جاء نيتشه بمطرقته الساحقة بعد رحلة طويلة مع الوحدة والمرض والخسارة ليصرخ في العالم الغربي: ما زلتم تعيشون في ظلال الإله، ما زلتم متعلقين بنظام القيم المسيحية وما تحتويه من أخلاق العبيد التي عبدت الطريق لذلك الاختراع السيئ -من وجهة نظره- المسمى الديمقراطية الغربية الحديثة والمساواة وحقوق الإنسان (النسخة المعلمنة من المسيحية بحسبه). إن واجبكم أن تمحو ظلال هذا الإله الذي قتلناه للتو، عليكم استكمال عصر العلمنة بشجاعة.

وعلى الجانب الآخر، كان سيد قطب بعد ذلك بسنوات يخوض رحلة مشابهة على الضفة الأخرى من العالم مع الوحدة انتهت بصرخة لا تقل تأثيرًا في العالم الإسلامي: ما زلتم تعيشون في عصر الجاهلية، لستم مسلمين حقًا كما تدعون، فالأمة الإسلامية الحقة قد انقطعت عن الوجود منذ أجيال طويلة، وأنتم ما زلتم تعيشون في ظلال جاهلية الطغيان بدلًا من العبودية لله القادرة على تحريركم من العبودية للعبيد.

كلا الرجلين خاض تجربة قاسية في الحياة، وكلاهما خرج إلى عالم الفكر من محراب اللغة، والأهم أن كليهما تركا أثرين متشابهين في حضارتيهما، فقد حمّلتهما نخب من أجيال تالية مسؤولية أساسية عن نشر العنف والتطرف بأفكارهم؛ لا عجب فهتلر وموسوليني قد أفصحا عن تأثرهما بفلسفة نيتشه، وما زال نيتشه حتى اليوم هو الفيلسوف الذي تُجمع حركات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية على الحماس لأفكاره وفق تأويلهم لها.

وعلى الجانب الآخر، فمن أيمن الظواهري إلى صالح سرية ومحمد عبد السلام فرج وشكري مصطفى، كان سيد قطب حاضرًا دائمًا في خطاب وأفكار الجماعات السلفية الجهادية الحديثة، حتى إن الظواهري قد كتب أن أفكار سيد كانت المحرك الأول للجهاد في نفوسهم.

تظهر المفارقة الكوميدية على النحو التالي: إننا نعيش الآن بشكل ما في ظلال عالم الحرب بين المتحمسين لسيد (الجماعات الجهادية) والمتحمسين لفريدريك (اليمين الغربي المتطرف)، رغم أن التشابه بين الرجلين أكبر من الاختلاف بكثير.

ما زال أيضًا حتى اليوم ذلك الصراع الفكري الموازي دائرًا حول ما إذا كان الاثنان قد قصدا ما فهمه المتطرفون الذين يرفعون راياتهم أم لا. في حالة نيتشه، دأب قطاع كبير من الباحثين على مدار العقود الماضية على تبرئته من تهمة «فيلسوف الحرب العالمية الثانية» مؤكدين أن أخته قد تلاعبت بنصوصه الأخيرة أثناء عملية تحريرها لتقدمه كأنه نازي ممهد لهتلر، بينما يقف باحثون آخرون متحفظين تجاه تلك التبرئة التامة لنيتشه.

والواقع أن العديد من رموز اليمين المتطرف حتى يومنا هذا يؤكدون أن قراءتهم لنيتشه ومعرفتهم أفكاره حول المساواة والديمقراطية والسلام قد كشفت الغمامة عن أعينهم، ووعتهم بحقيقة العالم، وجعلتهم يسلكون هذا المسلك في الفكر والممارسة، إذ يستخدم رمز اليمين المتطرف الأمريكي الذي يدعي التفوق الجيني للبيض، وهو الأمريكي ريتشارد سبنسر، مجازًا من فيلم «ماتريكس» فيقول إن نيتشه قد أعطاه الحبة الحمراء لرؤية العالم على حقيقته (I was red-pilled by Nietzche)، (من المفارقات أنهم يركزون على كراهية نيتشه لما يسمى القيم التقدمية، لكنهم يتناسون إلى حد ما أن كراهيته لهذه القيم نابع من كونها منطلقة من المسيحية التي تشكل إطار الهوية التي يدعون إليها).

