عادة ما يكون وقع أخبار الوفاة صادمًا وحزينًا حتى إذا كان هذا المتوفى ليس حاضرًا في الذهن قبل وفاته، خاصة أخبار رحيل الفنانين والكتاب ومن تسلطت عليهم أضواء الشهرة والنجومية يومًا، تصبح أخبار وفاتهم أو مرضهم الشديد مفاجأة ثقيلة الوطء حتى لو نسيت سريعًا وأخذ مكانها أخبارًا أخرى أكثر انتشارًا وأكثر أهمية.

في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، انتشر خبر وفاة الفنانة «شادية»، ثم تبين أنها مجرد إشاعة وصرحت المطربة المعتزلة «ياسمين الخيام» أنها لم تتوف، وأنها ترقد في المستشفى في غيبوبة كاملة إثر جلطة في المخ، ولكن حتى مع تأكد خبر مرضها ونفي وفاتها من كل المصادر المعنية بالأمر، إلا أن السوشيال ميديا انقلبت رأساً على عقب دعاءً لها، وتذكيرًا بجمالها الذي لم يذوِ أبدًا رغم أنها تبلغ من العمر 83 عامًا، إلا أن اعتزالها مبكرًا وهي في كامل رونقها لم يترك فرصة ليتذكرها أحد سوى بالجمال.

الصغيرة.. الخفيفة.. الدلوعة

فتاة صغيرة لأسرة من الطبقة الراقية، أمها تركية وأبوها مهندس زراعي في الأراضي الملكية، تهوى الغناء والرقص، ومفتونة بتقليد «ليلى مراد»، ماذا ستكون تلك الطفلة سوى كتلة من الخفة والشقاوة؟

بالفعل كانت «فاطمة» خفيفة الظل وشقية جدًا، استطاعت أن تستخلص تصريحًا من والدها أن تعمل بالفن رغم صغر سنها، فبدأت بفيلم «أزهار وأشواك» وهي في عمر الثالثة عشر، ربما لا يعرف الفيلم أحد الآن، ولكنه وقتها كان ملفتًا للنظر، فتوالت الأعمال حتى أصبحت «شادية» ورقة رابحة في شباك التذاكر وهي بعام السابعة عشر حين تعاونت مع «أنور وجدي»، ثم تألقت تمامًا عندما بدأت العمل مع «كمال الشناوي» كثنائي، و«عماد حمدي» كثنائي أيضًا.

في هذه الفترة التي بدأت حوالي عام 1951 أصبحت شادية نجمة حقيقية ومتفردة جدًا في منطقتها، فخفة ظلها التي كانت طاغية على جمالها ميزتها جدًا على الشاشة، ولا زالت إفيهاتها إلى الآن تستخدم للتعبير عن الدلال، فإفيهات مثل «مراد عايزة رنجة»، و«حوش يا حواش» لم تندثر منذ أن أطلقتها «شادية» منذ حوالي ستين عامًا وإلى الآن.

الموهوبة.. القوية.. الذكية

على الرغم من كونها اشتهرت بأداء الفتاة الدلوعة، إلا أنها حالما لاحت لها فرصة أن تكون جادة ومبكية استغلت الفرصة لتفرض سيطرتها بالكامل على موهبتها التي لا يمكن لأحد أن ينكرها، ففي سن الخامسة والعشرين فقط قامت ببطولة فيلم «المرأة المجهولة» والذي لعبت فيه دور سيدة مسنة في عصر لم يكن فيه الماكياج هو البطل الأوحد، ولكن أداء الجسد ونظرة العيون المهزومة والذابلة، لتثبت «شادية» أنها تمتلك ناصية موهبتها بالفعل، وأنه حتى لو أعطتها الأقدار قبولاً إلهيًا وفرصًا ميسرة، إلا أن الأمر يتطلب أكثر من مجرد الحظ.

تتوالى أعمال «شادية» وتكون ثنائيًا لا ينسى مع «صلاح ذو الفقار» في مجموعة من الأفلام الكوميدية، رغم أن زواجهما لم يستمر سوى ثلاث سنوات فقط، ثم في عام 1969 تقرر أن تثبت مرة ثانية بعد عشر سنوات أن الموهبة والحظ لابد لهما من عقل يديرهما، فتغامر مع طليقها في هذا الوقت «صلاح ذو الفقار» – كمنتج هذه المرة – بفيلم سوف يعرضهما لموجة عالية من الانتقادات ولكن الموهبة والذكاء يجبرانها على خوض تجربة «شيء من الخوف»، لتظل «فؤادة» إلى الآن رمزًا نعرف جميعًا مفاده، وتظل جملة «جواز عتريس من فؤادة باطل» جملة قادرة على جعل قلبك ينقبض تلقائيًا حتى لو كان الهويس مفتوحًا على مصراعيه.

ظلت «شادية» معبودة الجماهير طوال مشوارها الفني الذي امتد لحوالي ربع قرن، والذي أنهته بفيلمها «لا تسألني من أنا»، والذي كانت أغنياته وحدها كفيلة بتمزيق قلوب الأمهات جميعًا، ولتترك جملة أيقونية أيضًا في وجدان السينما على الرغم أنها لم تكن قائلتها في الفيلم ولكنها ترتبط بها بشكل أو بآخر، فأنت عندما تسمع جملة «أنا بنت مين يا دادا» تستحضر تلقائيًا دموع «شادية» ويديها الملوحتين أمام وجهها وينفطر قلبك.

المعتزلة.. المتدينة.. المصممة

قدمت «شادية» آخر أعمالها وهي في الخمسين من عمرها رغم أن مظهرها لا يوحي بذلك إطلاقًا مما كان يؤهلها للكثير من الأعمال التي يمكن أن تشارك فيها، ولكنها أبت إلا أن تختفي في أوج تألقها وتتحجب حجابًا كاملاً، حجابًا لرأسها وحجابًا عن الناس، فلم نرها منذ اعتزالها ولا مرة على التليفزيون تحكي ذكرياتها، ولم تُجرِ أحاديث صحفية تصرح فيها بأسرار ومذكرات شخصية، ولم تنتشر لها صور حتى بعد حجابها واحتجابها.

لم تنجرف وراء موضة الدعوة، ولم تظهر على الشاشات لتحكي كيف اختارت طريق التدين والتقرب من الله، لم تخرج علينا بلفات حجاب مبتكرة وإكسسوارات غريبة، ولم يفلح أحد في أن يجعل منها مذيعة تستضيف الشيوخ لتحدثهم في أمور الدين بخشوع لتهدي الأخريات، بل التزمت الصمت التام وسارت في الطريق الذي اختارته بكامل إرادتها الحرة كما فعلت دائمًا.

أثبتت «شادية» للمرة الأخيرة أنها حقًا ذكية وقوية وتعرف ما تريده تمامًا، فهي وإن لم تفشل يومًا أثناء نجوميتها في أن تحقق ما ترى أنها كفء له ولم تغرِها أي مغريات تقلل من شأنها، فإنها استكملت تلك المسيرة باختفائها التام بعد الاعتزال، ولذلك عندما انتشرت إشاعة وفاتها كان هناك حزن هادئ ودعوات حارة لها بالرحمة ثم بالشفاء بعد تبين أن الأمر غير حقيقي.