يبدو التاريخ مادة خصبة للكثير من الأدباء والروائيين، يعودون إليه، يستلهمون من أحداثه وحكاياته الكثير، ويصوغون منها أعمالهم الأدبية، ويكون على كل روائيٍ منهم أن يمسك بلحظةٍ خاصة، يختارها بعناية شديدة ليعبِّر عنها، ويذكِّر الناس بما دار فيها. وليس أحدٌ أقدر من الروائي المتمكن الذي يصوغ أحداث روايته بطريقة شيقة، ليدفع القراء دفعًا إلى تقليب صفحات التاريخ في تلك الفترات المنسية، واستعادة هذه الأحداث والمواقف التي غالبًا ما تكون مأساوية ودامية، حتى نتمكن من قراءة الواقع الحاضر وما نعيش فيه، أملاً في استشراف المستقبل.

مقبول العلوي أحد هؤلاء الروائيين المهتمين جدًّا بالكشف عن مناطق مجهولة ومنسيَّة في تاريخ موطنه الذي ينتمي إليه ويحبه وهو الجزيرة العربية تحديدًا، فمنذ نحو عشر سنوات لفت الأنظار بروايته الأولى التي وصلت للقائمة الطويلة للبوكر 2011 رواية «فتنة جدة» التي تناولت أحداثًا تاريخية طواها النسيان في منتصف القرن السابع عشر الميلادي على أيدي قوات الاحتلال البريطاني، استطاع أن يزيح الستار عن أحداث وتفاصيل تلك الفتنة الكبرى التي حدثت في جدة في ذلك الوقت، وكيف راح ضحيتها الآلاف من المواطنين الأبرياء والحجاج.

 وها هو يعود إلى أرضه ومدينته مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع الاحتلال العثماني للمدينة المنورة في أوائل القرن العشرين، وكيف كانت أحوال الناس البسطاء هناك في تلك البقعة الهامة للعرب والمسلمين حيث مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكة المكرمة، من خلال حكاية بطل روايته الفتى الخلاسي/الأسود «ذيب» الذي يوقعه حظه العاثر أسيرًا بين يدي قطَّاع طرق ليباع عبدًا لأحد وجهاء المدينة المنورة، ولكن ينقلب الحال بالمدينة وأهلها بعد الثورة العربية التي قام بها «شريف مكة» ضد الوالي العثماني، وما جر ذلك من ويلات على الناس في المدينة.

 تجبُّر الحكام في كل زمان

صاح فخري باشا في وجهه مرة أخرى: «إذا عجزت عن إيجاد حلولٍ لهذا العصيان، فأنا لديَّ الحل. اسمع ما أقوله جيدًا ونفذه بحذافيره فهو فرمان من حاكم المدينة ولا مناص من العمل به، ضع شريطًا أمنيًّا من جهات المدينة الغربية والشرقية والجنوبية، ودع الشمالية مفتوحة ليمر منها القطار، وحتى لا يهرب القادرون من أهلها فينضموا إلى شريف مكة أو أتباعه في قرية بئر درويش والجفر وينبع وما حولها، ثم أقفلوا الحوانيت والدكاكين بل الأسواق بكاملها، فإذا جاء هؤلاء العربان فسيخرجون من المدينة صاغرين. امنعوا البيع والشراء بكل وسيلة، وصادروا ما تجدونه من مواد غذائية حتى التمر. شكِّل فرقة من الجنود لتجميعه من النخل بالقوة الجبرية إذا لزم الأمر. ضعوه في صناديق واحتفظوا به في القلعة أو مستودعات ثكنات الجنود.
سفر برلك – مقبول العلوي

تدور الرواية بين عالمين متوازيين، لا يبدو أحدهما بعيدًا عن الآخر، بين ما يفعله اللصوص وقطَّاع الطرق بالأطفال الذين اختطفوهم من أهلهم وذويهم، وبين ما يفعله حاكم المدينة بالناس من فرض السيطرة بالقوة والجبروت، وينجو بطل الرواية من بين براثن هؤلاء وأولئك بمحض الصدفة، ليبقى راويًا لهذه الحكاية المأساوية المؤلمة التي يبدو أن كل أفرداها قضوا نحبهم دون أن يتركوا أثرًا، وهو ما يكشف عنه الكاتب في الصفحات الأخيرة من الرواية.