أيضًا في حالة قطب لا يختلف الأمر كثيرًا، فقطاع عريض من الباحثين يحمله مسؤولية نشر «الإرهاب» بأفكاره، بينما فريق آخر يرى أن أفكاره قد أسيء استخدامها وتحويرها من قبل جماعات السلفية الجهادية.

الأهم في الحالتين ليس ما إذا كان الرجلان راضيين عن الشكل الذي ذهبت إليه أفكارهما على صعيد الممارسة أم لا، وإنما السؤال عن ظروف متشابهة أنتجت نصوصًا تشابهت وظيفتها وتأثيرها في عالمين، وظروف أخرى جاءت بعدها مهدت أرضًا خصبة لتأويل تلك النصوص واستخدامها بأعنف طريقة ممكنة. إننا هنا بصدد رحلة مع الرجلين الوحيدين المريضين المتهمين في قبريهما بإشعال «الإرهاب» في العالمين الغربي والإسلامي. 

شعور الوحدة في سجن الحفلة الليبرالية

قطتي نوسة هي الكائن الوحيد الذي أخلص لي تمام الإخلاص.
سيد قطب 
أنا فقط لا أريد أن أموت وحيدًا، لا أريد أن يكتشفوا جثتي بعد موتي بأيام.. لم يوجه لي أحد كلمة (صديقي العزيز) في حياتي.
حين بكى نيتشه

تخيل معي أنك تلقيت دعوة لحفل مليء بالمباهج وممكنات السعادة والسرور، وتخيل معي هذين السيناريوهين: الأول، والدك منعك من الذهاب لهذا الحفل فجلست وحيدًا في منزلك ممنوعًا من مشاركة الفرح ودموعك على وسادتك. الثاني أنك ذهبت إلى الحفلة بالفعل، إذ لم تمنعك أي سلطة على الإطلاق من «الوجود»، لكنك حين ذهبت وجدت الجميع يستمتعون ويتشاركون المباهج وأنت وحدك في الزاوية لا أحد يتحدث إليك أو يمنحك الاعتراف، ولا تملك أي صلاحية وصول لمباهج الحفل المتنوعة.

في السيناريو الأول، على الرغم من قسوته، ما زلت تمتلك الأمل في أن تتخلص من وصاية والدك يومًا وتشارك في الحفلات المقبلة. سيظل ذهنك يدور حول إشكاليات السلطة والحرية. لكن في السيناريو الثاني سيحدق ذهنك في الهاوية، إذ لا تمتلك شماعة تعلق عليها آلامك؛ وحدك في مواجهة قسوة الطبيعة مَنسي. إن هذا السيناريو على ما يبدو أقسى كثيرًا من الأول، فالطبيعة هي التي تنفيك وليس «الشرير في قصتك». يمكن باختصار أن نستخدم هذا المجاز لوصف شطر كبير من رحلة سيد قطب ونيتشة مع «حفلة الحياة».

