شهدت الساحة السياسية الماليزية حراكًا محمومًا تمخض عن عودة حزب «أمنو» إلى سدة الحكم بعد غياب دام لثلاث سنوات، وهو الحزب الذي ظل يحكم البلاد منذ استقلالها عام 1957 بقبضة متماسكة على اعتبار أنه يمثل الأغلبية الملاوية المسلمة المتحالفة مع أقليات ترتضي بتمثيل سياسي محدود، وهو الوضع الذي استمر لعقود طويلة دون تبديل.

لكن بعد استقالة رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد عام 2003، افتقد الحزب الزعامة الكاريزمية القادرة على الاحتفاظ بمقاليد السلطة ولجم المعارضة. فلم يكمل خليفته عبد الله بدوي مدته بسبب تراجع دعمه داخل «أمنو»، وتمت الإطاحة برئيس الوزراء التالي نجيب عبد الرزاق عام 2018 على خلفية فضيحة فساد أدت لخسارة الحزب السلطة لأول مرة في تاريخ البلاد، ليعود مهاتير إلى الحكم على رأس حزب جديد اسمه «أبناء الأرض الموحد» انضم له المنشقون من حزب «أمنو» بزعامة محيي الدين ياسين، النائب السابق لرئيس الوزراء، ضمن «تحالف الأمل» الذي تشكل من خليط متنافر من الأحزاب لا يجمعهم سوى معارضة الحكومة.

وفي 2020، استقال مهاتير من أجل تشكيل حكومة جديدة، لكن ما لبث زعيم حزب «أبناء الأرض» الجديد محيي الدين ياسين أن قلب الطاولة عليه، وحاز السلطة لنفسه عبر حيلة دستورية بمساعدة الملك. ومنذ ذلك الوقت، لم تشهد الساحة السياسية الماليزية استقرارًا بسبب التنازع على ولاء الكتل النيابية في ظل غياب خيار اللجوء لانتخابات مبكرة بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد-19»، بينما أسس مهاتير حزبًا جديدًا.

أجَّل محيي الدين ياسين عقد البرلمان بعد فقدانه دعم الأغلبية النيابية إلى أن رضخ للأمر الواقع في النهاية وقدم استقالته في 16 أغسطس/آب، وتولى إسماعيل صبري يعقوب، نائب رئيس حزب «أمنو»، المنصب بدلًا منه بعد نجاحه في تكوين ائتلاف يضم حزب «أبناء الأرض» (الذي يترأسه ياسين نفسه) بالاشتراك مع «الحزب الإسلامي»، ليحوز على تأييد 114 نائبًا من أصل 220.

حكومة الفرصة الثانية

أدى يعقوب اليمين رئيسًا لوزراء ماليزيا في 21 أغسطس/آب بعد اعتماد الملك لحكومته، واحتفظ بكثير ممن عيَّنهم سلفه، مما جعل وزارته تُلقب بـ «حكومة الفرصة الثانية»، لأنه أعطى فرصة أخرى لوزراء حكومة محيي الدين ياسين الذي أخذ أيضًا فرصة ثانية للعودة إلى السلطة إذا أثبت وزراؤه كفاءتهم ولو تحت قيادة أخرى، إلى أن يحين موعد الانتخابات العامة الخامسة عشرة المقرر لها عام 2023.

بينما انتقد نواب المعارضة حكومة الفرصة الثانية واصفين إياها بإعادة تدوير لإدارة غير كفؤة فشلت في كبح جائحة كورونا رغم فرضها حالة الطوارئ والإغلاق التام الذي أضر بالاقتصاد، ومع ذلك لا يزال معدل الإصابة في ماليزيا هو الأعلى في المنطقة.

ومع تصريح رئيس الوزراء الجديد بأن كل وزارة ستثبت أداءها خلال المائة اليوم الأولى، اعتبر زعيم المعارضة، أنور إبراهيم، أن الحكومة ليس لديها ما تثبته بالنظر إلى إخفاقاتها على مدى 17 شهرًا، واعتبر آخرون أن موضوع «المائة اليوم الأولى» يجب أن ينطبق فقط على الحكومات المنتخبة حديثًا على عكس حكومة يعقوب الذي عينه الملك.

انتصار الملايو

احتفى كثيرون من أبناء أغلبية الملايو بحكومة إسماعيل صبري؛ لأنهم رأوا فيها عودة للوضع السابق الذي كان ضمانة للاستقرار السياسي ومانعًا من تصاعد نفوذ الأقلية الصينية التي تمثل خمس السكان تقريبًا، لكنها تسيطر على الاقتصاد.

ومَثَّل انتخاب هذه الحكومة خسارة كبيرة لـ «جبهة الأمل» التي يتزعمها أنور إبراهيم، إذ كان على وشك الفوز برئاسة الوزراء، إلا أن المعسكر الآخر استطاع لملمة صفوفه وتجاوز الضغائن والخلافات بين عناصره.

وقد عُرف عن إسماعيل صبري بغضه لتحكم الصينيين في اقتصاد بلاده وبغضهم له. ففي عام 2015، أطلق دعوة لمقاطعة شركات الأقلية الصينية، وطالب باستحداث مركز تجاري للتجار المسلمين الملايو لدعمهم في مواجهة نظرائهم الصينيين الماليزيين. وفى انتخابات 2018، حذر الناخبين من التصويت لـ «حزب العمل الديمقراطي» الذي يهيمن عليه المكون الصيني، وقد يكون مقدمة لضياع حقوق أبناء الملايو.

ورغم ذلك نجح في 13 سبتمبر/أيلول الجاري في إقناع المعارضة بتوقيع مذكرة تفاهم معه، وصفها أنتوني لوك، سكرتير حزب العمل الديمقراطي، بأنها «حدث تاريخي»  في السياسة الماليزية، لدرجة أنه احتاج أن يوضح أن المذكرة لا تعني انضمام «تحالف الأمل» المُعارض إلى الحكومة.

ويتألف «تحالف الأمل» من حزب «العمل الديمقراطي»، وحزب «العدالة الشعبية» بزعامة أنور إبراهيم، وحزب «أمانة» الذي يمثل المنشقين عن «الحزب الإسلامي»، ومنظمة «كينابالو التقدمية المتحدة»، وهي حزب محلي صغير انضم للتحالف المعارض في أغسطس/آب الماضي.

وقد حرص رئيس الوزراء على إسناد وزارة التنمية الريفية في حكومته لوزير من حزب «أمنو» لأن المعاقل الانتخابية للحزب تتركز في الريف الملايوي، وقد سبق لإسماعيل صبري أن شغل هذا المنصب.

إلا أن ما تراهن عليه الحكومة الحالية بشكل لافت هو تعيين خيري جمال الدين، رئيس شباب حزب «أمنو» سابقًا، وزيرًا للصحة، حيث كان يُنظر إليه كأكثر الوزراء نشاطًا وتألقًا في الحكومة السابقة، حيث قاد برنامج التطعيم في ماليزيا عند توليه وزارة العلوم والتكنولوجيا، وهو أكثر الوزراء الذين لقوا ترحيبًا واحتفاءً بوجودهم في هذه الحكومة، ويعقد عليه الماليزيون الآمال في تحسن الوضع الصحي وإنجاح جهود مكافحة فيروس كورونا.