يقولون إن التاريخ يعيد نفسه، وإن البشر لا يجيدون سوى التصرف بطريقة واحدة تجاه معطيات حياتهم ولذلك كل الأشياء تتكرر، والأحداث تعاد بنفس الترتيب وبنفس الكلمات ربما، الشيء الوحيد الذي يتغير هو أبطال الحكاية، وحتى تلك النقطة ليست مضمونة فحتى البشر يتشابهون إذ أنهم نتاج نفس القصص ويمتلكون تاريخًا متشابهًا.

«كارلوس زافون» روائي إسباني من مواليد 1964، بدأ حياته كروائي في عام 1993 بالكتابة للنشء وأنتج أربع روايات، ثم في عام 2001 بدأ الكتابة للجمهور البالغ وأنتج رواية «ظل الريح» والتي باعت ملايين النسخ حول العالم وترجمت لحوالي أربعين لغة، وهي الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها الآن.

«ظل الريح» هي أول جزء من رباعية «مقبرة الكتب المنسية»، والتي صدر منها ثلاث روايات حتى الآن هم؛ «ظل الريح»، و«لعبة الملاك»، و«سجين الجنة»، وترجم منهم للعربية أول جزئين فقط، ولكن السلسلة لا يكمل بعضها بعضًا ويمكن أن تقرأ أي من الأجزاء قبل الآخر ولن تتأثر، بل يمكن أن تقرأ أحدها ولا تقرأ الأجزاء الأخرى فالأحداث ليست مسلسلة ولكنها فقط تشترك في وجود مقبرة للكتب المنسية في كل الأجزاء.


دمية الماتريوشكا

«الماتريوشكا» هي دمية خشبية تقليدية أصلها روسي، وهي عبارة عن تمثال لامرأة ريفية ذات ألوان زاهية مجوفة من الداخل وتحوي تمثالاً أصغر حجمًا لنفس الدمية مجوفًا هو الآخر يحوي آخر أصغر حجمًا وهكذا.

دمية «الماتريوشكا» هي أقرب مثال يمكنك تصوره لرواية «ظل الريح»، تدور الرواية في «إسبانيا» في الخمسينيات وتحكي بالأساس عن طفل أخذه والده لزيارة مكان يدعى «مقبرة الكتب المنسية» ويوصيه ألا يخبر أحدًا أنه يوجد مكان بهذا الاسم أصلاً، يخبره أن المقبرة مكان لحفظ الكتب التي لا يريدها أحد والتي كانت من نصيب النسيان فيرى فعلاً كتبًا في الاقتصاد، وأخرى في السياسة، كلها عناوين لا تهم أحدًا وغير مغرية بالاقتناء.

تقع عينا الصغير على رواية تحمل عنوان «ظل الريح» لكاتب لم يسمع به أحد يسمى «خوليان كاراكس»، فيمد الولد الصغير «دانيال سيمبيري» يديه ليلتقط الرواية فيخبره والده أن الكتاب الذي يختاره يجب أن يحافظ عليه مدى الدهر وإلا يعيده إلى مقبرة الكتب المنسية وأن تلك هي القواعد.

يقبل «دانيال» الصغير ويأخذ الكتاب ويقرأه، ويغرق في عالم الكاتب ويصبح مهووسًا به فيقرر البحث عن باقي رواياته ويقوده هذا للبحث في تاريخ الكاتب «خوليان كاراكس» نفسه فنجد حكايات تنبثق من حكايات، وخطوطًا زمنية تتقاطع وشخصيات تنفتح لتولد شخصيات شبيهة وحكايات شبيهة، وتبدأ دمية «الماتريوشكا» في الإفصاح عن نفسها.


