مرت العلاقات التركية – الأمريكية بمنعطفات عدة خلال السنوات الأخيرة، تارة يتقارب البلدان حتى يبدو حلفهما متينًا لا فكاك منه، وتارة تتباعد سياستاهما حتى يظن البعض أن هذا هو الشقاق الذي لا وصال بعده، وقد كانت الأسابيع الأخيرة على موعد مع تقارب آخر بين أنقرة وواشنطن، نستعرض بعض أسبابه ومظاهره في السطور التالية.


واشنطن «تصم آذانها» عن نداءات الأتراك

هل يمكن للولايات المتحدة أن تجازف بفقدان حليف استراتيجي، وعضو بارز في الناتو كتركيا، مخاطِرةً بتوجه هذا العالم صوب أحد العدوين اللدودين: روسيا أو الصين؟لوهلة بدا أن ذلك هو المسار الذي تسير فيه العلاقات الأمريكية – التركية، التي شهدت العديد من محطات الشد والجذب خلال الشهور الماضية.كانت الأمور بين البلدين تزداد سوءًا منذ ليلة الانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو (تموز) 2016، نظرت السلطات التركية بعين الريبة إلى موقف الولايات المتحدة «غير الحاسم» من محاولة الانقلاب على الحكومة المنتخبة، وهالها تصريحات المسئولين الأمريكيين المنددة بالتعامل التركي «القمعي» مع المتهمين بالتورط في تلك المحاولة، أضف إلى ذلك فقد رفضت واشنطن طلبات أنقرة المتكررة بتسليم رجل الدين التركي فتح الله كولن، والذي تتهمه بالضلوع في تدبير المحاولة الانقلابية، الأمر الذي زاد من توتر العلاقات بين البلدين.ومما زاد الطين بلة، كان تعاطي المؤسسات الأمريكية مع القضايا الإقليمية المختلفة، والتي رأت تركيا أنه لا يأخذ بعين الاعتبار مخاوف أنقرة الاستراتيجية واعتبارات أمنها القومي، وكان في مقدمة تلك القضايا مسألة الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في سوريا، تدريبًا وتسليحًا، فقد صمت واشنطن آذانها أمام النداءات التركية المتكررة برفع الغطاء عن التنظيمات التركية التي تصفها بـ«الإرهابية»، ولم تُظهر تعاطفًا مع نداءات أنقرة أو تهديداتها المتكررة بهذا الخصوص.أضف إلى ذلك الرفض الأمريكي لإتمام صفقة تزويد تركيا بأنظمة دفاع صاروخية من نوع «باتريوت»، الأمر الذي صب المزيد من الزيت فوق النار المشتعلة، خاصة مع تلويح المشرعين الأمريكيين بفرض المزيد من العقوبات على أنقرة، ومنع خطط تزويد الجيش التركي بمقاتلات أمريكية من طراز «إف 35»، وإذا كان صناع القرار في واشنطن يهدفون من وراء تلك الإجراءات إلى الضغط على تركيا لقبول السياسات الأمريكية في المنطقة، فإن الضغوط الأمريكية لم تحقق مبتغاها، بل دفعت تركيا إلى انتهاج مسار معاكس تمامًا.

اقرأ أيضًا: تركيا والولايات المتحدة الأمريكية: أزمة فرعية في مسار متأزم


«أبق أصدقاءك قريبين.. وأبق أعداءك أقرب»

الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» يتوسط الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» (يمين) والرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»

في الوقت الذي لم تقطع فيه السياسة التركية حبال الوصل تمامًا مع واشنطن، واستمرت في ضغوطها الدبلوماسية لتغيير المواقف الأمريكية، عمد الأتراك إلى «الاعتماد على أنفسهم» إن صح القول، وانتهاج خيارات بديلة لا ترتهن لرغبات الولايات المتحدة. توجهت أنقرة صوب الشرق، وعززت من علاقاتها بموسكو، وسيما فيما يتعلق بإيجاد تسوية معقولة للمعضلة السورية. وفي الوقت الذي أغلقت فيه واشنطن الأبواب أمام صفقة «الباتريوت»، وجدت أنقرة في منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة «إس 400» بديلاً فعالاً، سيما أن الصفقة التركية – الروسية بخصوص المنظومة تضمنت نقل تكنولوجيا التصنيع إلى الأتراك.

