جالسًا داخل سيارة أجرة تلتهم شوارع القدس، متوجهًا نحو المعرض الذي سيعرِّف فيه العالم على لوحاته الفاتنة، يظهر (أكيفا شتيزل) الشاب اليهودي الأرثوذكسي بجانب زوجته (ليبي) التي تحاول أن تخفف من توتره، لم يرد (أكيفا) بيع هذه اللوحات التي تلعب زوجته دور البطولة فيها، لكن أعباء الحياة الثقيلة دفعته لفعل ذلك. بعد وصوله لمكان المعرض يأخذ منظم المعرض الكلمة، يوجه كلمة مقتضبة للحضور للترحيب بهم، يقول: أهلًا بالجميع في هذا العرض الفني للفنان أكيفا شتيزل، والذي يدور حول زوجته (ليبي شتيزل) التي فارقتنا منذ أشهر قليلة.

لوهلة تتوقف الحياة بأكيفا، وبالمشاهد ليكتشف أن مشهد سيارة الأجرة كان خيالًا، وأن بطل المسلسل فقد للتو زوجته وابنة عمه التي حارب للزواج بها تاركة وراءها طفلة صغيرة والكثير من مشاعر الحزن التي ستكفي لملء الجزء الثالث من المسلسل الإسرائيلي (آل شتيزل: أسرة من أورشليم)، ووراء هذه المشاعر الحزينة الجياشة، ستذوب صورة الشاب اليهودي المتدين المتشدد، المتوشح بالسواد والبياض طيلة الوقت كباقي رفاقه من اليهود المتشددين الذين يعرفهم القاصي والداني بطريقة لبسهم وبالخصلات المتدلية فوق آذانهم التي تعلن للجميع أرثوذكسيتهم، وستحضر مكانها صورة الشاب والزوج المخلص الذي فقد زوجته ويحاول عبثًا مواجهة الحياة بدونها متسلحًا بطفلته الصغيرة بكل بساطة وبعيدًا عن جميع التعقيدات الأيديولوجية والعقدية.

الحب والوحدة والتوراة والتلمود

تدور أحداث المسلسل في حي (ميا شعاريم) بالقدس المحتلة، والذي يسكنه اليهود الحريديم (الذين يخافون الله باللغة العبرية)، من الأشكيناز، داخل شقة صغيرة بهذا الحي الذي تعلوه الألوان الأرثوذكسية السوداء والبيضاء، سنتعرف على الشاب (أكيفا شتيزل)، وهو شاب يهودي متدين مولع بالرسم، يعيش جنبًا إلى جنب مع أبيه الحاخام (شالوم شتيزل) الذي يعاني من الوحدة بعد وفاة زوجته وفراغ المنزل من أبنائه، اللهم إلا (أكيفا).

خلال الأجزاء الثلاثة لهذا الموسم يقدم لنا صناع العمل صورة الحياة اليومية لأسرة من اليهود الحريديم، والمشاكل الكثيرة التي تعيش فيها هذه الأسرة، تارة بسبب أمور لها علاقة بممارساتها الدينية، وتارة بسبب أمور اجتماعية محضة تعج بها جميع المجتمعات الإنسانية دون استثناء، فالشاب (أكيفا) سيعيش خلال الأجزاء الثلاثة قصص حب تنتهي نهايات مختلفة، بين الهروب والموت أو الارتباط، فيما يطارد أبوه الأرمل وحدته بالبحث عن امرأة تحل محل زوجته، ويزيد هذا الضغط في كل مرة يدخل فيها ابنه في علاقة حب أو مشروع زواج، إذ يحاول الأب إفشاله بشكل مباشر أو غير مباشر، بسبب خوفه من الوحدة القاتلة.

لا تقتصر حكاية المسلسل على هذين البطلين، بل تسلط الضوء على باقي أفراد عائلة (آل شتيزل) والمواقف اليومية التي يعيشها أفراد الأسرة ويحاولون حلها والخروج منها في إطار ما يتناسب مع مبادئ التوراة والتلمود وتوجيهات الحاخامات بعيدًا عن الصورة النمطية التي رسمتها أعمال درامية أو وثائقيات عن هذا العالم المغلق للحريديم.

ليسوا Unorthodox وليسوا يعقوب

في مارس 2020، طرحت منصة نتفلكس المسلسل القصير Unorthodox، الذي يتحدث عن شابة يهودية نشأت داخل مجتمع الحريديم بويليامزبرغ، ببروكلين بنيويورك، وتحاول الهروب من التطرف الديني للحريديم عبر الفرار إلى ألمانيا للبحث عن حياة أفضل وأكثر انفتاحًا.

