الشجرة | اللي لوركا مات مقتول في ضلها | لسه يا ناس | بتسقسق الضلة لراس الحرس المثلثلة | الشجرة | اللي لوركا مات مقتول في ضلها | الحرس الأسود ح ينتهي ويتنسى مسا الأسى | وهي باقية للأبد محلها
سيد حجاب من ديوان «في العتمة»

فيديريكو جارثيا لوركا هو شاعر إسباني وكاتب مسرحي ومؤلف موسيقي. ولد في غرناطة عام 1898، وهو واحد من أبرز كتاب المسرح الإسباني في القرن العشرين. أعدم لوركا من قبل الثوار القوميين وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936.

فيما يشبه النعي المتأخر، كتب سيد حجاب هذه الأبيات في قصيدته «صور أندلسية» عام 1969، يصور فيها أشعار لوركا بالشجرة تفرش ضلها حتى على رؤوس قاتليه، ويبشر بأن ليل الظلم لا بد وأن ينقشع وتظل الشجرة باقية «للأبد محلها». في الخامس والعشرين من يناير لعام 2017 رحل عن عالمنا الشاعر الكبير سيد حجاب، تاركًا خلفه شجرة سامقة تمتد أفرعها المورقة لتضلل علينا، وتبقى كمقام الأولياء الصالحين لا ينقطع عن زيارتها البسطاء ممن كتبهم حجاب واستعار ألسنتهم ليمد جذور شجرته في أعماق وجدانهم إلى الأبد.

زخرف القول

استطاع أن يتعامل مع الكلمة. روضها، استأنسها، صادقها، تبناها. يقول عايز أكتب، يمسك القلم، تنط كلمات العامية المصرية كلها تتسابق علشان تلاقي مكان على حجره. حجر سيد حجاب.
عمار الشريعي، برنامج «سهرة شريعي»

هكذا يصف الموسيقار الكبير عمار الشريعي صديقه ورفيق رحلته الإبداعية الشاعر سيد حجاب، وهو وصف على ما فيه من مبالغة بلاغية إلا أنه أصاب الحقيقة، فالكلمات والزخرفة اللفظية هي أول ما يلفت انتباه المستمع لأشعار سيد حجاب. قدرة استثنائية على ترويض أصعب الكلمات وأكثرها أصالة وأقربها إلى الوجدان الشعبي، وتحمل في ذات الوقت موسيقاها الداخلية من خلال السجع السهل الممتنع الذي يلازم كل أشعاره. من منا لا يحفظ عن ظهر قلب كلمات مثل [الغش طرطش رش ع الوش بويا (أرابيسك)]، أو [ليلاتي في المعاد ده | ينعاد عمري اللي عدى | وألقى الماضي اللي عدى | ع الحاضر يستعدى (الليل وآخره)]؟ 

الكلمات للشاعر هي مادته الخام، هي الحجر الذي ينحته تمثالًا ناطقًا، والطين الذي يلين بين يديه ويشكله ويخلق منه خلقًا أجمل الأواني. ولكن جوهر فن الشعر يتجاوز المادة الخام أو الكلمات في صورتها الأولى إلى قدرة الشاعر على تلوينها وتحميلها بالمشاعر والمعاني، وتطويعًا ليخلق من خلالها صورًا جديدة لم يسبقه إليها أحد، وهو ما برع فيه سيد حجاب إلى حد الإعجاز. عندما يقول حجاب [وعينيك فتيل قنديل قتيل | في عتمة الليل الغريقة (قصيدة الرحلة ديوان في العتمة)] فهو هنا يرسم صورة شعرية كاملة بكلمات قليلة وبسيطة، ولا تأتي الموسيقى الداخلية في كلمات مثل «فتيل قنديل قتيل» إلا كمظهر جمالي إضافي وتابع وليس هدفًا في حد ذاته.

ولد سيد حجاب في مدينة المطرية بمحافظة الدقهلية، وبالقرب من بحيرة المنزلة لأب مثقف يحفظ الشعر ويكتبه. يقول حجاب: «لقد نشأت على يد أب يحفظ الشعر الكلاسيكي، وحياة تمور بالغناء في كل نواحيها». بدأ حجاب كتابة الشعر في الحادية عشرة من عمره بقصيدة رثاء بالفصحى لأحد شهداء النضال الشعبي ضد الاحتلال الإنجليزي في مدن القناة. ثم جاء التحول إلى العامية المصرية من خلال نصيحة أحد مدرسيه الذي أخبره أن يلتفت إلى القصائد الكامنة في وجدان الناس من حوله. أخذًا بالنصيحة بدأ الطفل سيد حجاب في التجوال مع الصيادين من أبناء عمومته للبحث عن هذه القصائد، وليتحول بعد سنوات قليلة من التنقيب في عوالم البسطاء إلى شاعر الصيادين والمتحدث بلسانهم، وبعد سنوات أخرى يكتب أول دواوينه بالعامية المصرية بعنوان «صياد وجنية».

