عند النظر إلى تاريخ السينما المصرية والأفلام التي عاشت في ذاكرة الجمهور رغم مرور السنوات، يبقى فيلم «شمس الزناتي» علامة فارقة ومهمة لطالما جمعت محبي السينما باختلاف توجهاتهم.

الفيلم الذي جمع المخرج سمير سيف مع الأسطورة عادل إمام تدور أحداثه في خضم الحرب العالمية الثانية، يقوم شمس الزناتي بأعمال بطولية عن طريق قتل الجنود الإنجليز، تقترح عليه (حنة) أن يذهب إلى موطنها الأصلي في الواحات، حتى يختبئ من الإنجليز، وفي نفس الوقت يساعد أهل الواحة على التخلص من (المارشال برعي) وعصابته، أولئك من يبطشون بالواحة ويسلبون خيراتها على مرأى ومسمع من أهل الواحة العاجزين عن الدفاع عن أرضهم، يوافق (شمس) على عرض (حنة) في مقابل أن يتزوجا بعد إتمام المهمة، يجمع (شمس الزناتي) فريقًا يضم خمسة آخرين إضافة إليه، وينضم إليهم (عوض الكلاف) أثناء الرحلة، يعد (شمس) رجاله بكنز موجود تحت الأرض في الواحة حتى يقبلوا بالعرض، يذهب الأصدقاء إلى الواحة لمواجهة عصابة (المارشال) ويتمكنون في النهاية من تخليص أهل الواحة منهم، يتزوج (شمس) و(حنة)، كما يتزوج (عوض) من البدوية (نعناعة).

في هذا المقال نستعرض لماذا بقي فيلم «شمس الزناتي» صامدًا في قلوب المحبين رغم اختلاف صنفه وأجوائه عن الأفلام السائدة في ذلك الوقت؟

خروج عن التاريخ

في الثمانينيات خرج جيل جديد من المخرجين المفتونين بالواقع، أمثال عاطف الطيب ورأفت الميهي ومحمد خان، كانت سينما جادة واستطاعت التغلب على تقاليد إنتاجية سائدة في ذلك الحين، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه أفلام المقاولات صاحبة الإنتاج المنخفض والمستوى الفني الرديء. في بداية التسعينيات انقسمت الأفلام إلى قسمين من حيث الشكل، قسم سياسي جاد ومباشر متوافق مع نهاية الحلم الاشتراكي، مثل «الراقصة والسياسي» ، القسم الآخر كان محاولة للالتفاف حول القضايا الجادة وتقديمها بشكل غارق في الكوميديا، لم تظهر أفلام تخرج عن هذا السياق التاريخي إلا قليلًا، كان من ضمنها «شمس الزناتي». 

اختلف فيلم سمير سيف في هدفه الرئيس، توجه إلى الإمتاع بغض النظر عن المضمون، وبجانب ذلك اخترق صنفًا غير معتاد على الأفلام المصرية وهو الويسترن، مع كامل الإدراك لفيلم «فيفا زلاطا» الذي خاض تجربة الويسترن لأول مرة لكن بشكل ساخر وهزلي وغير مدرك لأبعاد العالم الذي يقدمه. 

قوة الحق

يستند الفيلم في كثير من أجزائه على ميزان الحق والانتصار المظلوم، أهل الواحة المستضعفون يتعرضون للظلم، لكنهم لا حول لهم ولا قوة أمام مرتزقة (المارشال برعي) الذي يفرض سلطته وقوته عليهم. لكن أهل الواحة يقررون اللجوء إلى مساعدة الغير للهروب من وطأة (المارشال) ورجاله، حين تقترح (حنة) على (الشيخ عتمان) أن يستعين بشمس الزناتي لمواجهة (المارشال برعي) ورجاله. يتخذ المشاهد جانب (شمس) قبل أن يعرف عنه أي شيء، هذا لأن رجال الواحة مستضعفون وأصحاب حق.

