لطالما تم اعتبار الرواية «ديوان»حياتنا المعاصرة، ومرآة المجتمع التي تعكس طموحاته وآماله، وتحكي مآسيه وآلامه، بل وربما تخطت ذلك الواقع المرير بقراءتها للمستقبل واستشرافه أو محاولة الدخول إلى ذلك العالم المجهول.

شهدت الأعوام الثلاثة الماضية ثلاث روايات مكتوبة بأقلام «نسائية»؛هي «ترانس كندا»لـ«سماح صادق»، و«نابروجادا»لـ«سلمى أنور»، و«الجدار» لـ«نورا ناجي». ربما لا يبدو للقارئ لأول وهلة أن ثمّة تشابه بين الروايات الثلاثة، إلا أن نظرة متعمقة لا شك ستكتشف أن الروايات الثلاث تعتمد على تيمة «السفر»و«الهروب»من إحباطات الواقع كطريقة ناجحة للتعرف على النفس والوصول في النهاية إلى الذات، ولا شك أن الأمر لا يكون ببساطة أو بسطحية، ولكن بطريقة مختلفة في كل روايةـ؛ مما يحتم علينا أن نتوقف أمام كل واحدة منهم بشكلٍ أكثر تفصيلاً.


ترانس كندا:دعوة للانطلاق والتحرر

في رواية «سماح صادق» الصادرة عن دار «المصري» في 2014 نجد أنفسنا إزاء 4 قصص/حكايات/ تجارب لمهاجرين إلى «كندا»مرّوا بعقبات وصعوبات حتى استقر بهم المقام هناك، ولكن بطلة العمل الرئيسية والتي تدور حولها الرواية هي «إيمان»وهي صاحبة القصة الأكثر مأساوية لم تقتصر على تجربة حب فاشلة، ولكنها تحكي عن بنت مكافحةمنذ الصفر، تسعى جاهدة للتغلب على وضعها الفقير وترتبط بشاب من عائلة ثرية يكون هو محور أحلامها كلها، ولكنها لا تتمكن من الزواج به، فتقرر أن تصنع أحلامها بعيدًا عن حدود الوطن.

تنجح «إيمان» بالفعل في السفر إلى «كندا»وخوض غمار تجربة خاصة جدًا تتعرف فيها على أصدقاء من بلدان مختلفة، وتنتهي إلى اختيار حياتها الخاصة في بيت صغير بكنداكما غنّت «فيروز»، تعبّر «إيمان» عن نفسها بعد خوضها غمار تلك التجربة القاسية بأنها:

لقد عاملت نفسي كعود جاف، ثم عاملتها كحبة قمح.في الأولى كنت لا أرى أي أمل من وجودي سوى الاحتراق، وفي الثانية كنت أظن أن وجودي لا معنى له سوى إشباع جوع الآخرين!. طحنت نفسي من أجلهم، وصرت خبزًا للجائعين من الرجال، وكانت متعتي الوحيدة تتحقق بالوصول إلى لحظات نشوتهم وإشباعها، ولم أفكر أبدًا في كوني زهرة وشجرة ورد، تحتاج إلى رعاية خاصة واهتمام، وأن لي عطرًا مميزًا، وأنني أرغب في التكاثر والتفتح في موسمي. لم أدرك هذا، حتى نمت أشواكي قوية برية وسوداء، وبدأت في الإعلان عن ذلك بقسوة غير معتادة.

هكذا بدت تلك التجربة بعد السفر على هذا القدر من الوضوح والقسوة، وعلى هذا القدر من القوة والصلابة في مواجهة قبح العالم، وكأن «إيمان» أخرى قد ولدت بعد تلك التجارب والحوادث والعقبات، «إيمان» القادرة على المواجهة دائمًا، وهي قبل ذلك «إيمان» المؤمنة بنفسها أولاً والتي أدركت أن كل نجاحٍ أو تحقق لها ليس إلا نتيجة لما تفعله بإرادتها وتطويعها لظروفها المحيطة مهما بدت غريبة وقاسية.