استقى سيد حجاب قاموسه الشعري من اللغة البسيطة والمأثور الشعبي والقرآني، وصنع منها صورًا جديدة طازجة دخلت على الفور إلى القاموس الشعبي. عندما يقول حجاب [دنيا شقا كلنا عيشها | والخوف راعشنا وراعشها | ووحوشها طيشها ناعشها | ونافشة ريشها وضارية (كناريا وشركاه)]، أو يقول [المال تجيبه الريح وتاخده الهوايل | أما البنون يوم الحساب بيفتونا | مال إيه؟ ده لو كان مال قارون كله زايل | ولا غير عمايل الخير يا هوه ينجدونا (المال والبنون)]، أو يقول [وكل ضيقة بعدها وسعة | وأهي دي الحقيقة بس منسية | وكلنا ولاد تسعة وبنسعى | ودي مش وسية الناس سواسية (الوسية)] تتجاور الألفاظ والتعبيرات العامية بتلك الفصيحة والتعبير القرآني بغيره الشعبي فلا يشعر المستمع بأي تناقض أو تنافر، وفوق كل ذلك لا تغيب الصور الشعرية التي تتخذ من الوجدان الشعبي مرجعية أولى فلا يصعب على المستمع البسيط فهمها أو التماهي معها فتدرك الكلمات غايتها ويصل معناها كما أراده صاحبها بلا زيادة أو نقصان.

جمال المبنى وكماله

جزء من أهمية الشعر في تكثيف صوره، بحيث يشارك المتلقي في إنه يفك هذه الصور فيحس بالانتساب والانتماء للعمل.
سيد حجاب

تمثل هذه المقولة إحدى القواعد التي اعتمد عليها سيد حجاب في بناء القصيدة من خلال الشطرات القصيرة والصور المكثفة والابتعاد عن الاطناب والاستسهال اللفظي. يقول حجاب [يا دنيا مهما تغري | غيري مسيرك تمري | وبعد مري تسري | نفسي العفيفة الغنية (المال والبنون)]، أو يقول [العتمة سور والنور بيتوارى | وإيش للفقارى في زمان النوح | ميتة تخطي السور يا نوارة | ويهل عطرك ع الخلا ويفوح (الأيام)]. التكثيف في تعبير مثل «العتمة سور» وعبر الحد الأدني من الكلمات، يرسم صورة كاملة يقف أمامها المستمع متأملًا ومتفكرًا وهذا أقصى ما يطمح إليه شاعر، أن تحرك كلماته العقول وتدفعها للتفكر بقدر ما تثير في النفوس من انفعال وإحساس بالجمال.

لا ينحصر مفهوم التكثيف هنا في مبنى الشطرة وعدد كلماتها وإنما ينسحب أيضًا على الصور الشعرية. يقول حجاب [بحسي الأخرس بنوح (وقال البحر)]، أو يقول [والحزن في قلبي نخره (الليل وآخره)]. بكلمة واحدة (نخره) يرسم الشاعر صورة كاملة للحزن الذي يخترق القلوب كما السوس وفعله بالخشب.

هذا الجانب الجمالي في شعر سيد حجاب لا يفتقد إلى وجهه الدرامي المكمل له سيما في أعماله الغنائية سواء كانت للتلفزيون أو المسرح أو الإذاعة إذ شارك في كتابة الأشعار لأكثر من 140 عملًا دراميًا، كما شارك في كتابة السيناريو لبعض هذه الأعمال، فيحكي عن مسلسل «الأيام» أنه قام بحذف 3 حلقات وكتابة أخرى بديلة، كما أنه استبدل عددًا من المشاهد بالأغاني الداخلية التي تعبر عن مواقف تمثيلية وتعبيرية من حياة طه حسين.

يقول حجاب: «رواية الأيام مكتوبة بالصوت الداخلي للشخصية التي تعبر من خلاله عن مشاعرها الداخلية، ومحاولة تجسيد هذه المشاعر في مشاهد مرئية استلزم اللجوء إلى الغناء، ولهذا فإن تجربتي الدرامية مع الموسيقار عمار الشريعي كانت أشبه بالكورس الإغريقي في الدراما الكلاسيكية».

