حين تحلمون بالليل؛ ألا تكونوا أنتم منْ يخلق الحلم الذي يَراه؟ وحين يتراءى لكُم أثناء النوم أنكم منخرطون في رحلة بحرية صوب أمريكا؛ ألا تكون الأمواج خلقاً خيالياً وليس من صنع شيء آخر سوى أحلامكم وتدركون ذلك فور استيقاظكم؟ إذاً ما الذي يضمَن لكم أنكم لستُم تحلمون الآن؟
من رواية «طائفة الأنانيين».

في يوم 7 أبريل/نيسان 2016، وبداخل متحف التاريخ الطبيعي بنيويورك، اجتمع بعض العلماء والباحثين في ذكرى المُنتدى السنوي التذكاري لـ «إسحاق عظيموف»، وكان النقاش والحوار الذي دار بينهم حينها موضوعه هو سؤال: هل نعيش في محاكاة من صنع الكمبيوتر؟ وذلك في محاولة لمعرفة إذا ما كنا نحن البشَر مُجرد شخصيات في لعبة كمبيوتر منْ صُنع شَخص ما أو من صُنع الكمبيوتر نفسه، كما في حَبكة فيلم «ماتريكس».

وبقدر ما تحمل تلك الفكرة من غرائبية وما ورائية، فإنها من الناحية البحثية تظل افتراضاً علمياً جَائزاً.

أنا حقيقي وأنتم وَهم

كانت فِكرة «ماتريكس» ثورية سينمائياً، لكنها لم تكُن إلا تطويراً حداثياً لمنطِق التشكيك في وجودنا، والذي تناوله العديد من الأدبيات والفلسفات؛ قبل 5 سنوات فقط من إنتاج فِيلم «ماتريكس» صدرت رواية «طائِفة الأنانيين» للكاتب «إيريك إيمانويل شميت» (عام 1994).

تمحورت الرواية حول شخص لا يرى الآخرين سوى وهم اخترعه هو بقدراته العقلية، فهو الوحيد الحقيقي والآخرون ليسوا إلا ألعاباً اختلقها خياله لتسليته، وحين يحاول أحدهم التصدي له بالحجج والبراهين المنطقية، لا يبدي أي استجابة موضوعية لكلام من يحاوره، بل فقط يتعجَّب من قدرة ذاته العظيمة على خلق أشخاص وأفكار ومواقف بإمكانها أن تفاجئه هو نفسه.

علي الرغم من أن عنوان الرواية يتجه لوصف الرجل وطائفته بالأنانية، مما يبدو من الوهلة الأولى أن هذه إشارة إلى تمحوره حول ذاته، فتكون تصرفاته بديهية ومفهومة بالنسبة إلى شخص يمتلك قدراً عالياً من التمحور حول الذات، لكن نهاية هذا العمل الأدبي لها رأي آخر، حيث تترك باب الميتافيزيقا مفتوحاً، لتظل الفِكرة التي رددها الكاتب خلال السطور موجودة وباقية داخل عقل القارئ، وهي:

ماذا لو لم تكن الحياة سوى حلم؟ وماذا لو لم تكن السحب ولا العصافير ولا الأرض ولا البشر الآخرون سوى رؤيا يتصورها ذهننا؟

الإمام الغزالي وديكارت

قد تبدو الفِكرتان السابقتان ساذجتان في نظر البعض وفقاً لقناعاتهم الإيمانية التي ترفُض مثل هذه الهرطقات والشطحات، لكن الحقيقة أن الأمر من الناحية الفلسفية أعمَق وأشد حيرة مما يبدو عليه، وهو ما جعل الإمام الغزالي يقضي عشر سنوات في شبه عزلة عن البشر وإلهاءات الحياة، كان يدرس فيهَا أفكار المتكلمين والباطنيين والفلاسفة والمتصوفين، لعلهُ يجِد فيها ما يساعده في القضاء على الشك في الوجود، والذي عبَّر عنه قائلِاً:

أما تراك تعتقد في النوم أموراً وتتخيل أحوالاً وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ولا تشُك فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل ولا طائل؛ فبما تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنـها حالتهم إذ يزعمون أنـهم يشاهدون في أحوالهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق المعقولات. [1]

