في صيف 1976 قام زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم دولة الإمارات، بتفجير قنبلة سياسية؛ مصرِّحًا بعدم رغبته في تولي الاتحاد لفترة ثانية. جاء ذلك في الوقت الذي كان يسعى خلاله بشكل حثيث لضمان استمراره في الحكم وتجاوز الدستور المؤقت الذي يقضي بتبادل الرئاسة بين الإمارات، لكنه وبقدر ما بدا أنه يبتعد عن غايته تلك كان أقرب إليها من أي وقتٍ مضى.

فبهذا الإعلان سعى زايد إلى تدعيم مركزية الدولة، مستغلًّا هذا الموقف الذي فرضه للحصول على تعهدات من الإمارات الست الأخرى بإنشاء جيش وطني، وشرطة مركزية، وأن تقدم كل ولاية 50% من دخلها إلى الصندوق الاتحادي، لكن دبي لم تلتزم وأصرت على الحفاظ على فرقها الشرطية الخاصة، وهو الوضع المستمر إلى يومنا هذا، تبعتها في ذلك أغلب الولايات. توسع دور أبوظبي المركزي بعد تفاقم أزمة الحدود بين أبوظبي والشارقة، والتي سعى من خلالها زايد إلى إصدار قرار بتحديد الجهة المخولة بحل نزاعات الحدود بين الإمارات، متمثلةً في المحكمة الاتحادية.

يشير نزيه الأيوبي في كتابه «تضخيم الدولة العربية» إلى أن وضع القبيلة في الإمارات جزء من أجهزة الدولة، حيث تسيدت القبيلة على الطبقات التجارية، ليس لاكتسابها شرعية سياسية كسلطة تقليدية فحسب، بل بسبب تغلغل الاقتصاد الغربي في المنطقة، فتعمل القبيلة كوسيط أو بمنطق آخر «كشركات مالية تدير عمليات اقتصادية» وليست دولة، حتى أن الأيوبي يوضح ذلك بسخرية، فيقول بأن تلك القبائل يساورها الشك دائمًا في كونهم دولًا أم لا، ولهذا يعمدون إلى إضافة مصطلح الدولة قبل اسم الدولة: «دولة الإمارات العربية المتحدة».

وبالمنطق القبلي فإن إقامة نظام سياسي يحتاج إلى توازنات لتشكيل تحالف مهيمن وحاكم يدار من خلاله توزيع الريع، ويجري استخدامه لإتمام عمليات الاقتصاد والهيمنة السياسية، وهو ما نحاول التطرق إليه في هذا التقرير.

اقرأ أيضًا: سؤال وجواب: قصة الأزمة الاقتصادية في دبي


عبر منظار الزمن

تنتمي أسرة آل نهيان إلى قبيلة بوفلاح، وأسرة آل مكتوم إلى قبيلة بوفلاسة، وهما ينتميان إلى حلف قبائل بني ياس، وهي القبائل التي سكنت الجزء الداخلي من الإمارات. تعد أسرة آل نهيان ذات مركز ونفوذ داخل الحلف، وهي تسيطر على زعامته منذ القرن الثامن عشر. انتقلت أغلب قبائل بني ياس إلى أبوظبي لوجود آبار ماء عذبة، في حين انتقلت قبيلة بوفلاسة إلى دبي بعد نزاع نشب بين أولاد العمومة.

ويحكم إمارتي رأس الخيمة والشارقة «القواسم» وهم حكام البحر والأعلى نفوذًا حتى مجيء الاحتلال البريطاني 1820. ونظرًا لأن منطقة الخليج العربي هي أقدم منطقة احتلتها بريطانيا وسيطرت عليها في المنطقة العربية، انتقل الثقل النوعي إلى حلف قبائل بني ياس مع استمرار الاحتلال البريطاني في منطقة الساحل المتصالح، كان مُحدد السياسات بين القبائل هو المحتل البريطاني.

على سبيل المثال، في منتصف الستينيات أعلن حاكم الشارقة صقر القاسمي النضال ضد الاحتلال البريطاني، فنُفي على إثر ذلك إلى القاهرة، وبعد تأييد الأمير شخبوط آل نهيان الأخ الأكبر لزايد للنضال ضد المحتل تدخل الإنجليز لتنحيته وتنصيب أخيه زايد حاكمًا على أبوظبي.

في كتابيهما ذكر كليكوفسكي ولوتسكييفيتش أن بريطانيا سعت بشكل حثيث لإيجاد توازن ما بين الإمارات التي قد تتناحر في غيابها، ما سيضر بمصالحها النفطية، كما كانت قلقة من أي محاولة ممكنة لبسط نفوذهم على مضيق هرمز المهم لبريطانيا، في حين كانت إيران بهلوي في حلف معها، ولهذا فقد غضت الطرف عن احتلال إيران للجزر الثلاثة، وسعت لضمان وضع سياسي متزن من خلال إنشاء مكتبالتطوير [1]، وساهمت فيه بمليون جنيه إسترليني، ثم بعدها تكفلت أبوظبي بنصف ميزانيته.