يمكننا أن نتتبع هذا البناء الدرامي في التجربة الشعرية لسيد حجاب سواء من خلال الاعتماد على الأسلوب الحواري كأن يقول [ومنين بيجي الشجن؟ | من اختلاف الزمن (ليالي الحلمية)]، وكذلك في ديوانه «تاتا خطي السبعين» والذي جاء في صورة حوار مطول بين الشاعر وملك الموت، ونراه كذلك في اعتماده المتكرر على تعبير «قالوا» كأن يقول [قالوا زمان دنيا غنية غرورة – قالوا الشيطان قادر وله ألف صورة (المال والبنون)]، أو في قوله [قالوا الحلال بين والحرام هين (شرف فتح الباب)]، ونلاحظ هنا أيضًا أن هذا التعبير شديد الصلة بالمأثورات والأمثال الشعبية والتي كما أسلفنا كانت من أهم منابع القاموس الشعري لسيد حجاب.

إيه معنى دنيتنا

نشأ سيد حجاب في بيت مثقف، وارتبط منذ طفولته بالعمل النضالي ضد الاحتلال الإنجليزي في مدن القناة التي عاش على مقربة منها، إذ كانت مدينته هي أحد منافذ الفدائيين للدخول والخروج من مدينة بورسعيد، وانخرط في العمل السياسي منذ المراهقة، وتنقل بين التنظيمات اليمينية واليسارية دون أن يتخلى عن تدينه كما يقول في أحد حواراته عن انضمامه إلى أحد التنظيمات اليسارية السرية: «كان شرطي الوحيد ألا يناقشوني في الدين، وقلت لهم أنا مؤمن ومتدين» وذاق تجربة الاعتقال في الحقبة الناصرية، شأنه في ذلك شأن كل المثقفين من جيله. شكلت كل هذه التجارب متنوعة المشارب وجدان الشاعر والمثقف، وكانت مفتاحًا لتجربته الشعرية الفريدة التي ضمنها همومه الشخصية والتي كان في القلب منها سؤال الإنسان.

يقول حجاب [الحقيقة نار تعيش تحت الرماد | في ضياها بهتدي لحلمي وخيالي | والمحبة تفجر الروح في الجماد | وبمحبة قلبي هقدر ع الليالي (الشهد والدموع)] هذه الكلمات يمكنها أن تلخص رؤية سيد حجاب وفلسفته الخاصة في الحياة. البحث عن الحقيقة المستترة تحت الرماد هي الشاغل الأساسي للشاعر في كل قصائده الغنائية والشعرية. الحقيقة هنا هي حقيقة الوجود، وجود الإنسان على الأرض بشكل عام، ووجود سيد حجاب نفسه التي يعتبرها قرينة بموهبته الشعرية وهي الحقيقة التي تمده بالطاقة التي يهتدي عبرها إلى حلمه الشخصي كإنسان وإلى خياله الذي يمثل مصدرا لإلهامه كشاعر. ثم ينتقل إلى جوهر هذه الحقيقة والمتمثل في الحب السبيل الوحيد لمجابهة الدنيا (الليالي). ولا عجب أن تأتي هذه الشطرات بصيغة المتكلم المفرد في استثناء وحيد في القصيدة ككل التي تستمر في أغنيتي المقدمة والخاتمة بصيغة الجمع [تحت نفس الشمس وفوق نفس التراب | كلنا بنجري ورا نفس السراب].

ينطلق سيد حجاب من حقيقة الدنيا الموحشة التي يعيش فيها الإنسان مغتربًا فتارة يصفها بالغربة [يا زمان الغربة مهما ح تكاسرنا – يا زمان الغربة ليلك بيحاصرنا – ليه بنتغرب في دنيتنا الغريبة (الشهد والدموع)]، [بين غربتك في ديار أهلك وغربتك في بلاد الله (مين اللي ميحبش فاطمة)]، أو يصفها بالتوهة والدوامة [بحر الحياة متاهات (المصراوية]، [الموجة دامية ورامية الخلق في التوهة (وقال البحر)]، [يادي المتاهة اللي بلا نهاية (الأيام)]، [يا عم آدم عيالك متبعترين في المتاهة (أولاد آدم)]، [الدنيا دوامة | ماتدومش لكن دايرة دوامة (قصيدة صياد وجنية)].