بدأ شك الغزالي في المحسوسات، فشك في البصر حيثُ إن أعيننا قد تخدعنا، وأبسط الأشياء توضيحاً هو النظر إلى الظل فستراه ثابتاً وتنظر إلى الكواكب في السماء فتراها صغيرة في حجم العملة، وبهذا لا تكفي المحسوسات للوصول إلى الحقائق، لذا ارتأى أن العقل هو الحاكم، إلا أن اعتقاده هذا لم يصمُد كثيراً، فبدأ في التفكير في ماذا لو أن العقل أيضاً يخدعنا كما في الأحلام، فنظُن أثناء نومنَا أنه واقِع إلا أنه عند الاستيقاظ نكتشف أنها كانت خدعة من ترتيب عقلنا، وهكذا كانت بداية شك الغزالي.

وتتوافق رؤية وشك الإمام الغزالي بشكل شبه كامل مع رؤية وشك الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي وصف حالته وقت الشك قائلاً:

الحواس تخدعنا في بعض الأحيان؛ إني أرى بغاية الجلاء أنه ليس هناك أمارات يقينية نستطيع بها أن نُميز بين حالة اليقظة والنوم تمييزاً دقيقاً، فيساروني الذهول، وإن ذهولي لعظيم حتى إنه يكاد يصِل لإقناعي بأني نائِم.

كانت نتيجة الكثير من الشك والتفكير هي اقتناع الغزالي وديكارت بأن قُدرة الحواس والعقل قاصرة وعاجزة عن الوصول إلى اليقين حول حقيقة الحياة الشعورية، فمن يدري قد تكون الحياة كلها مجرد وهم وخيال!

القضاء على الشك

لما كانت الإجابة على تلك المُعضِلة صعبة في شكلها البدائي من ناحية الأحلام، فإنها اتسعت بعد تطورها الحداثي (المحاكاة)، وربما مع الوقت يتعمق الشك ويزداد؛ لكن كيف ارتأى الغزالي وديكارت الحل حينها لتهدئة شكوك النفس؟

ربما يعلم الجميع جملة ديكارت المشهورة «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، لكن لا يبدو واضِحاً للجميع كيف بناها وكيف برَّر بها حل المُعضِلة؛ قرر ديكارت أنه يجب أولاً إيجاد حقيقة يقينية حتى يستند عليها للوصول إلى الحل، فكانت البداية هي التشكيك فيما يدور في رأسه من أفكار، وما هو مصدرها؟ هل ابتدعها بنفسه؟ أم وضعها الإله داخل رأسه؟ أم هناك شيطان ماكر يحاول تضليله؟

ووصل من هذا إلى أنه في كل تلك الحالات وبغض النظر عن وجود الأنا كجسد أو تسميته كإنسان، إلا أنه لا بد من أنه «شيء ما» لأنه في كل الحالات لديه أفكار، فإذا ابتدعها بنفسه فهو مُنتِج، أي أنه شيء، وإذا كان هناك إله وضعها في رأسه، فهذا يعني أنه شيء يمكن وضع الأفكار داخله، وإذا استغله شيطان ماكر ليضلله، فهذا يعني أنه شيء موجود فعلاً ويحاول الشيطان استغلاله وتضليله.

وهنا ابتعد ديكارت وتجرد من المسميات كالإنسان والجسد … إلخ، ليصِل إلى يقين أولي، وهو أنه في الأساس كيان أو شيء لديه القدرة على حمل الأفكار واستخدامهَا، مما يعني بالضرورة أنه موجود بغض النظر عن كيفية وجوده والمُسمَى لتعريف هذا الوجود.

إنسان أو شيء … واقع أو مجرد وهم وخيال … كل هذا لا يُهِم الآن، كل ما أراده هو إثبات أنه موجود أولاً ليجد الأرضية التي سيقِف عليها لينطلق في التفسير والتحليل، ومنها انطلق ديكارت إلى أن حواسنا وإدراكنا هي هبات أوجدها فينا الصانِع، ثم انطلق إلى فكرة أخرى، وهي أنه داخل رؤوسنا نحمل دائماً فكرة عن وجود إله، وهي فكرة قديمة داخلنا قِدم وجود فكرتنا وتصورنا عن أنفسنا، وقد غرسها الخالِق في عقول البشر لكي تكون بمثابة علامة الصانع مطبوعة على ما صنعه.