صور مسلسل Unorthodox الشابة اليهودية إيستر على أنها مقهورة مجبرة على اتباع التقاليد الدينية التي تغتال حياتها واختياراتها، وتتدخل في أهم قراراتها، سواء تلك المهمة كالزواج أو الأقل أهمية كطريقة اللباس وقصة الشعر، إذ تجبرها على حلق شعرها بالكامل وتغطية رأسها بشعر مستعار كما جرت العادة.

هذا العمل الذي ينتقد بشكل واضح مجتمع الحريديم المغلق، والمستمد من السيرة الذاتية للكاتبة اليهودية ديبورا فيلدمان التي تحمل عنوان: Unorthodox: The Scandalous Rejection of My Hasidic Roots، يركز على فكرة محورية وهي الهروب من هذا السجن المغلق، فإيستر لم تكن الوحيدة التي هربت، سبقتها أمها المثلية التي تعيش مع صديقتها ببرلين، و(موشي) الذي فر قبلها ثم عاد لمجتمعه الحريديمي وصار متخصصًا في البحث عن الفارين من أمثالها.

على العكس من ذلك، سيأتي طرح مسلسل آل شتيزل الذي يقدم الموضوع بشكل مختلف يصل إلى النقيض في بعض الأحيان، فهو لم ينكر وجود بعض الحالات الراغبة في الهروب من هذا المجتمع المغلق كزوج (غيتي شتيزل) الذي انتهى به المقام عائدًا إلى زوجته وأبنائه، لكنه لم يجعل هذا الأمر ظاهرة قائمة متكررة تمثل مجتمع الحريديم على أنه سجن ديني كبير، بالرغم من أن كاتبي العمل أوري إيلون ويهوناتان آندرسكي كانا متنميين لجماعات يهودية أصولية سابقة، الأول لجماعة صهيونية متشددة والثاني لأخرى أرثوذكسية من الحريديم، حيث خرجا في وقت سابق من هاتين الجماعتين إلى إحدى الجمعيات التي تساعد المتدينين السابقين على الانطلاق في حياة جديدة، في هذا الصدد يقول يهوناتان آندورسكى مخرج العمل:

فكرة أن الحريديم هم مجموعة من البؤساء الذين يعيشون داخل جيتوهات مغلقة وينتظرون فقط الفرصة للفرار من حياتهم هي مجرد أفكار يطلقها الخيال العلماني.

بجانب ذلك، سنطلع خلال حلقات المواسم الثلاثة من آل شتيزل على وجه آخر مختلف للمرأة اليهودية، فهي عكس نموذج إيستر المجبرة على الزواج أو أمها التي كانت مضطرة لتحمل زوجها السكِّير، يقدم لنا صناع العمل نماذج كغيتي (أخت آكيفا) اليهودية المتدينة التي تحث زوجها على التفرغ لطلب العلوم الشرعية اليهودية والتوبة من ذنوبه، أو (ليبي) زوجة أكيفا التي تعيش حياتها بتوافق تام مع قناعاتها الدينية بكل راحة وحب وهي في عنفوان شبابها.

كل هذا التغيير في طريقة تجسيد اليهود المتشددين كان بهدف محاولة تحسين صورتهم، فالمسلسل لا يتحدث عن أسرة محتلة قادمة من شرق أوروبا، وطردت بشكل أكيد أسرة فلسطينية كانت مقيمة في هذا الحي قبل سقوطه في يد العصابات الصهيونية، بل يتناول حياتها كأنها كانت هنا منذ الأزل، وعاشت في أرض فلسطين المحتلة جيلًا بعد جيل، كما أنه لا يكشف أبدًا عن الجانب الخبيث والسيئ لهذه الفئة، والذي ظهر جليًّا في نموذج المستوطن يعقوب الذي يقاسم عائلة آل الكرد مسكنهم ويعترف في كل مرة أنه يسرقهم لأن قانون دولة الاحتلال يكفل له ذلك، ولأنه لا خيار أمام عائلة الكرد سوى القبول بالسرقة سواء كان هو السارق أو يعقوب آخر من اليهود المتشددين الذي يرون في القدس مدينة يهودية لن تتطهر إلا بطرد غير اليهود وإبادتهم ثقافيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وأيضًا جسديًّا.