«نابروجادا»: بين الأصالة والمعاصرة

يختلف الأمر بعض الشيء لدى «سلمى أنور» في روايتها الصادرة عن دار «دوّن» في 2015، والتي تحكي فيها تجربة سفرٍ لم تمر بالكثير من العقبات، ولكنها مرت بعدد من الشخصيات والتجارب التي كان لها بالغ الأثر في شخصيتها، وربما كان لارتباطها منذ البداية بجداتها وأبيها أثر بالغ في عودتها إلى بيئتها وأصولها مع كل ما مرت به من تجارب.

هنا لا يبدو السفر كمجال للهروب بقدر ما يبدو «استفادة» وزيادة خبرة، ومحاولة للإلمام بثقافات الشعوب والتعرف عليها ومدى تقاربها رغم ما بينها من اختلافات، لذلك ترسم «سلمى أنور» عددًا من «البورتريهات» للشخصيات التي تقابلها في رحلة سفر بطلتها إلى «الدنمارك» وتنقل خبراتهم ومعارفهم وآراءهم في الحياة وفي الآخرين، فها هي زميلة سكنها «كاميلا» الدنماركية تخبرها أن:

الرجال كلهم أوغاد يا عزيزتي،لا تظني أن الرجال الشرق أوسطيين فقط هم الأوغاد، لا يا عزيزتي كلهم أوغاد، وكلهم يحبون الفتيات الحسناوات ذوات السيقان الطويلة،أما مثيلاتنا من متوسطات الجمال فلهن أنفسهن.

في الوقت الذي تعاني فيه صديقتها الأخرى «هيلينا» من الصراع بين خوفها من ضياع عمرها بدون أن تحقق رغبتها في الإنجاب، وبين محاولاتها لتحقيق ذاتها والتركيز في مشاريعها البحثية، كما نجد «فرانسوزا» الفرنسية المتعجرفةكما تصفها، ولكنها مؤمنة بحقوق العرب مهتمة بقضاياهم ومتحمسة للثورة السورية، ثم تأتي حكايتها الفريدة مع الرجل الباكستاني «ألطاف» الذي يتحاشاها في البداية ثم سرعان ما يتحولان إلى أصدقاء بحكم العشرة وحسن السلوك.

هكذا تبدو الشخصيات في «نابروجاد» مجلوبة خصيصًا لحمل مواقف أو وجهات نظر أو حالات موجودة في الغرب هناك، شديدة الشبه بما نجده في بلادنا، ويمكننا ببساطة أن نصل إلى «الهدف» من وراء مجيئهم على هذا النحو، ولهذا لن يكون غريبًا كثيرًا أن تفضل بطلة الرواية وكاتبتها العودة إلى «مصر» بعد تلك الرحلة واستعادة جذورها «الصعيدية» التي افتقدتها طويلاً، إذ تضربها «حمى العشق» كما يحدث في الحكايات وتتزوج من أقصى الجنوب المصري وتنجب ابنتها «زينب» التي تود أن تحكي لها كل هذه الحكايات وتصنع لها عالمًا فريدًا يجمع بين جنيات الحواديت وحكايات الأولياء!.


«الجدار»:التصالح مع المأساة!

للوهلة الأولى تبدو رواية «الجدار» لـ«نورا ناجي» الصادرة مؤخرًا عن دار «الرواق»، رواية رومانسية تبدأ بطلتها قصة حب فاشلة تبكي فيها غدر ذلك الحبيب، ولكن سرعان ما يكتشف القارئ أن ثمة حكاية أخرى تنشئها الكاتبة حول بطلتها «حياة» التي لا تواجه قصص الحب فحسب، ولكنها تواجه مشكلات ذلك العالم الذي نعيش فيه، وتشعر بالمسؤولية الكبرى تجاه المستضعفين فيه سواء من الأطفال الذين يلقون حتفهم بدون ذنبِ جنوه أو الأمهات أو المدنيين العزل!.