مما يعني أننا شيء تم خلقهُ من قبل صانع كامِل، وأقر بأن هذا هو اليقين الثاني الذي يستند عليه بعد اليقين الأول، ليصِل من ذلك أنه طالما أننا موجودون وهناك صانع كامل يُرشِدنا فلا بد أنه لا يُضللنا؛ لذلك كان رأيهُ النهائي في تلك المعضلة هو:

ينبغي أن أستبعد جميع شكوكي كالشك في حال النوم والتمييز بينه وبين اليقظة؛ حيثُ أجد بينهما فرقاً ملحوظاً، فذاكرتنا لا تستطيع أبداً أن تربط أحلامنا ببعضها البعض كما تفعل في يقظتنا؛ وينبغي ألا أشُك مطلقاً في حقيقة تمثلاتي طالما أخضعتها إلى جميع حواسي وذاكرتي وإدراكي لاختبارها، وتبين أنه لم ينقل إلى أحدها ما ينافي ما ينقله إلى سائرها، لأنه يلزم من أن الله ليس بمُضِل وأني لا أكون في ذلك من الضَالين، ولا بُد آخر الأمر من الإقرار بقصور طبيعتها ووهنهَا. [2]

وقد اتفقت آراء ديكارت نسبياً مع ما ارتأه الإمام الغزالي الذي سبقه ودلل على يقينه بوصف حالته من اتباع الشك حتى الوصول إلى اليقين؛ والحقيقة أن تلك الرؤية مع تسلسلها الطويل، والذي جئنا عليه اختصَاراً هنا، هي تحليل سليم فلسفياً وعقلانياً للتفريق بين فِكرة اليقظة والنوم، وأننا لسنا في حلم كائِن مَا، ولسنا انعكاس وهم في خيال أحد أفراد الطائِفة الأنانية، التي عبَّر عنهَا «إريك إيمانويل شميت» في روايته، ولكن رغم ذلك تظل تلك الرؤية غير كافية لدحض فِكرة المُحاكاة الحداثية، والتي تستنِد على أن هناك صانعاً بالفعل لكنه ليس إلهاً، وإنما كائن متفوق تكنولوجياً ولديه القدرة على إقصَائنا أو إعادة برمجة عقولنا لو أننا انحرفنا عن خطته.

من الناحية العلمية، يرى البعض أنه لا يُمكننا أن نحصل أبداً على دليل يثبت أننا لسنا في مُحاكاة؛ لأن أي دليل نصِل إليه قد يكون فقط جُزءاً من المُحاكاة، وهذه الرؤية يدعمها «ديفيد تشالمرز»، الباحث في فلسفة العقل والإدراك.

والواقع أن الأزمة هنا تكمُن في نتائج هذا الشك، والتي ستفتح بدورها أبواب النقاش في أمور مثل الحياة الأبدية والبعث والحسَاب وغيره.

إذاً كيف يمكن للبشرية التعامُل مع هذا الشك وغيره؟

في الحقيقة الشك ليس هو الأزمة، فهو دائماً ما يصل بصاحبه إلى اليقين كحال الغزالي وديكارت؛ لكن الأزمة هي العقول التي تُصَاب بالشك! فإنسان اليوم عقله ينتمي لعصر ما بعد الحداثة، حيثُ مبدأ الشك أصبح هو اليقين الثابت، لذا ربما يكمُن الرد الحقيقي على مثل تلك الأسئلة عند فلاسفة منعزلين لم تضع العولمة بصمتها عليهُم ولم تُشكِّل أفكار ما بعد الحداثة وعيهم؛ ولكن هل في العالم اليوم أمثال هؤلاء؟

ربما … وإن لم يكُن لهم وجود، قد يكون من الواجب على البشرية تنشِئة أمثالهم يوماً ما، لحفظ التوازن في عالم ستزداد فيه الشكوك، إلى حد قد تُصَاب معه البشرية بالجنون.

المراجع
  1. أبو حامد الغزالي، “المنقذ من الضلال”، واشنطن، 2001، صـ 166-167.
  2. “رينيه ديكارت”، “التأملات في الفلسفة الأولى”، ترجمة: عثمان أمين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009، صـ 269.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.