 احنا بكرا هنضرب ومعانا الحق، اللي معاه الحق ضربة إيده قوية

رغم تصوير الفيلم لمجموعة المقاتلين بأنهم مجموعة من الشجعان “العالم اللي إنت شايفها دي إيديها شقيانة وقلوبها ميتة” إلا أنهم ليلة المعركة الأولى يعيشون لحظات الخوف الغريزية، هذه الواقعية في تقديمهم جعلت حضورهم متباين يقبل الصفة والضد، تتماس مع الانطباع التلقائي لأي شخص في الحياة الواقعية، شخوص تمتلك نقاط القوة ونقاط الضعف، جعلتهم أكثر قربًا من نفس المشاهد البسيط.

الأمر الآخر أن الأصدقاء لم يذهبوا مع (شمس) في البداية لمجرد إظهار الوفاء أو الشهامة، دافعهم الأول والأخير كان المال الذي وعدهم به (شمس)، لم يستهلك النص مبادئ الشرف و(الجدعنة) إلا حين حاصرهم (المارشال) ورجاله وجرّدوهم من أسلحتهم وطردوهم من الواحة.

يتعرض الأصدقاء السبعة في العديد من الفيلم لاختبارات أخلاقية، والأهم أن هذه الاختبارات مستقاة من الواقع المصري، كأن الفيلم يضع شخصيّاته أمام أحقية التجربة، (سلامة الطفشان) الذي عاش يتيمًا يقع في طريقه الفتى (عبد الله) الذي قُتل أبوه على يد (المارشال برعي) ويشعر (سلامة) بعاطفة الأبوة تجاهه وتشاء الأقدار أن يموت (سلامة) هو الآخر دفاعًا عن الفتى. 

لا يغيب الوازع العقائدي عن الفيلم، وبغض النظر عن الاختلاف حول مدى مباشرته أو تقييمه الفني إلا أنه يبقى مهمًا، (سيد سبرتو) لا يتوقف عن معاقرة الخمر، يرفض أن يحتمي بالمسجد “دمي كله خمرة يا عم الشيخ عتمان” ولكنه في النهاية يلفظ أنفاسه الأخيرة داخل المسجد بعد أن يعلن توبته!

يتعرض الفيلم إلى الحكاية التقليدية عن وجود الخائن وسط الصفوف، كان الخائن هو (دعدور) ودافعه في الخيانة كان البحث عن السلطة والسيطرة المزيفة تحت جناح (المارشال برعي)، في المقابل يمنح الفيلم شخصياته فرصة للضعف وارتكاب الأخطاء والسخافات، (عبده قرانص) الذي يترك الرفاق في منتصف الطريق بعد الاستيلاء على أسلحة من شاحنة خاصة بالإنجليز “حلال عليكم حتتين السلاح وأنا حلال عليا الاتومبيل” لكن (قرانص) يعود إلى صديقه ويلقى حتفه بين يديه. 

البطل الشعبي وحرب المهمشين

(شمس الزناتي) في الفيلم بطل يحمل الكثير من التناقضات التي تجعله شخصية جذابة بالنسبة للمشاهد، لا يحمل المقومات الجسدية، لكنه لا يخاف، ويرى فيه الناس الأمل في أن يصبحوا أبطالًا يومًا ما، يحمل صورة البطل الشعبي صاحب الحلول الفردية في ذهن المصريين، الوطني الشجاع الذي يطارده الإنجليز ويهرب منهم بدهاء شديد، وفي نفس الوقت يحمل الغريزة الجنسية التي تجعله أشبه بفارس صعلوك، هذه الغريزة التي تصبح دافعًا مهمًا في قبوله للمهمة التي يعرضها عليه (الشيخ عتمان) يوافق على حماية الواحة من (المارشال برعي) ورجاله في مقابل أن يتزوج محبوبته (حنة). 

في الرحلة التي يخوضها (شمس) لجمع الفريق، يقف أمامهم في لحظات هزيمتهم، رفاق (شمس) كانوا أصدقاءه في الخدمة العسكرية، لكنهم الآن أصبحوا صورة لنقيض البطل، صاروا مهزومين ومشتتين، أشخاص بلا قيمة على الإطلاق يعيشون أسوأ حالاتهم وينتظرون بلهفة اللحظة التي ينبعثون فيها من جديد، حين يلتقون بشمس كل على حدة في بدايات الفيلم، تلمع أعينهم جميعًا وهم يطرحون التساؤل المتكرر “شقاوة؟” لأن هذا التساؤل هو الذي يبعث الماضي والأيام التي امتلكوا فيها قيمة وأهمية ولكنّها ولّت.