ما سنُعرّفه هنا بـ«الوحدة الليبرالية» هو نوع من الشعور بالوحدة واللامرئية لا ينتج إلا في سياق من الليبرالية والحرية. في هذا السياق، لا يشعر الإنسان بالوحدة القسرية نتيجة أن نظامًا ما قد وضعه في السجن أو المنفى أو منعه من الوصول، فبالعكس، المناخ مفتوح فلا يمكن اتهام أحد بعينه بالمسئولية عن الشعور بفقدان الاعتراف، ومن ثم في هذا السياق يشعر الإنسان بالغضب تجاه الطبيعة، يشعر بأن قسوة الطبيعة وأحكامها هي ما فرض عليه الشعور باللامرئية. وفي حالتي سيد قطب ونيتشه، نشأ هذا الشعور الأصيل بالوحدة في سياق شبه ليبرالي، فنيتشه عاش معظم حياته في ألمانيا الإمبراطورية التي شكل فيها الليبراليون جزءًا من التحالف البسماركي، وعاش قطب كذلك في سياق الملكية الليبرالية والحريات النسبية آنذاك في مصر، ثم كانت له تجربة قصيرة مع الليبرالية الغربية في الولايات المتحدة الأمريكية.

إذا استخدمنا هنا مجازًا للتوضيح سنقول: يعاني الإنسان (الابن) من قسوة الطبيعة (الأم) وهيراركيتها، ومن ثم لا يكون أمامه سوى خيار انتظار الله (الأب) ليجيره من قسوة الأم. في حالة نيتشه، كانت إجابته واضحة على مسألة انتظار الأب، فالإله بحسبه قد مات، وتطور الفلسفة والعلوم والتنوير الأوروبي هم من قتلوه. ففي ظل متتالية العلمنة في الثقافة الغربية مات هذا الأب بغير رجعة. ومن ثم، فنحن، بحسب نيتشه، في انتظار الضيف الأكثر قبحًا على الإطلاق، «العدمية»، وبلغة أخرى، سنعيش في عصر سيادة الأم القاسية وحدها نحاول أن نستكشفها ونطوعها في حرب ضروس. ليس علينا أن ننتظر الأب الميت. الحل عند نيتشه سيكون قاسيًا إذ سيحتاج إلى «ابن» خارق للعادة يواجه اليتم بشجاعة، ويقول «نعم» في مواجهة الحياة، وأهلًا بتحدياتها.

الحل النيتشوي أن نتحول في وجه الطبيعة إلى رجال خارقين «سوبرمين» نحتفي برغباتنا الحقيقية ونحاول أن نحققها محررين إبداعنا وحيويتنا من استبداد الأخلاق، في تقدير مشرف يليق بهذه الرغبات حتى وإن فشلنا، نحتضن أحزاننا ونمضي في سبيل الرقي في عصر الصراع على المكانة وتحقيق الرغبات الحقيقية (استبدل نيتشه الصراع على البقاء بالصراع على التحقق).

على هذا السوبرمان أن يتحلى بالحسد ويقتل الأخلاق المسيحية بداخله، تلك الأخلاق التي بقت رغم انحسار الدين، تلك الأخلاق التي من وجهة نظره صنعها الضعفاء والفلاحون لكبت مجد الأقوياء، قيم الزهد والتواضع والمسكنة والعفة والانحياز لفاقدي الامتيازات على حساب الأقوياء. فعلى سبيل المثال، من وجهة نظره، فأولئك الذين لا يجدون فرصًا لممارسة الجنس قد كرسوا القيم المسيحية وعلى رأسها عفة الجسد ليكبحوا أصحاب الفرص الجنسية المرتفعة، وتلك الأفكار الكابحة للقوة من وجهة نظره هي التي مهدت للأيديلوجيات السيئة مثل المساواة والديمقراطية الغربية الحديثة، إنها أفكار تقف عقبة في طريق الترقي، وتجعل محدودي القدرات ومتوسطي الهمم يتصدرون المشهد.

إن أكذوبة المُثل ظلّت إلى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع، وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوّهة ومزيفة حتى في غرائزها الأكثر عمقًا، تزييفًا بلغ حد تقديس القيم المعكوسة المناقضة لتلك التي كان بإمكانها أن تضمن النمو والمستقبل.
نيتشه

بإمكاننا أن نفهم هنا بالطبع لماذا يتم اتهام نيتشه بأنه فيلسوف الحرب والرجل الذي وصل بالعلمانية إلى منتهاها بالدعوة للتخلص من أي ظل من ظلال الله على الأرض. فلنا أن نتخيل كيف يمكن أن يستقبل العديد من القراء في العالم نصًا ذكيًا مؤثرًا يجادل من أجل هدم أي قيم تتعلق بالمساواة والانحياز لضعفاء المجتمع.

