تتسع الرقعة الجغرافية التي يخسرها تنظيم الدولة الإسلامية يوما بعد يوم، فقد كانت بداية 2016 البداية الفعلية لخسارة التنظيم غالبية الأرض التي سيطر عليها في العراق، والشام، وليبيا، وخسارته في تونس وعدد من الدول الأخرى، وفي ظل خسارته المدن الرمزية للخلافة مثل «الموصل»، وتواصل الجهود لتحرير «الرقة» السورية، يتبادر إلى الأذهان العديد من الأسئلة حول المناطق والخرائط البديلة التي سيلجأ إليها التنظيم للحفاظ على كيانه، وكذلك سيناريوهات مستقبل التنظيم.


على الهامش: لماذا يستمر الجهاد والتطرف الديني؟

قبل البدء في الحديث عن مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية،قد يتعين علينا قراءة السياقات المتعددة التي لطالما مثلت البيئة الحاضنة والناشئة للتطرف والغلو الديني، فالتطرف – وإن تم ربطه بالسياق الديني – ليس وليد فقط للنص الديني وإن كانت له أهميته، بل أكثر تعقيدا من ذلك حيث يتداخل الاجتماعي والاقتصادي أكثر مع السياق السياسي.

هناك العديد من الحواضن الناشئة للتطرف أهمها ارتفاع معدلات الفقر، وسوء توزيع الموارد والدخول، وارتفاع معدلات البطالة

بالعودة إلى تاريخ منابع الحركة الجهادية، والتي تأسست في منطقة الشرق الأوسط الإسلامية انطلاقا من العقود الثلاثة الأخيرة في القرن المنصرم، نلاحظ أن هناك العديد من الحواضن الناشئة للتطرف الديني وغير الديني على السواء، أهمها ارتفاع معدلات الفقر، وتزايد الفجوة بين الطبقات، وسوء توزيع الموارد والدخول، وارتفاع معدلات البطالة، وكذلك سياسات القمع والتعذيب والاستبداد والطائفية، وغياب الحد الأدني من الحريات العامة ومبادئ الديمقراطية والحوكمة الرشيدة المتعارف عليها.

ربما لا تعد الحركة الجهادية حركة اجتماعية بالشكل الأكاديمي المتعارف عليه تهدف لتعديل أو تغيير مسارات وأوضاع اجتماعية مشوهة في المجتمعات المعاصرة، ولكن تلك السياقات وفرت البيئة الحاضنة لتمويل تلك الجماعات بشريا وماديا وأيديولوجيا حتى من بين أبناء الطبقة المتوسطة المتعلمة والتي هدفت إلى إيجاد بديل سياسي ، ولأن الحركة الجهادية لا تنطلق من الأساس الاجتماعي وانغلاقها على النص الديني والأيديولوجية الدينية يكن سقوطها سريعا ومدويا، كما كان ظهورها منظما وعفويا .

استمرارية الجهاد والتطرف الديني إنما يرتبط باستمرارية الحواضن المنشئة له وتفاقمها، مع محاولات إيجاد تفسيرات متطرفة للنص الديني لتبرير العنف والغلو.


فانية وتتبدد: كيف تهاوت خطوط الخلافة ؟

بدا تنظيم الدولة في المراحل الأولى لتأسيس خلافته كالجماعة التي لا تقهر ولا يمكن لأحد أن يستوقف تمددها، فيما بدت الدول والتحالفات الدولية أكثر ضعفا وهشاشة وتخبطا في مواجهة الأخطبوط المتنامي فكريا وماديا ومعنويا.

ففي فترة زمنية قصيرا لا تتعدى بضعة شهور كان التنظيم قد بسط نفوذه على معظم الأراضي الغنية بالثروات البترولية في العراق وسوريا وليبيا، وبايعته حركات وجماعات أصولية تقليدية وانضم إلى صفوفه شباب من أرض البنغال إلى غرب افريقية مما عمل على توسيع قواعده البشرية.

و بالرغم من القوة المتنامية للتنظيم إلا أنه سرعان ما كان سقوطه وتراجعه مدويا، فقد أدت سيطرته على المناطق الغنية بالثروات الطبيعية إلى تكثيف الجهود الدولية والتحالفات العسكرية لمواجهته عسكريا وأمنيا وحصاره ماديا مهما كلف الأمر.

كما أن اتساع الرقعة المسيطر عليها وابتعادها عن مركزية الخلافة المزعومة في الشام، أدى إلى صعوبة الاستمرارية في احكام السيطرة على تلك المناطق وإمدادها بالعون اللازم في ظل تراجع موارده المالية، ومن ثم نجحت الدول في عزل إمارات الخلافة وإعادة استعادتها واحدة تلو الأخرى.

وفي ظل سياساته الترويجية التي اعتمد عليها في البداية لدعشنة وتجنيد الشباب من مختلف الأقطار، أصيب التنظيم بحالة من التراجع في قدراته البشرية نتيجة النقص الحاد في أعدادهم نتيجة المعارك الدائرة وخاصة في صفوف القيادات الرمزية للتنظيم، وكذلك سياسات الدول التي عملت على الحد من هجرة الأجانب إلى سوريا والعراق، وهو ما دفع التنظيم إلى الاعتماد على تجنيد النساء والأطفال، وتزامن مع ذلك حالة من الانشقاقات والصراعات بين صفوفه من الأجانب والعرب.