وفي الوضع الجديد هذا كانت دبي هي المنافس الوحيد لمركزية وثقل أبوظبي النوعي، بالرغم من صغر مساحتها مقارنة بأبوظبي التي تستحوذ على 83% من التراب الإماراتي، وتحتل أبوظبي المرتبة السابعة في احتياطي النفط عالميًّا، ما يعطيها نفوذًا ماليًّا ضخمًا وقدرة أكبر على التحرك، في حين تفتقر دبي لكل تلك المقومات، والتي تخلت منذ مطلع الثمانينيات عن البرنامج العسكري تحت ضغط زايد لتنفرد به أبوظبي منذ ذلك الحين.

لجأت دبي بشتى الطرق لإيجاد سبل لعمل توازن اقتصادي ومالي يمكِّنها من الحفاظ على ذاتيتها، وعدم الانزلاق نحو النزعة المركزية لأبوظبي التي استطاعت إخضاع بقية الإمارات، جرى ذلك عبر سياسات تحويل دبي لمركز مالي مهم في العالم، والاهتمام بعمليات الإنشاء والسياحة والتجارة والسيطرة على المواني العالمية، ومع الوضع السياسي لعائلة آل مكتوم في التحالف الحاكم، الذي ضمنته لهم بريطانيا، استطاعت دبي أن تحدث طفرات اقتصادية أدت للحفاظ على التوازن بينها وبين أبوظبي إلى حد ما.

اقرأ أيضًا: ملاذ الأموال في الشرق الأوسط في أزمة: هل تفقد دبي بريقها؟


المحمدان بين السياسة والاقتصاد

في يوليو/ تموز 2018 غرد محمد بن راشد بكلامٍ مفاده أن العدل أساس الملك، فيما نشر معها صورة لمحمد بن زايد وهو في عمر ثماني سنين وهو يخطها على السبورة. اعتبر العديد من الباحثين تلك التغريدات تأتي في سياق الصراع المحموم بين الرجلين والمختبئ تحت الرماد.

منذ عام تقريبًا بدأ الرجل السبعيني محمد بن راشد التململ من الوضع الذي ورط فيه محمد بن زايد الاقتصاد في دبي، ابن زايد الطموح للتوسع والمتوافق مع النهج الأمريكي في المنطقة، والذي يجعله كحليف استراتيجي لأمريكا يؤثر بصورة مباشرة على الوضع المالي لدبي، فالكلفة التي تدفعها الإمارات عمومًا جراء سياسات ابن زايد باهظة، سواء بالتدخل العسكري في اليمن أو محاولة التأثير بفاعلية أكبر في البيت الخليجي عبر هندسة حصار قطر، فالحصار أثَّر على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، أو من خلال توتر العلاقة مع طهران الذي يؤثر بشكل رئيسي على موقف دبي المالي، مع السعي لخفض مستوى التبادل التجاري مع إيران.

في ظل الأزمة العالمية في 2009 وفي ظل موقف دبي الحرج اقتصاديًّا، ظلت دبي تعول على قُبلة الحياة التي ستعطيها إياها إمارة أبوظبي لإنقاذها، إلا أن تدخل أبوظبي جاء متأخرًا قليلًا، بعيد ظهور الأزمة على السطح، وبالفعل في نهاية العام ساعدت أبوظبي دبي بمبالغ مالية بلغت 10 مليارات دولار مما ساعدها في تخفيف حدة تلك الأزمة، ولكن ظلت مشكلة دبي هي عدم قدرتها على الاستقلالية التامة عن أبوظبي، وبالرغم من أنها حاولت رد الجميل في مناسبات مختلفة، كأن غيَّرت اسم برج دبي إلى برج خليفة، فإنها أدركت مدى ضعفها في غياب قوة عسكرية تحميها وسياسات تحفظ كيانها، لذا سعت دائمًا لحفظ التوازن مع أبوظبي ومحاولة اختزال المشكلات في شخص محمد بن زايد.


تباين المواقف الخارجية

كشفت وثائق ويكيليكس 2010 عن تباين في الرؤى بين أبوظبي ودبي حول الملف الإيراني، في حين كانت أبوظبي تراسل واشنطن لتدعم توجيه ضربة عسكرية لإيران، ويسعى ابن زايد لامتلاك منظومات دفاعية رادعة، في المقابل كانت دبي تسعى لحث الولايات المتحدة على عدم السماح بنشوب الحرب في الخليج، وذلك لضمان مصالحها الاقتصادية، واعتمادًا على سياسة التوازن على ضفتي الخليج، كما تدرك دبي تحديدًا خطر الحرب على وضع دبي المالي الذي قد ينهي تجربتها إلى الأبد، مع وجود جالية إيرانية كبرى في دبي، وبالتالي وجود مجتمع مؤثر من رجال الأعمال الإيرانيين.