كما تبث الرواية من جهة أخرى فكرة الحنين إلى الأم والأرض والوطن، فرغم أن فترة غياب الفتى عن أمه وموطن ولادته في صحراء مكة لم يدم طويلًا إلا أن ما مر به من مواقف وأحداث في سنواتٍ معدودة جعله يفتقد تلك الحياة التي يجد نفسه فيها، والتي عاش حياته كلها سعيًا إلى العودة إليها، كأن في ذلك إشارة إلى الوطن الأم ومدى ارتباط الناس به.

اضطراب السرد بين الراوي والزمن

تبدأ الرواية وتسير على طريقة مذكرات يحكيها بطل الرواية الأساسي «ذيب»، ولكن في بعض الفصول/ المشاهد يبدو الكاتب وقد اضطر لكي يحل الراوي العليم مكان بطل روايته الذي لا يمكن أن يجعله مشاركًا، لا سيما في تلك المشاهد التي تدور في أماكن بعيدة عن تواجد بطل الرواية، ولا يمكن أن يعرف ما يدور فيها إلا بالسماع، فيأتي السرد في تلك الفصول مضطربًا إلى حدٍّ ما، ولكن ذلك لم يتكرر في الرواية إلا مرتين. وفي نهاية الرواية يفاجئ القارئ بحضور الكاتب لإكمال ما نقص من حكايته، رغم أن ذلك كان من الممكن أن يحل أيضًا في وجود راوٍ عليم يبدأ الحكاية وينهيها بنفسه.

من جهة أخرى اعتمد الكاتب على تقنية الفصول المتصلة والمذكرات المكتوبة على هيئة مقاطع قصيرة موجزة، وأحداث متلاحقة، وتكثيف المشاهد والاعتماد على سرد تفاصيل تاريخية حقيقية بشكل موجز، دون حشوٍ أو إملال. فالرواية التي لم تزد عن 150 صفحة تم تقسيم مقاطعها إلى 38 مقطعًا متصلًا بشكلٍ جيد، ينتهي منها القارئ ليبدأ أسئلته الخاصة حول تلك الفترة المسكوت عنها وما دار فيها من مآسٍ ومشكلات.

كما يجد القارئ ثمة مشكلة في وعي البطل «ذيب » وعلاقته بالزمن، ففي الفترة التي يعمل فيها في مكة يأتي الحديث عن تحول كبير في حياته ووعيه وكأنه ينتقل من المراهقة إلى الشباب، ثم تجبره الظروف والأحداث على السفر للشام بعد ذلك، ويبدأ في محاولات عديدة للعيش والتغلب على صعاب الحياة حتى يتمكن هو وعدد من الرفاق أن يجدوا طريقة للعودة إلى بلادهم، كل تلك المواقف والأحداث توحي بالمسافة الزمنية الكبيرة التي قد تتجاوز العشر السنوات، ولكن الفترة الزمنية التي يرصدها الكاتب في تلك المذكرات لا تتجاوز الثلاث السنوات!

مدرس التربية الفنية في سباق البوكر

مقبول العلوي روائي سعودي، ولد عام 1968 في القنفذة تخرج من جامعة أم القرى عام 1992 ويعمل مدرسًا للتربية الفنية، وصلت روايته الأولى «فتنة جدة» للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2011، ولاقت استحسانًا نقديًّا كبيرًا، كما فازت روايته «زرياب» بجائزة معرض الرياض للكتاب عام 2015، كما حصل على جائزة الطيب صالح في القصة القصيرة عن مجموعته «القبطي» عام 2016.

روايته «سفر برلك» في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام، وهي القائمة المكونة من 16 رواية عربية من بين 128 رواية مرشحة من قبل دور النشر العربية خلال الفترة بين يوليو 2018 ويونيو 2019.