يقابل هذه الحقيقة القاتمة عند سيد حجاب، قناعة خالصة بأن الملجأ الوحيد للإنسان هو الحب. الحب بمعناه الأشمل، حب الإنسان لأخيه الإنسان، حبه للخير، وللوطن والأهل. يقول حجاب [والحب في الدنيا دي طوق النجاة (حبيبتي من ضفايرها)]، [الحب مش سهم طايش | الحب زاد اللي عايش (غوايش)]، [يا زمان الغربة يا ملفلف خصورنا | ياللي بزوم فوق عششنا وفوق قصورنا | طول ما بنحب الحياة ونحب ناسها | لا الجدور هتبور ولا تنهار جسورنا (الشهد والدموع)].

يحتل المكون الديني موقعًا مركزيًا من فلسفة حجاب وتجربته الشعرية. يظهر ذلك في تأثره الواضح بالنص القرآني واستخدامه المفردات القرآنية [عملي في حياتي رفيقي | في وقفتي الآخرانية (المال والبنون)]، [مدينا في الكون خطانا | زدنا في غلطنا وخطانا | وأما زمنا عطانا | صرنا لإبليس بطانة (أولاد آدم)]، [اعمل ثواب تاخد نصيبك ثواب | وحسابنا عند الله في يوم الحساب (المصراوية)]، [والأرض يورثها مين؟ إلا عباد صالحين (ديوان تاتا خطي السبعين)]. كما يظهر أيضًا في انشغاله الدائم بثنائية البراءة والخطيئة، فكما يرى الدنيا «عتمة» و«دنيّة» والزمن «ضنين» و«مطفي مقفول العين» (قصيدة «زمن الزنازين»)، يرى الإنسان متأرجحًا بين الخطيئة والبراءة، بين الخير والشر، بين الحلال والحرام، ويعبر عن حنينه الدائم لحالة الفطرة والبراءة فيقول [ليه يا زمان ما سبتناش أبريا؟ (ليالي الحلمية)]، أو يقول [إيه معنى دنيتنا وغاية حياتنا | إذا بعنا فطرتنا البرئية الرقيقة (المال والبنون)]، أو يقول [مين يشتري حكمة حياتي الميتة ويردني رضيع؟ (ديوان في العتمة)].

سيد حجاب يؤمن بالإنسانية ويتخذ من الفطرة البريئة مرجعية وملاذًا في الحياة حتى لتكاد تكون تجربته الشعرية كلها تبشيرًا بالإنسانية. ولم تكن القيم والأخلاق والفضائل كما تظهر في ثنائياته، إلا انعكاسًا للتناقضات الكامنة داخل الإنسان الذي إن فقد إنسانيته يضيع بالمعنى الحرفي والمجازي، ويفقد هويته التي يقوم عليها سؤال الحقيقة، أو كما يقول [ومهما طال عمري يومي جاي وبستناه | وكل صبحية بصحى أبص في مرايتي | وأسرح في سري ورا السر الخفي ومعناه | وألمح سؤال بيخايلني كأنه طيف طايف | إيه نية الإنسانية ونيتي وغايتي؟ (ديوان تاتا خطي السبعين)]. 

الإنسانية هي إجابة سيد حجاب لسؤال الحقيقة، الإنسانية هي السر في بقاء الإنسان حتى بعد موته [طول ما خيرنا لغيرنا حتى لو رحلنا | في الحياة ح نمد لينا جذور مسيرنا (الشهد والدموع)]، هي طوق نجاته في بحر الدنيا الهائج [الموجة دامية ورامية الخلق في التوهة | لو سابوا إيد بعض ضاعوا في سكة معتوهة (الشهد والدموع)]، وهي سلاحه ضد الشر [قالوا الشيطان قادر وله ألف صورة | قلنا ما يقدر ع اللي خيره لغيره (المال والبنون)]، وأخيرًا هي وصفته السحرية للبقاء [وعارف إني ح أعيش طول ما البشر رايدين (تاتا خطي السبعين)].

سيد حجاب لم يكن مجرد شاعر موهوب أو زجال يحترف التلاعب بالألفاظ، وإنما كان فنانًا متكاملًا ذا هموم شخصية وإنسانية ضمنها أشعاره وعبر عنها بصدق وحرية، وكان مصريًا أصيلًا يجيد لغة البسطاء ويتحدث بلسانهم ويعبر عن همومهم وأحلامهم بألفاظهم وصورهم فعاشت كلماته ومدت جذورها في قلوبهم لتمنحه حياة أخرى بعد رحيله. ولا نجد أفضل من كلماته التي نعى بها رفيق رحلته الموسيقار عمار الشريعي، ختامًا لهذا المقال:

[وداع يا أغلى الرفاق مسيرنا نتلاقى | وعزاءنا إن إحنا أرواح حرة خلاقة | وقلنا كلمة محبة بصدق وجراءة | كما نجمة لألاءة وشاورنا ع المشوارر]