التاريخ يعيد نفسه

في رواية «ظل الريح» يحكي لنا «كارلوس زافون» عن كل البشر، البشر الذين بإمكانهم أن يكونوا أنت نفسك فأنت حتماً ستجد في زخم شخصيات الرواية أحدًا يشبهك، تشبه ظروفه ظروفك أو يعتنق نفس أفكارك، سوف تجد أحدًا ما تتوحد معه حتى لو كان التصاعد الدرامي للأحداث لا يتقاطع مع ظروف حياتك أبدًا. إلا أن «زافون» في حديثه عن قصته ذات الحبكة المحكمة يقرر أن يتحدث عن البشر، هم المحرك الأساسي للأحداث وعمقهم الإنساني هو ما يخلق الدراما التي بنى عليها روايته.

يحكي «زافون» في روايته عن العاديين الذين تقع لهم الأحداث عنوة كالسيد «سيمبيري» صاحب المكتبة ووالد «دانيال»، أو الذين تشحذ الدنيا حواسهم فيصابوا بلوثة من الفلسفة والجنون كشخصية «فيرمين» المتسكع الذي ينتشله «دانيال» وأبوه ليعمل معهم في المكتبة ويغرق كل الأحداث بصبغة فكاهية فلسفية تنم عن ألم عميق اجتاحه في السابق فتركه ساخرًا من كل شيء وقادرًا على الإتيان بالأعاجيب.

يحكي عن شخصيات هامشية كالخادمة «برناردا»، أو شخصيات أخرى تحكي حكايات فائقة الدرامية كشخصية «خوليان كاراكس» الذي تدور حوله الرواية هو وكل أبطال حقبته الزمنية.

في الرواية تكتشف أنه رغم كل هذا الزحام إلا أن تاريخ البشر يعيد نفسه، يتصرفون بنفس الطريقة ويرتكبون نفس الأخطاء تقريبًا، لا مفاجآت تحدث في هذا العالم ومع ذلك فكل مرة يحدث لنا فيها أمر ما نتفاجأ وكأنها المرة الأولى، كل الخذلانات تتشابه، كل الخيانات، كل الجنون، وكل التضحيات.


ثم ماذا بعد؟

في روايته «ظل الريح» جعل «كارلوس زافون» الحكايات تتولد من حكايات أخرى، كلما سحبت الخيط وشددته كلما اكتشفت خيوطاً أخرى ملضومة في قلب الحكاية لم تكن رأيتها قبلاً، ورغم أنه يكتب رواية تشويقية بخلفية إنسانية درامية، إلا أنه لم ينس الانشغال بأوضاع وطنه في الحقبة التي تدور فيها الرواية والتي تتزامن مع الحرب الأهلية الإسبانية، فخرج نسيج الرواية معقدًا جدًا وصنعت خيوط الحكاية غرزًا ضيقة من فرط ضيقها لا يمكنك ملاحظة عيوبها.

نعم في الرواية بعض العيوب بالطبع، فمثلاً يمكنك التنبؤ بالكثير من خطوط سير الشخصيات من فرط تقليديتها، كشخصية المراهق الفقير ذي الأم المختلة عقليًا الذي يكبر ليكون محققًا شريرًا وفاسدًا، يمكنك أيضًا أن تتنبأ بماهية شخصية «لايين كوبرت» الذي من المفترض أن يكون غامضًا وأن تستخرج الكثير من الثغرات التي حملتها حكايته، يمكنك أن تنتقد النهاية السعيدة لحكاية «دانيال وبيا» وتعتبرها نهاية كلاسيكية تليق بالأفلام القديمة.

نعم كل تلك العيوب وربما أكثر في الرواية، إلا أنك تغفر كل هذا لأجل المتعة والاستغراق الذين سيسيطرون عليك تمامًا من قوة السرد والحبكة المعقدة والمجهود الحقيقي المبذول فيها، وتعرف أنه لا يمكن أبدًا أن تسقط رواية «ظل الريح» أو أي من روايات «كارلوس زافون» في النسيان، وأبدًا لن يكون مكانها مقبرة الكتب المنسية.