في كتابه «الدين والعلمانية في سياق تاريخي»، يتساءل عزمي بشارة: «هل انحسار مجال المقدس الغيبي لمصلحة توسع المجال الدنيوي هو أساس عملية العلمنة، أم أن إمكانية انتقال تجربة المقدس من ظواهر ماورائية إلى ظواهر دنيوية هو أساس تلك العملية؟». يعيد تساؤل بشارة إلى حد بعيد تشكيل نظرتنا إلى العلمانية وإفرازاتها في المجال السياسي الحديث، ويعيد تقييمنا للعديد من الحركات السياسية والدينية التي ظهرت إبان عملية التحديث.

يدفعنا ذلك التساؤل أيضًا إلى التأمل من جهة أخرى في حقيقة مفادها أن الإنسان في العصر الحديث لم يفقد حاجته للدين، إلا أنه حاول أن يكيف تلك الحاجة في ظل «زمن علماني» تعيشه مجتمعاتنا المعاصرة، إذا اقتبسنا هنا تعبير الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور عن العصر العلماني الذي يعيش فيه العالم الغربي اليوم.

اقرأ أيضًا:تشارلز تايلور: العصر العلماني ووهم موت الإله

وهي حقيقة تدفعنا بدورها لطرح مزيد من الأسئلة التي تبحث عن إجابة عن طبيعة تلك المحاولات التي قام بها الإنسان المعاصر لتلبية ذلك الاحتياج النفسي العميق، وعن أبرز النماذج في هذا الإطار.


الأديان الدنيوية

عند التأمل في الظواهر الاجتماعية الكبرى أو «السرديات الكبرى» بحسب تعبير الفيلسوف والأديب الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، كالوطنية والقومية والعقائد السياسية الحديثة، سنجد أنها تتضمن في العادة عنصرًا انفعاليًا وشعوريًا، يتشابه أحيانا مع الشعور الديني. حيث يؤدي التعامل مع حقائق تلك السرديات غير الدينية في هذا الإطار على أنها حقائق إيمانية، ومع شخوصها بصفتهم شخوصًا مقدسة، إلى تحول تلك النماذج عادة بنهاية المطاف إلى حالة من الدين الدنيوي.[1]

في مثل تلك الحالات تنشأ، بحسب عزمي بشارة، شعائر تؤدي الوظيفة نفسها في إثارة الشعور بالمقدس مثل تحية العلم، والأداء الجماعي للنشيد الوطني، والاستعراضات العسكرية، وهي حالات قد تتطور إلى حالة من حالات الأصولية تشبه الأصوليات الدينية، وربما أكثر تسييسًا منها[2]، كالعلمانية الكمالية في تركيا واللائكية في فرنسا.

تنتج لنا تلك الحالات أيضا ميثولوجيات علمانية وضعية وتاريخانية من نوع جديد، يمكن تصنيفها تحت عنوان «الأديان البديلة» أو «الأديان الدنيوية»، مثل تحويل الكاتدرائيات والكنائس إلى «معابد للعقل» عقب انتصار الثورة الفرنسية، وصولًا إلى التجارب السياسية كالشيوعية والفاشية والنازية، والإلحاد العلمي في الجامعات السوفيتية.[3]

تلعب هذه الأيديولوجيات دورًا تعويضيًا عند افتقاد الجماهير للإيمان بالدين، واهتزاز تأثيره المؤسسي الاجتماعي، وهنا تنتقل مشاعر التقديس الروحية إلى سرديات بديلة أخرى، كالسردية الوطنية أو غيرها، ولذلك نجد على سبيل المثال أن فكرة الموت في سبيل الوطن في القرون الأخيرة صارت هي البديل أحيانًا للموت في سبيل الإله أو العقيدة كما كان سائدًا في الماضي.


اللاهوت العلماني للثورة الفرنسية

في أعقاب الثورة الفرنسية، ارتاب قادة ومشرّعو الجمعية التأسيسية التي تشكلت بعد الثورة من أن يؤدي اختزال شئون الدين في التعبّد الفرديّ والمنزليّ إلى انحلال الرابطة الاجتماعية. وعلى خلفية هذا القلق المتواصل، كان السعي لصياغة دين جديد، يكون في آن واحد قوميًا وإنسانيًا.

في هذا الإطار تم تأسيس عبادات جديدة كبديل عن الكاثوليكية مثل «عبادة الكائن الأسمى» و«عبادة العقل»، حيث تم طرد الكهنة من الكنائس، وحلت جماعات فنية مسرحية وموسيقية محل الكهنة والشمامسة، وكانت إحدى الشعائر التي تُمارس آنذاك هي وضع امرأة جميلة وشابة نصف عارية على كرسي طويل في قلب الكنيسة كممثلة لآلهة المنطق، ليسجد ويتعبد أمامها كل الحضور.[4]

اقرأ أيضًا:العلاقة بين الكنيسة والدولة: إعادة النظر في عبادة الموجود الأسمى

جدير بالذكر أن إحدى المؤثرات التي لعبت دورًا مهمًا في تشكل تلك الديانات، كانت هي فكرة «الدين الطبيعي» التي أخذت مساحة واسعة في فلسفات القرن التاسع عشر، واهتم بها عديد الفلاسفة المؤثرين في الثورة الفرنسية كجان جاك رسو، المعلم الأخلاقي لتلك الثورة، حيث ألهمت كتاباته الزعيم الفرنسي روبسبير لتبنّي فكرة ديانة «عبادة الكائن الأسمى» بطقوسها وتعاليمها.