على الجانب الآخر، وجد سيد قطب نفسه في رحلة مختلفة. فمن سجن الوحدة في العصر الليبرالي، أخذه جمال عبد الناصر ليعذبه في سجن السياسة ويضعه سنوات في وحدة إجبارية. كانت هذه اللحظة المناسبة ليصل قطب إلى نتيجة مختلفة تمامًا عن التي وصل إليها نيتشه، وإن كانت ستُستخدم بشكل غير بعيد عن الشكل الذي استُخدمت به فكرة نيتشه على المدى الطويل.

بدلًا من «السوبرمان» الفرد، سيعلق سيد أمل الإنسانية على «العصبة المؤمنة». فبعكس نيتشة الفرداني، سيرى سيد أن ترياق حياتنا لن يتولد إلا على صعيد اجتماعي عبر تلك العصبة، وهم أيضًا «سوبرمين» سينعزلون عن فساد «المجتمع الجاهلي» (يؤكد نيتشه على الجانب الآخر أهمية الانعزال عن القطيع لنصقل ذواتنا ونحرر إرادتنا)، ليحيوا الإسلام من جديد ويجاهدوا من أجل التحرر من عبودية الطغيان والجاهلية بحسبه. وبينما كانت نوستالجيا نيتشه مستمدة من العصر الإغريقي ما قبل المسيحية، كانت نوستالجيا سيد متمثلة في زمن «الجيل القرآني الفريد» (مجتمع النبوة وجيل الصحابة)، حيث الإنسان والطبيعة والوحي يتناغمون في حالة التوازن المثالية (Equilibrium) التي تحمي البشر من الوقوع في فخ العبودية للطاغوت بحسب رؤيته.

وسنلاحظ هنا أن شبح العبودية هاجس أساسي عند الكاتبين. هناك حاجز يفصل بينهما وبين مجتمعاتهما. بالنسبة لنيتشه، فمن حوله يحتكمون إلى أخلاق العبيد. وبالنسبة لسيد، فمن حوله هم عبيد الطاغوت ينتمون إلى العصر الجاهلي، من ثم كان عليهما أن يمسكا بمطرقة لا شفقة فيها ويضربون بها البناء الاجتماعي الذي يعيشون فيه (social construction). أحدهما سيدعو أمته إلى أن أن تقطع صلتها بآثار الدين وتتخلى عن أخلاق المسيح، والآخر سيدعو أمته إلى أن تصبح مسلمة حقًا وتنقلب على العناصر الدخيلة في ثقافقتها. على جانب آخر، يضيق شكل الدولة القومية الحديثة بأحلام كلا الرجلين، فنيتشة يكن احتقارًا للتعصب القومي الألماني ويدعو إلى إحياء الروح الأوروبية بدلًا من التعصب القطري القومي، فهو أوروبي أكثر من كونه ألمانيًا. وعلى الجانب الآخر، فالعقيدة هي جنسية المؤمن بها عند سيد قطب، ورابط الإسلام هو الذي يربطه بالآخرين وليس الجنس أو الطبقة أو الأرض.