تمر «حياة» بعدد من المشكلات والعقبات كان أولها قصة الحب تلك، ولكنها لم تكن الأخيرة، وهي طوال رحلتها تلك تحاول أن تصنع عالمها بنفسها، ويحالفها الحظ بوجود عدد من الأصدقاء «الرجال» بدءًا بالإماراتي «سعود» حتى الهولندي الذي تقابله في كوريا «ثيو»، الذين يقفون بجوارها ويحاولون انتشالها من عالمها الأسود الكئيب، في النهاية تتغلّب على عقباتها، وتكتب رسالة إلى حبيبها الذي غدر بها، ولكنها تبدو فيها وقد تخلصت من كل أزماتها، وبدت أكثر تسامحًا:

هنا تبدو رحلة «حياة» بطلة «الجدار» كمرحلة تطهير استطاعت أن تتخلّص فيها من كل ما علق بها من ذنوب وما وقعت فيه من مشكلات، وبدا صديقها الهولندي «ثيو» كطوق النجاة الذي انتشلها من عالمها واستطاع بعد صبرٍ أن يزرعها في عالم جديد مشرق.


السردية النسائية واكتشاف الذات

إن كنت مثلي تشعر بالذنب بعدما أخبرتك بكل شيء،فلا تفعل. جرائم الحب هي الأنبل والأعظم دائمًا، لذا لا أعتبر أي شخص سقط ضحية لحبه مذنبًا، لا نحن، لا الخائنون، لا العشيقات. جرائم الحب في الأغلب لا تهدر روحًا، إنما تفعل الكراهية وحدها ذلك. لست نادمة على ليلتنا معًا، يوم كنت أمتلئ حبًا وأنت أيضًا، لكني نادمة على ذلك اليوم الذي قررت التخلي فيه عن طفلتي،نادمة على قرار مظلم أحمق بلا تفكير اتخذته يوم نحّيت حبي جانبًا وسمحت للكراهية بتقرير المصير، وأنا كنت أمتلئ كراهية في هذا اليوم يا خالد، هذا هو ذنبي الوحيد الذي أحاول التكفير عنه إلى الآن.

تجدر الإشارة إلى أن من يقرأ الروايات الثلاث ويتعرف على كاتباتها يدرك بسهولة أن ثمّة تماس واضح بين سيرتهن الذاتية وتجاربهن الشخصية وبين شخصيات رواياتهن، لاسيما إذا كانت تلك الروايات هي أعمالهن الروائية الأولى، وبعيدًا عن كون هذه الروايات انعكاس مباشر لحيواتهن الخاصة، وهو أمر لا يهم القارئ بحال من الأحوال، ولكنها على الأقل حملت جزءًا كبيرًا من تجربتهن ورؤيتهن للعالم في الوقت الحالي، خاصة إذا احتوت بعض تلك الأعمال على إشارات واضحة للعصر الراهن وأحداثه، مثلما فعلت «نورا ناجي» في «الجدار»، حيث دخلت مع بطلتها «حياة» في خضم أحداث ثورة يناير 2011، وإن كانت لم تجعلها مشاركة فعالة فيها، كما ورد في رواية «نابروجادا» إشارات إلى عمليات عسكرية في «العراق» والثورة في «سوريا» وغيرها.

أضف إلى ذلك أن كلًا من الروايات الثلاث تعد الرواية الأولى لكل كاتبة، وإن لم تكن تجربتها الأولى في الكتابة الأدبية، فقد سبق أن أصدرت «سماح صادق» ديوان شعر بالعامية بعنوان «البنت البردانة في قلبي»، كما أصدرت «سلمى أنور» كتاب نصوص ومقالات مختلفة بعنوان «الله الوطن أمّا نشوف» جمعت فيه تدويناتها التي كانت في مدونة بنفس العنوان، وأصدرت «نورا ناجي» قبل روايتها تلك «رواية قصيرة» بعنوان «بانا».

هكذا قدمت لنا هذه الروايات الثلاث وعلى غير اتفاق بين الكاتبات صورًا وتجارب ونماذج عديدة لنساءٍ استطعن التغلب على الواقع المزري بكل ما فيه من مشكلات وصعاب، واستطعن في النهاية خلق عالمهن الخاص كما يحلو لهن، وحتى إن بدت الصورة مشرقة أو متفائلةفي هذه الروايات فإنها تلتمس جزءًا كبيرًا من تجارب الواقع وما قد يحدث فيه.