(سيد سبرتو) مثلًا حين يختلف مع (شمس) على المقابل المادي، يخبره (شمس) “مالك إنت ومال الشغل الواعر؟ ما إنت عمال بتلقط رزقك من المسخرة والغوازي” هذا الأمر الذي يضرب في كبرياء الرجل، ويجعل (سبرتو) يوافق على قبول المهمة حتى لو كان المقابل أقل مما طلبه.

أول ويسترن مصري

على الرغم من أن القصة الأصلية للفيلم مستقاة من تحفة الياباني المُعلم (أكيرا كوروساوا) فإنه الفيلم مصري في كل تفاصيله، سمير سيف مُخرج الفيلم سينمائي أصيل، أراد سمير أن يصنع فيلم ويسترن مصري، لكن بقت المشكلة الأهم في هذا الأمر هو غياب البيئة التي تسمح بتقديم مثل هذه النوعية من الأفلام، لم يجد السيناريست وسيلة لتقديم هذه البيئة أفضل من الهروب إلى الصحراء والواحات والمرتزقة ليصبح (شمس الزناتي) أول فيلم ويسترن مصري ربما. 

التزم الفيلم بواقعية الإطار الزماني والمكاني، وكيفية تقديم شخصيّات تنتمي لعالمها وبيئتها قبل أن تنتمي لشكلها في صنف الويسترن، صُنعت بمحليّة شديدة وخصوصًا اللهجة التي تتحدث بها الشخصيّات، كل شخصية لديها قدرتها البلاغية الخاصة بها التي تجيد التلاعب بها دون الخروج عن النص أو المسار الأصيل للأحداث.

 – ابعت عمود دخان
– أنا بعون الله محطش دراعي في خناقة إلا وربي بينصرني

في تقديمه للشخصيات يمنح الفيلم كل منها مساحة مميزة، بداية من اختيار الأسماء المميز (الطفشان) و(سبرتو) و(جعيدي) و(سامبو) و(قرانص) وحتى اسم (الزناتي) نفسه المستقى من البطل التراثي (الزناتي خليفة).

وبجانب الأسماء امتلكت الشخصيات أسلوبًا مميزًا للقتال، تميز (جعيدي) بالقوة الجسدية و(سامبو) بالمتفجرات، بينما (سبرتو) ابن الملاهي يتلاعب بالسكاكين، و(سلامة الطفشان) كان سلاحه هو (النبلة) التي انتشرت في شوارع مصر في تلك الفترة. هذا العمل المحدود والمتوازن على الشخصيّات أسهم في اكتشافها دون إسهاب وفي نفس الوقت خفف من احتمالية تحويلها إلى شخصيات متطابقة، نشعر بكل واحد منهم على حدة وبطريقة تفكيره ونتفاعل مع ما يواجهه بمقدار مختلف، الأمر الذي اكتمل بتصميم ملابس جعل لكل منهم إطارًا فرديًا خاصًا انزلق في النهاية إلى روح الجماعة .

خلف كل هذا تقف موسيقى هاني شنودة كشيء مقاوم للزمن وغير قابل للمساس، الموسيقى التي صنعها هاني كأنها تساؤل: هل ينجح الخمسة في مواجهة جيش كامل؟ ومع كل هذا يدرك سمير سيف الحكمة الخالدة، إذا أردت أن يعيش فيلمك، املأه بالمشاهد المميزة، والحقيقة أن الفيلم مهما اختلفت الآراء حوله يحتوي كثيرًا من المشاهد التي لا تنسى، الظهور الأول للمارشال برعي، ولحظات قتل الأبطال الخمسة المشحونة بالعاطفة، وكذلك تحية (شمس) لهم في الختام. كذلك احتوى الفيلم على مشاهد كوميدية وازنت الشحنة العاطفية التي يحملها بالشكل الذي جعل الفيلم قابلًا للمشاهدة حتى بعد ثلاثين عامًا من إنتاجه.