في أول مشاهد فيلم الكيت كات بعد المقدمة الغنائية «البلبل غنى على ورق الفلة» كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي، يصف الشيخ حسني الضرير للجالسين في «قعدة الكيف» وسط ضباب الدخان الأزرق الكثيف كيف فقد بصره، يحكي عن سن العاشرة وكيف دفعته حرارة جسده العالية فجراً إلى شط النيل، يحكي عن أجمل منظر رآه في حياته، يقول: «شفت إنسية، بنت مش عارف يمكن وليّه، بتقلع هدومها وبتطرطش مياه على روحها، قلبي اتخطف، بحلقت، بحلقت، كانت غلطتي إني بحلقت، قعدت متاخد زي المسحور لغاية ما طلعت، وبس.. بعد أسبوع، عشر أيام، راح النور». 

في المشهد الافتتاحي السابق تسيطر فكرة الغواية في تجليها الأوضح «امرأة عارية تستحم في الهواء الطلق» على بداية الأحداث، كانت «الغواية»، غواية المرأة والاختيار هي حدث البدء لسيرة الشيخ حسني في الكيت كات. كانت الغواية هي البداية. 

الحديث عن سينما داود عبد السيد ممتد ومستمر، باتت كثير من مساحات النقد والتحليل لأعماله معبّدة و مطروقة، غير خفي عن كل محب للسينما تعدد مستويات الفهم والإدراك لأعماله، تعدد زوايا الرؤية ومستويات التلقي، طبقات القصة وأبعادها المتعددة، لا ينكر عبد السيد أياً من ذلك لكن يضع كل ذلك في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد عنصر الإمتاع، فالفن عند داود هدفه الأول هو المتعة. 

في هذا المقال سنحاول قراءة سينما عبد السيد من زاوية الغواية، نتتبع مثلث الغواية بأركانه الثلاث، الاختيار والتجربة، المرأة، والصداقة.   

غواية الاختيار والتجربة 

يقول عبد الفتاح كيليطو في كتابه «بحبر خفي»:

من الصعب تصور نص سردي أو مقطع شعري لا ترد فيه إشارة صريحة أو ضمنية إلى السفر. وحتى إن لم يرد ذكر لرحلة ما، تظل هناك تلك التي يقوم بها القارئ من عالمه المألوف إلى عالم غريب تُشرع أبوابه بتزامن مع فتح الكتاب.

أليس كل فيلم هو «نص سردي» بصورة ما! 

غالباً ما تبدأ أفلام داود عبد السيد بلحظة تهيؤ لرحلة ما، لحظة انتقال،  لحظة ملل من حياة ماضية والشروع في بداية جديدة في حياة شخصياته، يحيى المنقبادي في أرض الخوف يودع حياته الماضية كضابط شرطة شريف يخضع للضوابط والقوانين، يوسف في البحث عن سيد مرزوق يخرج من منزله يوم الجمعة لأول مرة منذ عشرين عاماً قضاها في حياة وظيفية رتيبة، يحيى في رسائل البحر يودع حياته البرجوازية في فيلا عائلته بالقاهرة وينتقل لشقة صغيرة في الإسكندرية. 

تبدأ سيرتنا نحن البشر أيضاً، طبقاً للميثولوجيا المسيحية/الإسلامية من لحظة مماثلة، لحظة تمرد واختيار، لحظة قبول للغواية، لحظة سفر من الجنة إلى الدنيا، كم مضى على آدم في الجنة منذ خلقه الله حتى تمرد وأكل من الشجرة المحرمة؟!

لا تهم المدة التي قضاها آدم في الجنة، لا نتساءل عن حياة يحيى المنقبادي قبل قبوله للمهمة «أرض الخوف» وقضمه من التفاحة الحمراء، أو حياة يوسف قبل أن يخيّره سيد مرزوق بين أي نوع من البشر يريد أن يكون، بين السادة أم الغلابة. كل ما يهمنا هو التساؤل هل نحن حقاً أحرار في اختيار ما نريد؟! 