اقرأ أيضا :-هل ما زالت دولة البغدادي «باقية وتتمدد»؟


سيناريوهات البقاء: قد يمكن للتنظيم إعادة تشكيل ذاته

أشرنا إلى أن استمرارية التطرف الديني إنما مرهون بالقدرة على مواجهة منابعه وحواضنه، فتجربة تنظيم القاعدة بالرغم من الضغوط العسكرية والمادية عليه تشير إلى قدرة التنظيمات الجهادية على الاستمرارية و إعادة التشكل وتجديد النشاطية الجهادية ارتباطا بأهدافه التي تأسس من أجلها.

وعليه فإن الحديث عن هزيمة نهائية أو قضاء تام على تنظيم الدولة قد يخلو من بعض الموضوعية، ولكن يمكن القول بأن التنظيم يواجه عددا من السيناريوهات هي كالتالي:

  • أولا : استمرار التنظيم في منهجه ورؤيته ومحاولته معالجة القصور التنظيمي داخل صفوفه خاصة في ظل الأنباء المترددة عن احتمالية وفاة أبو بكر البغدادي قائد التنظيم في العراق، ويشير مؤيدوا هذا السيناريو من مركز راند إلى استمرارية العمليات التي يقوم بها التنظيم في مواجهة المجتمع الدولي، اعتمادا على مصادر التمويل المتبقية لديه في المناطق التي مازال يسيطر عليها في سوريا والعراق.
  • ثانيا: التحالف مع تنظيمات جهادية أخرى سواء بشكل هجرة فردية أو قرار جماعي مثل تنظيم القاعدة بالرغم من الاختلافات الأيديولوجية بينهما.
  • ثالثا: إعادة التشكل في جماعات عنقودية قطرية تحت مسميات مختلقة و خاصة تلك التي بايعت التنظيم في المناطق المختلفة، وهو ما أشارت إليه مصادر عراقية إلا أن هناك محاولات لعقد تحالفات مع جماعات جهادية تحت تنظيم جديد.

اقرأ أيضا :-قصة الموصل الحدباء والتنظيم الغابر


الخرائط المحتملة لداعش ما بعد الموصل

تتعدد المناطق البديلة المحتملة التي يمكن أن يلجأ إليها التنظيم لتعويض خسائره في الشرق الأوسط، والحفاظ على بقائه وهو ما سيتوقف على قدرة التنظيم على الصمود في وجه هجمات التحالفات الدولية وصعود تنظيم القاعدة خاصة في بلاد المغرب، ومن بين تلك المناطق البديلة الآتي:

– الخريطة الأولى: وهو استمرار التنظيم ببلاد الشام في ظل صعوبة تحرير كافة الأراضي السورية بشكل كامل من قبضة التنظيم لتعقد الأوضاع الإقليمية والمحلية بالمنطقة، وكذلك لما تمثله منطقة الشام من محورية رمزية للتنظيم كمركز لإنطلاق تأسيس خلافته.

يرى كولن كلارك أن أكثر الطرق فعالية ﻻ يمكن تحقيقها إﻻ من خلال إقامة حكم شرعي في المناطق التي تشعر فيها الجماعات السنية بالتهميش

و في هذا الشأن يقدم الباحث في مؤسسة راند COLIN P. Clarke أطروحة مفادها أن أكثر الطرق فعالية في مواجهة الإرهاب هي معالجة الأسباب الجذرية، التي لا يمكن تحقيقها على الأرجح إلا من خلال إقامة حكم شرعي في المناطق التي تشعر فيها الجماعات السنية بالتهميش. خاصة في «المناطق الأمنة» في العراق مثل صلاح الدين، ونينوى، والأنبار وتحظى باستقلالية سياسية أو تحقيق نظام سياسي لا مركزي في سوريا، كما أنه يرى أن التنظيم سيظل يسيطر على بعض المناطق السورية.

– الخريطة الثانية للتنظيم والتي كان التنظيم يضعها ضمن مخططات توسعاته هي مناطق «لخلافة البعيدة» وهي تضم أندونيسيا والفلبين وعدد من الدول المجاورة لها، وبالرغم من أن التنظيم نجح في الحصول على عدد من المبايعات للجماعات الجهادية هناك وانتزاع ولائها من القاعدة.

إلا أن فكرة الخلافة البعيدة لن تكون طوق النجاة بالنسبة للتنظيم وستعتمد فروع التنظيم على القطرية، في حين يصعب إدارة حركة جهادية بحجم داعش في تلك المناطق بفعل أن الحواضن الاجتماعية هناك تختلف عن تلك في الشام ومصر واليمن وشمال أفريقيا.

– الخريطة الثالثة وهي شمال افريقيا وتشير السنوات الماضية إلى أن هناك صعوبة لنقل الخلافة من الشام إلى شمال افريقيا، خاصة بعد أن خسر التنظيم في 2016 الموقع الأهم والأبرز له في المنطقة وهي مدينة سرت الليبية، وكذلك خسارته في تونس وفي جبل الشعانبي، ناهيك عن عودة صعود دور تنظيم القاعدة في بلاد المغرب مرة أخرى.

يبقى في نهاية المطاف تحرير الموصل من أهم المعارك التي حققتها القوات العراقية بتحقيق نصر على التنظيم، كذلك فإن التنظيم لا يمكنه السيطرة على أراضي جديدة يبسط عليها نفوذه بالحجم الذي كان قائما في السنوات الماضية، مع استمرار العمليات في العديد من المناطق خاصة أوروبا.