تحدي العيش في مجتمع إسرائيلي

تعيش طائفة الحريديم داخل قوقعة اجتماعية مغلقة يفرضها عليهم انعزالهم الكامل عن العالم الخارجي، لا تواصل، لا تلفاز ولا هاتف ذكي إلا بشروط معينة وبعد موافقة الحاخام، من هذا نستنتج أن هذا المسلسل لم يكن يتوجه إلى اليهود الحريديم لتأليف قلوبهم، لأنهم ببساطة لن يشاهدوه، وإن كان بعضهم قد أسرَّ لبعض وسائل الإعلام أنه شاهد بعض الحلقات وأُعجب بها.

المستهدف الأساسي من هذا العمل الدرامي كان بشكل أولي المجتمع الإسرائيلي نفسه، الذي يعيش مع الحريديم على الأراضي المحتلة لكنه لا يعرف الكثير عنهم، يعتبر المجتمع الإسرائيلي مهووسًا ببرامج تلفزيون الواقع، كما أنه متابع جيد جدًّا للإنتاجات الدرامية خصوصًا الخارجية كالتركية، لذلك لم يكن إعجابه بالمسلسل بالأمر المستغرب.

في هذا الصدد، تقول شاينا فايس، مديرة قسم الأبحاث الإسرائيلية بجامعة برانديز الأمريكية، إن المسلسل قدم وللمرة الأولى فئة الحريديم بطريقة مختلفة بعد أن كانت الكاميرا لا تهتم بهذه الفئة لأن غالب الأعمال الدرامية كانت تهتم أكثر باليهود من ذوي الأصول الروسية أو الإثيوبية أو العربية، تضيف فايس: «هذا المسلسل لم ينجح لأنه محاولة تطفل على نظام الحياة المغلق لدى اليهود الحريديم، بل نجح لأنه يخاطب بشكل مباشر اهتمامات المجتمع الحديث بتطرقه لمواضيع إيجاد الحب، النجاح في الحياة العملية، والبحث عن تقديم التربية السليمة للأبناء».

من جهتها اعتبرت الباحثة فلورانس هايمان أن نجاح المسلسل داخليًّا راجع إلى سبب أساسي هو الدقة الأنثروبولوجية والاجتماعية في تجسيد شخصية اليهودي الأرثوذكسي، بالإضافة طبعًا إلى الجانب الدرامي الذي كانت على قدر عالٍ من التألق. كل هذا ساهم ولو بشكل جزئي في تغيير صورة الحريديم لدى العلمانيين اليهود، دقلة باركاي منتجة العمل نفسها اعترفت بهذا الأمر إذ قالت في تصريح تلفزيوني: «بعد المسلسل لم أعد أنظر الى المتدينين بنفس الطريقة، المسلسل غير كثيرًا من قناعاتي الشخصية على الأقل، الآن أنا أفهمهم، أتفهم اختياراتهم وطريقة تفكيرهم والقرارات التي يتخذونها في حياتهم، حتى إن لم نكن متفقين معهم كليًّا».

هذه الصورة الرومانسية للغاية لا تتوافق أبدًا مع واقع الحال، فالعلمانيون الصهاينة واليهود الحريديم يعيشون على وقع حرب لا هوادة فيها، مجرد الدخول إلى أحياء الأرثوذكس يعرض الفاعل إلى الاعتداء اللفظي والجسدي، هذا دون الحديث عن المشاكل السياسية القائمة بين الطرفين، والتي تصل إلى حد إصدار فتاوى التكفير ضد التيار الصهيوني. لكن كل هذا يتجنبه صناع المسلسل ولا يشيرون إليه إلا بشكل عابر جدًّا، يظهر هذا الخلاف الكبير بين التيار العلماني والتيار المتدين بطريقة تميل غالبًا إلى الكوميدية تهدف إلى تذويب جبل المشاكل القائمة والعداء المتبادل بين الطرفين.

نتفلكس من الموساديات إلى الرومانسيات

لا يمكنك التجول بالقائمة الرئيسية للأعمال الدرامية أو السينمائية على منصة نتفلكس دون أن تقع عينك على أحد الأعمال الاستخباراتية التي تمجد في رجال الموساد، ذلك الجهاز القوي الذي لا يقهر. سيتمكن رجال الموساد من تحقيق مبتغاهم فوق أي أرض وتحت أي سماء، فستراهم ينجحون في إلقاء القبض على أحد الضباط النازيين في أرض الأرجنتين ومحاكمته وإعدامه على الأراضي المحتلة في Operation Final، كما أنهم سيتمكنون من مساعدة يهود إثيوبيا على الوصول “لأرض الميعاد” في فيلم The Red Sea Resort، كما أنهم سيدخلون في حرب مع المقاومة الفلسطينية التي يتعمد المسلسل تشويه صورتها بشكل فج ويصفها بالإرهابية حتى يخدم سردية دولة الاحتلال في Fauda ويجندون أشرف مروان، صهر عبد الناصر شخصيًّا في The Angel.