اختار آدم أن يعصى الله ويقبل بالتجربة، اختار يحيى المنقبادي النزول الى العالم السفلي، اختار يوسف أن يكون من السادة، واختار يحيى أن يبحث عن معنى رسالة البحر له. من هنا يمكن أن ندرك نظرة داود للقدر، نحن مخيرون ولسنا مجبرين،  لا يشكل القدر حياتنا بل اختياراتنا ونتائجها، أما القيود من حولنا، تلك التي تكبلنا، هي قيود خارجة عنّا، السلطة بأشكالها المتعددة. سلطة سيد مرزوق في تلفيق تهمة قتل ليوسف، سلطة تجار المخدرات وشبكاتهم الدولية في إقصاء يحيى أبو دبورة ، سلطة الحاج هاشم ورأس المال في هدم ماضي وذكريات يحيى في شقته بالإسكندرية. رغم تلك القيود السلطوية ورغم الدور الذي تلعبه الصدفة أحياناً في حياتنا فنحن من نقرر في النهاية، نحن من يختار. 

من لحظة الاختيار تلك أو ربما من قبل أن نختار يتجلى المأزق الوجودي، يقول الوجوديون إن أزمة الإنسان تكمن في أسبقية وجوده على ماهيته، بمعنى أننا جئنا إلى هذه الأرض دون غاية أو هدف محدد وأن أزمتنا تكمن في غياب الدور الذي سنلعبه وعلينا خلق هذا الدور لأنفسنا. أما في سينما داود فتتجلى الأزمة الوجودية في صورة أخرى، تتجلى في الاختيار عن جهل، فنحن لم نعش حياة سابقة، لم نتسلح بالمعرفة لنختار، لكن جرفتنا الغواية، فاخترنا وقبلنا. يقول الله في القرآن الكريم: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا».

غواية المرأة 

للمرأة مكانة خاصة في سينما داود، لا تجد أياً من شخصياته النسائية، ذات بعد أحادي أو دور وظيفي بين عناصر العمل السينمائي، لهن دائما حضور خاص كشخصيات مركبة، يقدمهن بتفهم عميق لأبعاد الشخصيات النفسية، لمشاعرهن وطريقة تفكيرهن وأحكامهن الخاصة على الأشياء، تلك الطريقة النسائية في النظر للأمور والتي غالباً لا يفهمها الرجال، يمكن تعلُّم الكثير عن المرأة من سينما عبد السيد.

في الملحمة السومرية «جلجامش»، حين تعب الناس من المخلوق الوحش انكيدو وما يفعله في البراري أرسلوا له امرأة لترويضه، تقول الملحمة: «فعلمت (المرأة) الوحش الغر فن المرأة، فانجذب إليها وتعلّق بها».  كانت المرأة بوابة انكيدو للحضارة والمدنية.

من نظرة واحدة في فيلم البحث عن سيد مرزوق أحب يوسف منى وانجذب لها،  ولرغبته في معرفة أي معلومة عنها قبل طواعية الدخول لعالم سيد مرزوق السحري والمريب، لم يذق يحيى المنقبادي طعم النوم في أرض الخوف إلا بصحبة فريدة في أول لقاء جمع بينهما في مكتبها، منذ اللقاء الأول بين يحيى ونورا في رسائل البحر أسرته وافتتن بها، كانت هي معبر يحيى للعالم، يعذبه ماضيها (وهي المرأة البغي كما في ملحمة جلجامش) وتسحره موسيقاها، مرسي أيضاً في الصعاليك أحب صفية من النظرة الأولى. لا تحتاج غواية المرأة أكثر من نظرة واحدة. 

على مستوى الصراع الداخلي، تعاني الشخصية الرئيسية ( الرجل) باستمرار صراعاً وجودياً، تنشغل بتساؤل الجبر والاختيار، تعاني من تقل السلطة وبطشها، وتحاول دائماً إظهار شيء أو حقيقة ما للآخر، للمجتمع. 

أما الشخصية النسائية في سينما داود فتعيش صراعاً داخلياً تحتل فيه المشاعر بقلقها واضطرابها مساحة أكبر، صراع يدور في مساحة شديدة الضيق وسط قيود وأدوار اجتماعية ودينية فرضت عليها، تتساءل باستمرار عن قيمة تلك القيود وجدواها، صراع نتائجه موجهة للذات فقط غير معنية بإثبات شيء للآخرين.

