استطاع حي الشجاعية انتزاع إطلالة يومية مستمرة على شاشات القنوات الإخبارية لما أبدته المقاومة من صلابة وصمود أسطوري في وجه التوغل البري الإسرائيلي، رغم الدمار الهائل الذي نال مباني الحي، لكنه لم ينل عزيمة أبنائه وقوتهم القتالية.

صارت المواجهات الدامية خبرًا يوميًا معتادًا مع ازدياد إصرار المقاومة والاحتلال معًا على حسم المعركة في هذا الحي الأيقوني النازف بلا توقف، فالاحتلال يريد استنقاذ ولملمة ما تبقى من كرامته الممرغة في أوحال الشجاعية، وأصحاب الأرض ظهرهم للحائط لا يملكون التراجع خطوة واحدة للوراء، فالمعركة تدور في بيوتهم حرفيًا، ولا سبيل أمامهم إلا الدفاع عنها لآخر نفس فيهم.

الشجاعية تثأر

اشتهر الحي، ليس خلال الحرب الحالية فقط بل من قبلها، بذكريات سيئة جدًا للاحتلال ومفرحة للمقاومة، فقد تلقى فيه الجيش الإسرائيلي خسائر مؤلمة عام 2014، حيث قتل 7 جنود الكتيبة 13 بلواء الجولاني، وفقدت جثة الجندي أورون شاؤول، ومع احتدام المعارك أصيب غسان عليان، قائد لواء جولاني، الذي اعترف لاحقًا بأن معركة الشجاعية تعد أقسى معركة خاضها هذا اللواء في تاريخه.

وارتكب الاحتلال حينها مجزرة راح ضحيتها أكثر من 74 قتيلًا ومئات الجرحى من المدنيين، فيما اعتبر وقتها أعنف هجوم إسرائيلي منذ سنوات، وكان سبب كثافة الهجوم محاولة الاحتلال إنقاذ عدد من الجنود المصابين بحسب وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون.

وخلال اشتعال الحرب الحالية اشتهر تومر جرينبرج، قائد الكتيبة 13 بمقطع فيديو له يقول فيه:

نحن في انتظارهم ونحلم بهم، ولدينا معهم ثأر منذ عام 2014، في الشجاعية.

لكن الشجاعية هي التي ثأرت منه ومن جرائم جيشه وأوقعت به مع نخبة ضباط وجنود لواء الجولاني في كمين بحي في 13 ديسمبر، في واقعة جعلت القناة 12 الإسرائيلية، تقول إن هذا الصباح هو الأصعب منذ بدء الحرب على غزة.

فبينما تم الإجهاز على مجموعة جرينبرج بتفجير 3 عبوات ناسفة، قتلت وأصابت 15 ضابطًا وجنديًا آخرين، وسط عجز الجيش عن قصف حماس من الجو، بسبب الأنفاق، وقع جنود جولاني في كمين آخر، فمع دخول مجموعة من «وحدة 669» إلى مجمّع من 3 مبانٍ مجاورة، تم تفجير قنبلة مضادة للأفراد، مع تعرض جنودها لهجوم بالبنادق والقنابل اليدوية أطلقها مقاتلو حماس، فأصيب أفرادها، وخلال عملية إنقاذ المصابين واصل مقاتلو حماس إطلاق النار والمتفجرات ففاقموا خسائر الاحتلال.

وفي خطوة فُسرت بأنها محاولة من حكومة الاحتلال لإقناع الإسرائيليين بتقبل خيار وقف الحرب، اعترف الجيش الصهيوني بقتل ثلاثة من أسراه لدى المقاومة بطريق الخطأ بنيران في الشجاعية التي يحتدم فيها القتال.

والأحد، 17 ديسمبر، أعلنت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، أن عناصرها خاضوا فجرًا اشتباكات ضارية مع قوة إسرائيلية راجلة من 7 جنود، أردوهم بين قتيل وجريح، بعدها تجدد القصف الإسرائيلي على الحي.

حي شجاع الدين

استمد الحي اسمه من القائد شجاع الدين عثمان الكردي الذي قُتل ابنه الأمير سيف الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن علكان في إحدى المعارك بين الأيوبيين والصليبيين سنة 1239م.