ارتبطت صورة اليهودي أو الإسرائيلي إن شئنا الدقة على شاشات نتفلكس بذلك الداهية الماكر الذي لا يقهر ولا يهزم وهو يحارب من أجل قضاياه العادلة، لكن مسلسل آل شتيزل، الذي سهرت نتفلكس على إخراج الجزء الثالث منه إلى النور بعد شراء حقوق الملكية سنة 2018، يقدم صورة جديدة للمواطن اليهودي الإسرائيلي تحديدًا، الباحثة شاينا فايس تعلق على هذه النقطة بالقول إن المسلسل تربط صلة ثقافية مختلفة بين اليهود وإسرائيل وبين باقي الثقافات والشعوب، بعيدًا عن الصورة النمطية التي تم تسويقها سابقًا، والتي كانت تنشر فقط القوة الاستخباراتية الدولية، وهو ما يضطر هذه المسلسلات إلى مناقشة نقطة حساسة هي القضية الفلسطينية بكل ما في سرديتها من إضرار بالحبكة الصهيونية.

يتلافى المسلسل هذه النقطة بالكلية، فالمشاهد غير المتابع للتاريخ وغير المهتم بالجغرافيا سيجزم بعد مشاهدة هذا العمل أن (دولة إسرائيل) هي دولة يهودية يعيش فيها مواطنون متدينون وعلمانيون، ولا يوجد فيها عرب، اللهم إلا ذلك اليهودي العربي الذي سيظهر في ثوانٍ وهو يتحدث إلى الجدة التي فقدت قدراتها العقلية، أما العرب المسلمون، فالعمل يتجنبهم تمامًا، ولا يذكرهم لا من قريب ولا من بعيد، كأنهم لا يوجدون أصلًا، وإن كان العمل موجهًا أيضًا بل بشكل أساسي للمتابع العربي، لأنه كما يقول رييل فرومان، مخرج مسلسل الملاك:

الإنتاج الإسرائيلي موجه أساسًا إلى العرب.

خلال إحدى اللقطات نرى حفيد العائلة يواعد فتاة أخرى وفي الخلفية مسجد قبة الصخرة، الرسالة وإن لم تكن مباشرة فإنها واضحة، هذا الهدوء الليلي والمسجد الأقصى في الخلفية يؤكد شيئًا واحدًا، لا وجود للعرب هنا، الأمور تحت سيطرة قوات الاحتلال وتحت سيطرة المستوطنين اليهود المحتلين الذين جعلوا من “أرض الميعاد” مكانًا خاضعًا لهم ولأسطورتهم الدينية التي بنوا عليها الكيان المحتل.

حرص المسلسل بشكل كبير على إيصال هذه الرسالة طيلة أجزائه الثلاثة، فكرة عدم وجود العرب، فاليهود شعب بلا أرض جاؤوا لأرض بلا شعب كما ادعت الحركة الصهيونية، هذه الإبادة (الفنية) للشعب الفلسطيني صاحب الأرض هي محور البروباغندا اليهودية الموجهة للدول الغربية خصوصًا لعزل العرب والمسلمين في الأراضي المقدسة عن الحصول على تعاطف الشعوب الأخرى التي يركز عليها التضليل الإعلامي الصهيوني بشكل رئيس.

أما بالنسبة للمشاهد العربي، فالتحدي لن يكون أقل سهولة، فخلال تلقي المتابع لهذا الكم الهائل من الرسائل التطبيعية الرومانسية سيكون مطالبًا في كل مرة بأن يتفكر في أمر مهم، كيف كان شكل الأسرة التي طردها الصهاينة لتحل محلها عائلة شتيزل؟ هل نزحوا الآن؟ هل ظلوا داخل فلسطين أم أنهم رحلوا إلى الأردن أو ربما مخيمات لبنان أو إلى بلد آخر بعيد لا يشبههم ولا يشبهونه؟ هل (آل شتيزل) ظرفاء حقًّا، أم أنهم مجرد محتلين تحاول الكاميرا تحسين وجههم الصهيوني القبيح؟