وأسست فرقة «لاموزيكا» المسرحية المستقلة.