في الصعاليك عوّضت صفية وطأة اشتياقها لزوجها الغائب بعلاقة حميمة مع صديقه صلاح. لم ير صلاح الأمر إلا من زاوية الخيانة، أما صفية فرأت زوجها في مرآة صديقه، مديحة في مواطن ومخبر وحرامي ترفض ممارسة الجنس مع سليم في شقته لوجود «حياة» فيها، ليس خجلاً بل تحرجاً من التمتع بشيء أمام محروم، كالأكل أمام جائع، نظرة للجنس تتسم بالبساطة والموضوعية، نورا في رسائل البحر تتساءل عن أي العلاقتين أكثر شرعية، دورها كزوجة ثانية وظيفتها المتعة والجنس أم علاقة الحب بينها وبين يحيى؟ 

من أين تكتسب الأمور شرعيتها؟ عند تلك الشخصيات النسائية الشرعية تنبع من الداخل، مما تشعر به المرأة وتصدقه.

غواية الصداقة

في أشعار العرب الأقدمين، حيث القصيدة في جوهرها رحلة سفر كان لا بد من رفيقي سفر ولو متخيلين، دون رفيق تفقد الرحلة نصف معناها، في ملحمة جلجامش الخالدة حين قرر جلجامش أن يقوم برحلته المحفوفة بالمخاطر والأهوال في غابات لبنان صحب معه انكيدو صديقه وحاميه، لو أن غواية المرأة وغواية التجربة عنصرين أصيلين في سينما عبد السيد فغواية الصداقة هي العنصر الجوهري. 

للصداقة في سينما عبد السيد خصوصية، لا مجال لشكل الصداقات التقليدية، لا تجد في حياة شخصياته أصدقاء قدامى، الصداقات تنشأ وتتعمق وتزداد مساحتها داخل العمل الدرامي، كأن الصديق مرآة نكتشف فيها ذواتنا.

في رسائل البحر ينجذب الطبيب الأرستقراطي يحيى إلى قابيل السجين السابق والبودي جارد الحالي، يحيى أبو دبورة الضابط المتخفي التائه في العالم السفلي في مهمته «أرض الخوف» ينجذب إلى المعلم هدهد والذي ساقه قدره ليكون معلماً تقليدياً لتجارة المخدرات، في الصعاليك تجمع الصداقة بين مرسي العملي صاحب التطلعات الطبقية بصلاح العاطفي البسيط الميال للحرية رافض القيود. 

ربما لا تعبر ثيمة الصديقين عند داود إلا عن ذات واحدة منقسمة، كأن الصديق هو الجزء الناقص فينا ، الضد الذي به نكتمل. الضد الذي يجمعنا معه مصير واحد رغم ما يبدو من تعارض ظاهري أحياناً. فيحيى المهدد بفقدان بيت ذكرياته من الحاج هاشم السرطان الرأسمالي الذي دمر معمار الإسكندرية يتشارك نفس المصير مع قابيل المهدد بفقدان ذاكرته من ورم خبيث في المخ، مرسي حين قتل صلاح في الصعاليك قتل آخر أمل في تحرره من قيود استعباده التي كبله فيها الدواخلي داخل شبكة فساد كبرى. 

المتعة هي الهدف

«ليس هناك حقائق، بل فقط تأويلات» كما يقول نيتشه، نتفق أو نختلف حول تأويلاتنا لأعمال داود عبد السيد، أيقصدُ هذا أم ذاك، هل فهمنا حقاً رسالته أم غالينا في تفسيراتنا لرمزياته، يبقى الأمر الأهم أننا نستمتع بأعماله. فهدف الفن الأول هو الإمتاع، والفن في ذاته غاية وغواية.

.alert-box { color:#555; border-radius:10px; font-size: 16px; font-family: gretaregular, Cairo, -apple-system, BlinkMacSystemFont, "segoe ui", Roboto, "helvetica neue", Arial, sans-serif, "apple color emoji", "segoe ui emoji", "segoe ui symbol", "noto color emoji"; padding:10px 10px 10px 36px; margin:10px; text-align: center; } .alert-box span { font-weight:bold; text-transform:uppercase; } .notice { background:#e3f7fc no-repeat 10px 50%; border:1px solid #8ed9f6; }
تم إنتاج هذا المقال ضمن برنامج استخدامات متعددة، الذي تنظمه مساحة 6 باب شرق