من خلال تلك التجارب المبكرة، نستطيع أن نلاحظ هنا أن سمة الحداثة السياسية كانت منذ البداية هي توسيع نطاق التسييس، وتسييس كل شيء، بما في ذلك الدين نفسه، ولذلك يمكننا في هذا السياق أن نعيد تعريف بعض العلمانيات كالعلمانية اللائكية بوجه خاص بأنها لم تكن محاولة لفصل الدين عن الدولة، بل كانت بالأحرى محاولة لسيطرة الدولة على فكرة الدين ومفهومه وممارسته.


الكنيسة العلموية «الساينتولوجي»

أُسست في العام 1953 أول كنيسة للساينتولوجي في ولاية نيوجيرسي الأمريكية على يد كاتب الخيال العلمي الأمريكي ل. رون. هابرد الذي ادعى أن رؤية «نزلت» عليه إثر اقترابه من الموت مرة نتيجة خطأ طبي، كانت هي السبب الرئيسي لتأسيسه تلك الديانة. بدأ ل. رون. هابرد مؤسس تلك الديانة حياته ككاتب وشبه طبيب نفسي ومنوّم مغناطيسي. وبالرغم من الكثير من الدعاوى ضده لأنه ليس طبيبًا، وأن أهم أفكاره ليست طبيّة أو علميّة، إلا أنه تمكن من تحقيق الانتشار وتحويل أفكاره إلى دين.

تحتوي تلك الديانة الوضعية على الكثير من الممارسات والطقوس الغريبة، تتضمن أحيانًا استخدام آلات كهربائية،كجهاز إي-ميتر E-meter، الذي ابتكره هابرد، وهو جهاز يشبه في طبيعة عمله جهاز كشف الكذب، يتم من خلاله قياس مشاعر وتفاعلات الشخص في جلسات اعتراف تشبه جلسات الاعتراف المسيحية، يقيَّم بواسطة قراءات الجهاز خلالها مدى تخلص الشخص مما يسمى بـ «الانجرامات» السلبية التي تشوش صفاء روحه.

جراء عديد من الفضائح المتعلقة بتلك الكنيسة من قبيل تهديدها لمنتقديها، وحالات الوفاة غير المبررة لبعض أعضائها، وجراء عديد من القضايا الأخرى المثيرة للجدل المتعلقة بها، تعاني تلك الكنيسة من رفض الاعتراف بها كديانة من قبل بعض الحكومات الغربية، حيث يتم التعامل معها في المقابل كمؤسسة تجارية على مستوى توصيفها القانوني، وهو ما يتسق عمليًا مع واقع عمل تلك الكنيسة، حيث تقدم خدماتها لأعضائها بشكل غير مجاني.

تشير تقديرات إلى أن عدد المنتسبين للكنيسة العلموية يقدر بحوالي 8-12 مليون شخص في العالم، وأن أصولها المالية تبلغ حوالي 500 مليون دولار، تتراوح مصادرها بين التبرعات وبين عوائد الأنشطة التي تقوم بها الكنيسة.

جدير بالذكر أن العديد من المشاهير في الولايات المتحدة قد انضموا إلى تلك الكنيسة، من أبرزهم الممثل توم كروز والممثل جون ترافولتا، وكذلك ليسا ماري بريسلي ابنة مطرب الروك أند رول الشهير ألفيس بريسلي.


الإلحاد الجديد

الملحدون الجدد هو تعبير استخدمه الصحفي الأمريكي جاري وولف في مقالته «كنيسة اللامؤمنين The church of non-believers» في نوفمبر/تشرين الثاني 2006 لوصف خطاب عدد من الكتاب الملحدين البارزين هم: ريتشارد دوكنز، سام هاريس، دانيال دانيت، وهو خطاب رآه وولف لا يقل تعصبًا عن الخطاب المسيحي الكنسي.

من خلال كثير من القرائن نستطيع أن نلاحظ النزعة التبشيرية الواضحة التي يتمتع بها خطاب الإلحاد الجديد، الذي صار يرتكز بحد ذاته على مقولات تقوم على الجزم واليقين، كالوعظ الديني تمامًا، وهو الأمر الذي أدى إلى تحول ظاهرة الإلحاد في السنوات الأخيرة من موقف اعتقادي فردي، إلى ظاهرة من ظواهر الاجتماع الديني المناوئة للدين في حد ذاته.

اقرأ أيضًا:الإلحاد الجديد: كيف واجهه الغرب المسيحي وكيف واجهناه نحن؟

يمكن أن نؤرخ لبدايات تشكل ظاهرة الإلحاد الجديد بالعام 2004 الذي أصدر خلاله سام هاريس كتابه الأول «نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل» عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد تبع كتاب هاريس بعام واحد، صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري بعنوانه الكلاسيكي «مانفستو الإلحاد»، قبل أن يظهر في 2006 الكتاب الأشهر «وهم الإله» لـ ريتشاد دوكنز الذي باع ملايين النسخ.

لا يوجد حتى الآن مؤشرات دقيقة على حجم تأثير حركة الإلحاد الجديد على التركيبة السكانية الدينية حول العالم، ولكن إذا استخدمنا إنجلترا وويلز كمؤشر لبلدان العالم الغربي، فإننا نلاحظ ابتداء من عام 2011 تزايدًا في عدد الملحدين بصورة صار معها الإلحاد التركيبة السكانية الأكثر تزايدًا، يتبعها الإسلام والإنجيلية.

المراجع
  1. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول ، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، الطبعة الأولى، الدوحة، يناير 2013، ص
  2. المصدر السابق ص26
  3. المصدر السابق ص61
  4. وجدا سندسني، الثورة الفرنسية والحملة الفرنسية على مصر وجهة نظر المؤرخ العثمانى أحمد جودت باشا، ترجمة مدحت فهمي،مكتبة مدبولي القاهرة،2006