اقرأ أيضًا: الطريق لم يبدأ بـ S – 400: رحلة تركيا إلى الاستقلال العسكري

مضت أنقرة كذلك بخطوات محمومة لقطع الطريق على مخططات التنظيمات الكردية في سوريا، وتوالت هجماتها العسكرية التي تستهدف من تعتبرهم «إرهابيين» يهددون أمنها، وقد أعلنت تركيا مؤخرًا أنها بصدد الشروع في عملية عسكرية جديدة ضد التنظيمات التركية شرق الفرات، غير مبالية بالموقف الأمريكي، وبالرغم من وجود عشرات القواعد العسكرية الأمريكية في مناطق سيطرة الأكراد، والتي توفر – رمزيًّا على الأقل – غطاء يمنح بعض الحماية للأخيرين.لنضع أنفسنا في موقع صناع القرار الأمريكيين، فهل كان من المعقول – سياسيًّا واستراتيجيًّا – الاستمرار في مسلسل استعداء تركيا، والضغط عليها؟ الإجابة المنطقية هي بالنفي قطعًا، فالضغوطات السابقة لم تؤت أكلها، بل ألقت بالأتراك إلى أحضان الغريم التقليدي لواشنطن (روسيا وزعيمها بوتين المتحمس لنسج علاقة خاصة مع أنقرة تفكك عرى الناتو)، ودقت أجراس الإنذار في العاصمة الأمريكية بأن واشنطن على وشك فقدان السيطرة على حليف تقليدي يصعب الاستغناء عنه في منطقة عامرة بالتوترات التي قد تمس المصالح الأمريكية.انقلبت السياسة الأمريكية تجاه تركيا إذًا بشكل مفاجئ، واستحال العبوس الأمريكي في وجه أنقرة ابتسامًا، فقرر الرئيس الأمريكي فجأة سحب القوات الأمريكية المرابضة بشكل كامل في سوريا، «بعدما أدت مهمتها في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، في خطوة كان الخاسر الأكبر منها هو القوات الكردية التي كانت تتلقى الدعم بشكل كامل من واشنطن، وقد جاءت تلك الخطوة بعد مكالمة هاتفية جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره التركي، وبحسب ما تسرب من تقارير صحفية حول فحوى المكالمة، فقد فاجأ ترامب أردوغان بالقول: «هذه سوريا لك، أنا سأغادر».ولم تكد تمر سوى أيام قليلة، حتى كشف النقاب عن «هدية» أمريكية أخرى لأنقرة، حيث صادقت الخارجية الأمريكية مؤخرًا على بيع أنظمة «باتريوت» للدفاع الصاروخي إلى تركيا، مقابل 3.5 مليار دولار، في تراجع عن الموقف «المتشدد» سابقًَا بهذا الخصوص.وبرغم تأكيد تركيا أن صفقة «الباتريوت» لن تؤثر على مسار «إس 400»، فإن بوادر خلافات على خط موسكو – أنقرة قد ظهرت خلال الساعات الأخيرة، حيث أكدت الخارجية الروسية أن «أراضي شرق سوريا يجب أن تسلم إلى الحكومة السورية – في إشارة إلى نظام الأسد – بعد الانسحاب الأمريكي»، كما عززت موسكو ودمشق من قواتهما بالقرب من منبج، في إشارة إلى معارضة روسية محتملة للعملية التركية الوشيكة في المنطقة، وفي ذلك دليل على أن كل تقارب تركي من الولايات المتحدة يستلزم تباعدًا بالدرجة ذاتها مع موسكو، والعكس صحيح، ولعل هذا كان مبتغى الأمريكيين من إذابة الجليد مؤخرًا مع تركيا.

مقتل خاشقجي يعيد تموضع تركيا في المعادلة الإقليمية

فلاديمير بوتين، رجب طيب أردوغان، دونالد ترامب
فلاديمير بوتين، رجب طيب أردوغان، دونالد ترامب
ظهيرة يوم الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، دلف الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي إلى قنصلية بلاده في إسطنبول التركية، لإجراء معاملات رسمية، قبل أن يختفي كل أثر له. ولم تكد تمر أيام حتى تكشّفت تفاصيل «الجريمة المروعة» التي راح خاشقجي ضحيتها، فقد تبين مقتل خاشقجي فور دخوله القنصلية وتقطيع جثته مع أحاديث حول إذابتها بالحمض، كل ذلك بواسطة فريق اغتيال أُرسل من الرياض خصيصًا لهذا الغرض.وفي الوقت الذي تحدثت فيه الرواية الرسمية السعودية عن «عملية مخابراتية حادت عن أهدافها»، تمت بدون علم القيادة العليا في البلاد، توجهت أصابع الاتهام العالمية نحو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وكان للتسريبات التركية لوسائل الإعلام، الدور الأبرز في تشديد الضغوط السياسية والإعلامية على الأمير الشاب، حتى صدر قرار من مجلس الشيوخ الأمريكي يقضي بتحميله المسئولية عن جريمة القتل، ويطالب بوقف الدعم الأمريكي للسعودية في حرب اليمن.كان لقضية مقتل خاشقجي تأثيرها على خريطة القوى الإقليمية، فقد اهتزت صورة المملكة وولي عهدها بشدة من جراء تلك القضية، وحُشر ابن سلمان في موقع الدفاع بدلًا من موضع الهجوم، وباتت الرياض أقل قدرة على المبادرة السياسية أو اتخاذ قرار بمغامرات إقليمية أخرى، باختصار: لقد شُلّت السياسة السعودية بشكل كبير، وإلى أجل ليس بالقصير.في المقابل خرج الأتراك رابحين من تلك القضية، وقد انعكس ذلك على علاقاتهم الدولية، وبالأخص مع الولايات المتحدة. سمحت تلك القضية للرئيس التركي بـ «تلميع صورته»، وتقديم نفسه باعتباره راعيًا للعدالة وباحثًا عن الحقيقة، وفيما كانت أسهم ابن سلمان تتهاوى في واشنطن، كانت حظوظ الأتراك تعلو شيئًا فشيئًا.ويمكننا أن نسوق دليلًا على ذلك بأن نقطة البداية في الانفراجة الحالية للعلاقات بين واشنطن وأنقرة، تزامنت تمامًا مع استحواذ أزمة خاشقجي على الرأي العام العالمي، ونعني هنا الإفراج عن القس الأمريكي أندرو برانسون الذي كان معتقلًا في السجون التركية لأعوام وشكلت قضيته أحد المصادر الرئيسية للخلاف بين البلدين، وما تلا ذلك من رفع واشنطن عقوبات كانت فرضتها على وزراء أتراك، وهي الحوادث التي شكلت قاطرة دفعت بالعلاقات بين البلدين نحو المزيد من التحسن وحل الخلافات، وقد اعتبر محللون الخطوات التركية بالإفراج عن القس جزءًا من تفاهمات تبرم مع الولايات المتحدة على خلفية أزمة خاشقجي.

اقرأ أيضًا: العجلة تعود للوراء: الانسحاب من سوريا والتفاهم مع أردوغان