سيد قطب ونيتشه: الإعجاب المشترك بالإسلام

هناك مخدران أساسيان في الحضارة الأوروبية: الكحول والمسيحية.
نيتشه

لنستعيد الآن المجاز الذي بدأنا به عن الابن والأب والأم. كلا الابنين، سيد ونيتشه في مواجهة الأم القاسية. وفي أثناء رحلة البحث عن الأب، قابلا الرسول محمد على قارعة طريقهما. بالنسبة لنيتشه، فقد ظل موقفه من الأديان كلها سلبيًا لكن مع ذلك استرعت انتباهه بعض الملاحظات الثاقبة في الإسلام وعبر عن إعجابه به مقارنة بالمسيحية. رأى نيتشه في الإسلام دينًا مشجعًا على حس المغامرة والنهل من نبع الحياة بشجاعة. لقد وجد فيه شيئًا مختلفًا تمامًا عما اعتبره قيم «العبودية المسيحية». وجد نيتشه في أخلاق الإسلام رجالًا يرفعون رؤوسهم في مواجهة صعاب الحياة، ويقولون للحياة نعم متحلين بقيم ذكورية شجاعة.

رغم أن كتابات نيتشه الضئيلة عن الإسلام تظهر أنه لم يلم بثقافة إسلامية واسعة، لكن معرفته الضئيلة بهذا الدين لم تمنعه من تكوين ملاحظات ذكية عن بنيته. في الواقع، يتفق نيتشه في نقطة شديدة الأهمية أخرى مع رؤية الإسلام للحياة، فنيتشه هو عدو الكحوليات الأشهر في الحضارة الغربية، إذ يرى في الخمر مخدرًا للإنسان يمنعه عن التطلع بشجاعة للحياة فيكتفي بكؤوس تمنحه رضًا وهميًا عن وضعه. باختصار، نستطيع أن نقول إن نيتشه حين قابل الإسلام، وعلى الرغم من أنه في النهاية دين مثل كل دين، وفريدريك معادٍ لكل الأديان، لكنه على ذلك وجد هنا شيئًا مختلفًا عن البقية جذب إعجابه.

أريد أن أعيش بين المسلمين لفترة طويلة جدًا، لا سيما أولئك الأتقياء منهم، وبهذا سأثقل أدواتي في النظر لكل ما هو أوروبي.
نيتشه 1881

في حالة سيد، فبعد أن اقترب أكثر من الإسلام بعد رحلة طويلة، وصل به الإعجاب إلى حد الإيمان التام. فالمتتبع لتاريخ سيد سيكتشف أنه تنقل بين الأفكار كثيرًا لكنه لم يُعط ولاءه ووفاءه الكامل بهذه الدرجة ولهذا المدى إلا للإسلام وتأويله له.

لقد مجد سيد وفريدريك قيم الخشونة ووضع الجسد على المحك، في مقابل قيم السلام والتواضع والمسكنة، فمن «عاش في خطر عند نيتشه نال أسمى ما في الوجود»، وهؤلاء الذين يغامرون هم وحدهم الذين يستحقون الاحترام، وعند سيد، «تظل الكلمات ميتة لا روح فيها حتى ترويها الدماء».

اكتشف نيتشة الجمال في قيم الذكورة حين كان جندي إسعاف في الحرب البروسية الفرنسية، وكان يمشي وحيدًا بلا رفيق ويستمع لصوت الجياد المفعمة بالحيوية. نستطيع أن نتأمل هذا المشهد ونفهم أن الأمر أشبه برجل شديد الفقر مُنح القدرة على أن يصنع فيلمًا سينمائيًا فاختار أن يتناول فيه حياة الأغنياء ويتحدث عن مباهجهم. واقع الأمر أن هذا الفيلم سيكون انعكاسًا شديد الصدق لحرمانه أكثر من كونه أي شيء آخر.

في حالتي سيد وفريديريك، لا يمكن رؤية تمجيدهما لقيم الذكورة بمعزل عن الذكر الذي لم يرتوِ داخلهما، وتعرض للجراح والحرمان والظمأ. إن فلسفتي نيتشة وسيد يمكن تصنيفهما في الأخير على أنهما فلسفتان تفاؤليتان تشجعان على قول نعم في وجه الحياة، إذ يحاول الاثنان محاصرة العدمية التي تلقي بظلال شبحها الذي اقترب مجيئه على الواقع، مع ذلك يمكنك بسهولة أن تشم في أفكارهما التفاؤلية المشجعة على الحياة، رائحة تشاؤم ومأساوية كامنة في كل ركن من أركان كلماتهما.   

