الخامس والعشرون من يناير/كانون الثاني، التاريخ الذي يذبح هذا الجيل كل عام، التاريخ الذي يرثي فيه الشباب أنفسهم وهم أحياء، الخامس والعشرون من يناير الذي هو بمثابة عيد قومي للشجن لشباب حلموا بالحرية يوماً على حين غرة، وتجرعوا المرارة تدريجياً حتى باتت حزناً باهتاً على حلم ضاع على مهل.

الخامس والعشرون من يناير/كانون الثاني من كل عام ينصب سرادق كبير ويتلقى شباب هذا البلد العزاء من أنفسهم لبعضهم البعض، مواقع التواصل الاجتماعي تتحول إلى مأتم مظلم، الكثير من الصور والذكريات التي يتبادلها الكثيرون مصحوبة بتعليقات حزينة وابتسامة هادئة يرثون فيها شباباً ذبل وكرامة أهدرت.

يمكنك أن ترى صوراً للشاب الواقف في مواجهة المدرعة وخرطوم الماء البارد ويديه في وسطه فتقول لنفسك «ليه يا زمن مسبتناش أبريا»، البراءة فقط هي ما كان يحمل كل هذا العدد من البشر على الحلم، براءة تجعل القلب يؤمن أنها «بكرة تفرج مهما ضاقت علينا».

هذا العام يأتي التاريخ الملعون بلعنة الدم متبختراً يتباهى بانتصاره على كل الأحلام، ثم يأبى اليوم أن ينتهي إلا بحزن جديد فيرحل «سيد حجاب» الذي آثر أن يكون موته شاعرياً كما كانت كلماته دائماً، يرحل في التاريخ الذي يجلد القلب والعقل بسياط ما كان ممكناً أن يحدث ولم يحدث، يدوي موته حزيناً شجياً ككل الكلمات التي رددناها حتى لو لم تكن كتبت من أجل هذا.

كانت كلمات «سيد حجاب» دائماً في عقول الشباب الذين آمنوا يوماً أن «مصر يا ولاد حلوة الحلوات» فطالبوا بأن تكون حلوة فعلاً، الشباب الذين أيقنوا أن هناك شيئاً ما خطًأ في كل ما يحدث فرددوا «تحت نفس الشمس فوق نفس التراب كلنا بنجري ورا نفس السراب، كلنا من أب واحد أم واحدة بس حاسين باغتراب».

لم يكن «سيد حجاب» حاضراً بقوة في الأحداث بشخصه، وحتى قصائده التي ألفها في السنوات الست الأخيرة لم تنتشر كثيراً ولم يرددها الكثيرون، ربما بعضنا أصلاً لا يعرف قصيدة «المجلس الأعلى» التي كتبها سيد حجاب حباً في المجلس العسكري ومناشداً له أن ينقذنا من الانهيار، لا يتذكر أحد لسيد حجاب تصريحه بأن الرئيس «عبد الفتاح السيسي» هو «فارس أحلام المصريين» متجاهلاً الأصوات الرافضة لسياساته، لا يتذكر أحد هذا، نتذكر فقط أن هناك شخصاً ما جعلنا نردد «بحبك يا بنت الذين..بحبك» للقاهرة الجميلة التي رسمها في مخيلتنا «القاهرة العاطرة الشاعرة النيرة الخيرة الطاهرة».

«سيد حجاب» الذي شكل مخيلة المصريين بكلماته التي كان يكتبها مؤمناً حقاً بالجمال والخير، لم تكن فقط كلمات تلك التي عاش عمره ينزفها على الورق، كانت اعتقاداً حقيقياً بما يقوله، كان مؤمناً أن هذا الوطن يستحق فرصاً أفضل مما عاش يحصل عليها، حتى لو اعتبرنا أن الشاعر الذي تغنى لهذا الوطن قد خذلنا في النهايات فخذلانه هذا لم يتخذ طابعاً عدائياً قط في النهايات، لم يعلو صوته هاجياً الأحلام بل ربما كانت أفكاراً حقيقية أيضاً وإيماناً أن ما يحدث في السنوات الأخيرة ربما يمنحنا فرصة أفضل للخروج من الظلام الذي يبدو أنه مقدر لنا.

شارك «سيد حجاب» في تكوين وعي المصريين الكادحين الذين لا يسمعون الشعر وربما لا يعرفونه، فوصل إليهم عبر تترات المسلسلات التي كانت أفضل لحظة في اليوم، اللحظة التي ينتظرها الجميع للالتفاف حول التليفزيون ومشاهدة بشر آخرين وقصص تحدث على الشاشة، يشاهدون طرفاً منها فتسلل بخفة إلى وعيهم، كانت كلماته مصاحبة دوماً للمسلسلات التي رسخت في ذهن المصريين أكثر من كلماته التي كتبها للأغنيات، فيتذكر المصريون كل شيء عن «أرابيسك» و«بابا عبده» حتى لو لم يعيشوا قصة حب على أنغام «تجيش نعيش»، فالدراما هي الشيء الذي يعشقه المصريون ويعيشونه كل لحظة، فنحن وطن معجون بالدراما، وتاريخنا كله يشهد على ذلك، فحياتنا درامية بامتياز.

عاش «سيد حجاب» في عقول المصريين البسطاء، الذين ربما لم يعرفوا لمن كانت هذه الكلمات المرهفة، ولكنها استقرت في عقولهم ووجدت يوماً ما طريقها للخروج، حتى ملامحه كانت تشبههم جميعاً، لم يحمل الوجه المرهف للشاعر المحلق في فضاءات لا يعرف عنها البسطاء أي شيء، بل كان يشبههم جداً، الفرق الوحيد أنه كان يستطيع أن يعبر عما يفكر فيه الشعراء الحالمون الذين لا يحمل ملامحهم بلغة سهلة، عامية محببة قربته أكثر للبسطاء، وخدمه قدره بأن يدخل بيوتهم جميعاً ليستقر للأبد ويصبح جزءاً من تاريخهم الشخصي.

عاش «سيد حجاب» محباً لمصر، فاستحق ميتة شاعرية جداً ليرحل في اليوم الذي يتجدد فيه الألم وينفتح الجرح الذي لما يأخذ وقته في الاندمال أبداً، وكما عشنا متمسكين بكلماته في الحلم وفي حق هذا الجيل أن يرى الجمال، وكما عشنا نرثي نفس الجيل بكلماته أيضاً بعد أن تحول الحلم لكابوس مرعب يرحل هو، يرحل في يوم الرثاء الشعبي، لنرثيه معنا، نرثيه بكلماته الخاصة ونردد:

وينفلت من بين إيدينا الزمان كإنه سحبة قوس في أوتار كمان وتنفرط الأيام عود كهرمان يتفرفط النور والحنان والأمان وينفلت من بين إيدينا الزمان.