وكان الأمير محمد يوصف بأنه نبيل شجاع متحفّظ محبٌّ للخير، وارتقى في عمر الثلاثين أو أقل، وبني حي خارج أسوار مدينة غزة سُمي بـ«الشجاعية» نسبة إلى أبيه.

احتفى الناس بقصة استشهاد الأمير بتسمية الموضع الذي قتل فيه بلقب أبيه الأمير شجاع الدين، وكان شجاع الدين هذا حفيدًا لمقدّم الطائفة الأسديّة (مماليك أسد الدين شيركوه الذين تم إرسالهم إلى مصر لمواجهة الصليبيين)، وظل شارع بالحي يُدعى «حارة الأكراد».

وخلال عهد دولة المماليك ازدهر الحي وتوسع، ولاحقًا عُرف كمنطقة تجارية واشتهر السوق الذي يحمل اسمه بتجارة الملابس، وهو يقع عند مدخل الحي من المدينة القديمة، بينما ازدهرت تجارة الماشية والأغنام في «سوق الحلال».

وكانت للحي أهمية عسكرية كبيرة، لقربه من جبل المنطار المرتفع حيث كان يُستخدم في الرصد، وعسكر به الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت أثناء حملته العسكرية الفاشلة التي استهدفت بلاد الشام، وكذلك قُتل فيها مئات الجنود من جيوش الدول الأوروبية في الحرب العالمية الأولى ودفنوا في أرضها.

تاريخ حي

تعتبر منطقة الشجاعية البوابة الشرقية لمدينة غزة، وحي الجديدة يشكل نصفها الشمالي بُني خلال عهد الأيوبيين، ويزيد سكان الحي عن 100 ألف نسمة، ومعظم العائلات المقيمة فيه من أصول كردية.

يعيش الكرد في تلك المناطق منذ أكثر من 800 عام منذ عهد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، ومن أبرز العائلات الكردية المقيمة في الشجاعية: عائلات الكردي والظاظا والخازندار، وكذلك عائلة ساق الله، ويمتاز سكان الحي باحترافهم لمهن وحرف متعددة، كما أن حي الجديدة خرج منه سياسيون في مجالات مختلفة.

عقدة الاحتلال

تكون حي الشجاعية في البداية من منطقة شمالية اشتهرت بوجود الأكراد، ومنطقة جنوبية أقدم منها اشتهرت بوجود الأتراك، واليوم تنقسم المدينة إلى أربع مناطق هي التركمان والتركمان الشرقية والجديدة والجديدة الشرقية، ومع اكتظاظ قطاع غزة بالسكان توسع الحي أكثر وأكثر.

وخرجت من هذا الحي شخصيات شهيرة مثل أحمد الجعبري، نائب القائد العام لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والذي كان يوصف بأنه رئيس أركان الحركة إلى أن اغتاله الاحتلال في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني  2012، والشاعر الشهير معين توفيق بسيسو، أمين عام الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة وظل عضوًا باللجنة المركزية للحزب حتى وفاته عام 1984، وكذلك هاني بسيسو، رئيس تنظيم الإخوان المسلمين الفلسطينيين منذ عام 1963، وتوفي في مصر عام 1970.

وكذلك القيادية الحمساوية، أم نضال فرحات، الشهيرة باسم «خنساء فلسطين»، واكتسبت هذا اللقب تكريمًا لها على تقديم ثلاثة أبناء شهداء في القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وآوت العديد من شباب المقاومة المُطاردين من الجيش الصهيوني، وتعرض بيتها للقصف أربع مرات، وتوفيت مريضة عام 2013 في مستشفى الشفاء.

كما ارتبطت بهذا الحي حكايات شعبية قديمة بعضها يزعم أن شمشون الجبار، الشخصية الشهيرة في القصص القديمة، تم دفنه فيما يُعرف اليوم بـ«الشجاعية».

واليوم يرابض أبناء المجاهدين القدامى من الكرد والترك والعرب في هذا الحي الذي اختلطت فيه أعراقهم وامتزجت فيه دماؤهم في الميدان بعدما تحولت بيوتهم الآمنة إلى ساحة قتال أمامية وجبهة من أشد الجبهات اشتعالًا وعنفًا.

اقرأ أيضًا: حي الشجاعية: كيف تصنع تاريخًا من الصمود؟