أخي إنني ما سئمت الكفاح .. ولا أنا ألقيت عني السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح .. ويرفع راياتها من جديد
من أشعار سيد قطب

اللامنتمي: «أيتها الوحدة يا وطني»

المعرفة تقتل الفعل، فالفعل يتطلب أن نكون تحت غطاء الوهم.
نيتشه

في يوم الاحتفال بعيد الميلاد عام 1954، جلس الفيلسوف البريطاني كولن ويلسون الذي لم يكن قد بلغ بعد الرابعة والعشرين من عمره في منزله وحيدًا شاعرًا أنه لا يوجد شيء يربطه ببقية المجتمع في الخارج، ليكتب رائعته «اللامنتمي»، هذا الكتاب الذي سيترجم إلى جل لغات العالم وسيصير من الأكثر مبيعًا لسنوات طويلة.

جادل هذا الكتاب أننا نعيش في عصر «اللامنتمي»، ذلك الشخص المنعزل في غرفته الوحيد الغريب عن المجتمع الذي يدرك «الأساس الواهي الذي تقوم عليه الإنسانية، وأن الفوضوية أعمق تجذرًا في الطبيعة من ذلك النظام الذي يتبناه قومه». وعادة ما يكون لدى اللامنتمي الفضولي ثقافة واسعة تجعله على معرفة بلحظات مختلفة في التاريخ وتجارب مجتمعات أخرى، يستطيع أن يرى فيها تحقيقًا لما يتطلع إليه، ويقارنها بمجتمعه الذي يرفضه.

وقد تتبع ويلسون هذا الأمر من خلال الأعمال الأدبية وحياة المفكرين والفلاسفة، ولا عجب أنه أفرد لنيتشه تحديدًا وتحليل أعماله صفحات مطولة في كتابه، فنيتشه بحسبه هو ذاك الفيلسوف الذي اعترف بشجاعة أنه لا منتمي. 

سيد قطب ونيتشه هم أبناء هذا العصر الذي كتب عنه ويلسون، هم يمثلون اللامنتمي، أيقونات ومرآة لعصرهم، والحقيقة أن ويلسون لو عاش ليرى عصرنا الذي نعيش فيه لعلم أن عصره لم يكن سوى مجرد إنذار للمستقبل الأكثر قسوة، إذ تتزايد يوميًا أعداد من ينعزلون في غرفهم مع «الفيديو جيمز» يحاصرهم الاكتئاب والشعور بالعزلة وكراهية العالم الخارجي حولهم مرددين العبارة الشهيرة «الحياة ليست عادلة».

يعيش اللامنتمي كل لحظة تحت مطرقة اليأس السرمدية، فهو عادًة أكثر حساسية وذكاًء من عموم البشر المتفائلين، ومن ثم فهو واعٍ تمامًا بأزماته الهيكلية، ويحدق كثيرًا في الأزمة البنيوية للطبيعة الإنسانية وسجن الطبيعة الخارجية. وبتعبير نيتشه، يمكن أن نقول إن اللامنتمي لا يمتلك حجاب الوهم الكافي لشحذ الفعل اليومي والانصياع للبناء الاجتماعي القائم، إنه شخص امتلأ بمعرفة الطبيعة السوداوية للحقيقة كما صورتها له أيامه.

لكن بعكس اللامنتمين هذه الأيام، لم ينزوِ سيد وفريدريك في غرفهم ليلعبا «وورلد أوف وور كرافت» إذ لم تكن التكنولوجيا قد طورت بعد أدواتها لتكبيل الناس في منازلهم حامية العالم من الثورة، ومن ثم صارع الرجلان وعاشا حياة قاسية لكنهما لم يتوقفا يومًا عن أحلامهما التي عارضتها الأيام، ولم يستسلما حتى أنهى الإعدام حياة أحدهما وتكفل الجنون بحياة الآخر.     

حين كتب سيد قطب ونيتشه ما كتباه كانا يعانيان من أوجاع الوحدة غير المحتملة (وهذا لا يعني أن أفكارهما الناتجة عن الوحدة بالضرورة صالحة أو طالحة، فالتفكير عمومًا فعل عنيف ندفع إليه مرغمين بتعبير الفيلسوف الفرنسي دولوز)، ولأنهم دخلا عالم الفكر من باب اللغة (درس نيتشه فقه اللغة الكلاسيكي في بداية حياته وكان شاعرًا ولغويًا، بينما تخرج سيد في كلية دار العلوم، وكان شاعرًا وأديبًا أيضًا) فربما مثلت تلك البوابة لهما فرصة ليعرفا الطبيعة الساحرة للغة التي تشكل الأفكار والسرديات، إذ بإمكان اللغة أن تتلاعب بالأفكار وتعيد تأويل الواقع مرات لا نهائية. يمكننا هنا استعارة مقولة نيتشة نفسه: «لا توجد حقيقة وإنما تأويلات متعددة». لقد خبر الرجلان اللغة ومن ثم خبرا ثغرات البنية المؤسسة للسرديات بعبارة أخرى. 

يجد اليمين البديل في نيتشه مرآة لاستيائهم من العالم. إذا كنت تبحث عن سبب لرفض عالم لا تحبه، يمكنك العثور عليه في أي مكان، وخاصة عند نيتشه.
سين لينج، صحافي ومدرس للفلسفة والعلوم السياسية

ليترابط أي مجتمع ويستقر، يحتاج إلى قصة يرويها عن نفسه ويعيد إنتاجها، أيًا كانت هذه السردية سواء كانت قومية أو دينية أو حقوقية، وكلما شعر عدد أكبر من الناس بأنهم لا مرئيون في ظل هذا البناء، وأنهم لا مكان لهم في القصة التي يرويها المجتمع، يتعرض هذا البناء أكثر وأكثر لخطر الهدم الداخلي، بخاصة إذا تزايدت أعداد اللامنتمين الحاملين لمعول نقد السردية ووصلوا إلى درجة من الشعور باللانتماء تصل إلى حد العنف الجسدي تجاه المجتمع.

من ثم فإن السؤال عما إذا كانت كتابات سيد ونيتشه وغيرهما قد مهدت للإرهاب ضد المجتمعات سؤال مهم، لكن السؤال الذي لا يقل أهمية، هو إلى أي حد وفرت سرديات تلك المجتمعات التي ثاروا عليها فرصة لأكبر عدد من الناس لكي يشعروا بأنهم مرئيون داخلها، إلى أي حد وفرت تلك السرديات فرصة الانتماء لها لتحمي نفسها من السخط والتمرد والاغتراب، وراعت الاحتياجات السيكولوجية للساكنين في جنباتها فشعروا أنهم ممثلون بداخلها وأن صوت احتياجاتهم النفسية مسموع.

المراجع
  1. The alt-right is drunk on bad readings of Nietzsche: The Nazis were too
  2. Nietzsche on Philosophy, Interpretation and Truth
  3. The Outsider
  4. The Birth of Tragedy
  5. Thus Spoke Zarathustra
  6. Nietzsche and Islam
  7. The Anti-Christ
  8. معالم في الطريق
  9. Making Good Europeans: Lessons From Nietzsche on European Unity
  10. سيد قطب والأصولية الإسلامية
  11. في ذكرى وفاة سيد قطب: كيف أثرت كتاباته في تشكيل التيارات الجهادية؟
  12. The Gay Science
  13. Nietzsche, Democracy and Transcendence
  14. Neo-Nazis are claiming Nietzsche as their own, but what does his philosophy really say?
  15. ماركس ضد نيتشه (الطريق إلى ما بعد الحداثة)