يأتي الخلاف أيضًا في ملف اليمن، فابن راشد الذي احتكرت شركاته تشغيل ميناء عدن إبان حكم علي صالح، لم يكن يرغب في الدخول في حرب شاملة، ستكلف الدولة الكثير من الموارد المهدرة، مع الاكتفاء بتدخل محدود يحمي الميناء، في حين كانت رغبة ابن زايد بسط النفوذ على خط تجاري مهم على ضفتي خليج عدن بمنطق التوسع البريطاني قديمًا.

وفي 11 مارس/ آذار 2019 بدأت وقائع محاكمة من يعتقد أنهم جواسيس إماراتيون في سلطنة عُمان، يعتقد البعض أن محمد بن راشد آل مكتوم أحد داعمي تلك الخلية، إلا أن المعروف تاريخيًّا أن العداء بين عائلة مكتوم وبين البوسعديين حكام عُمان قائم منذ قديم الزمن، في حين يحافظ آل نهيان على علاقات متزنة اضطربت خلال مراحل النزاع الحدودي مع عُمان، فتلك الأخبار التي تتحدث عن اهتمام الصين بتطوير ميناء الدقم العُماني الذي سيؤثر على ميناء جبل علي في دبي أمر شديد الحساسية لدبي، في حين تتعامل أبوظبي بنوع من التراخي مع هذا الملف.


كفرسي رهان

كان التنافس الاقتصادي يسير بمنطق قبلي، فعلى سبيل المثال عندما أنشأ آل مكتوم شركة الإمارات للطيران في الثمانينيات، سعت أسرة آل نهيان لإنشاء طيران الاتحاد بعدها بـ 15 سنة، كذلك الصندوق السيادي لأبوظبي الذي نافس دبي في مسعاها لتكون مركزًا ماليًّا في المنطقة، إلا أن الأخطر والأهم جاء بعيد أزمة أسعار النفط التي تأثرت بها أبوظبي على وجه الخصوص، واتجهت الإمارة على إثرها للاقتصادات غير النفطية، لذا فهي أصبحت تسعى نحو استنساخ تجربة دبي، في حين تتسارع الأخبار حول نية أبوظبي منافسة دبي في الاستحواذ على موانٍ عالمية، وإن صدقت تلك الأخبار فسيكون هذا أخطر الملفات التي طرحت بين الإمارتين.

يلاحظ أيضًا أن الشركات التي تتبع رأس الخيمة المتحالفة مع دبي في أسواق خارجية توجد فيها أبوظبي بنفوذ سياسي، فلا تستطيع التوسع فيها، كحال شركة جلفار في السوق المصرية.

اقرأ أيضًا: مصر الدولة المستباحة: السيطرة الإماراتية على السوق المصرية

كذلك لم تتدخل أبوظبي في بعض الأزمات الاقتصادية التي ضربت بعض الشركات الكبرى في دبي، وسعى ابن زايد محاولًا تقديم عروض لبعض الشركات للقدوم إلى أبوظبي بدلًا من دبي، كون بيئتها أكثر أمنًا من الناحية الاقتصادية. يأتي ذلك في إطار بسط النفوذ المركزي على إمارة دبي المتبقية والمهمة، وتشير بعض التقارير أيضًا إلى أن ابن زايد سعى للتأثير على دبي، من خلال تجميد رءوس الأموال لرجال الأعمال السعوديين المقبوض عليهم في حملة اعتقالات نوفمبر الشهيرة (اعتقالات الريتز كارلتون)، والتي أثرت بالسلب على معدلات النمو في الإمارة في العام نفسه.


بين شقي الرحى

يشير البعض إلى أن الحملات والتراشق الإعلامي الدائر بين وسيم يوسف وضاحي خلفان يأتي في إطار التململ من جانب دبي تجاه الوجوه الإعلامية التي تتبع أبوظبي. قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى سيتطور هذا الصراع الصامت بين الإمارتين؟

ولفهم الأمور على حقيقتها، فإن الواقعية التاريخية تؤكد ثلاثة أمور؛ الأول أن حالة التنافس أمر قديم وتاريخي، والثاني أنه لم يتطور منذ أكثر من 80 عامًا إلى نزاع مسلح، والثالث أن تكلفة بقاء المنافسة في إطار الاتحاد أقل بكثير من أي خيار آخر.

فمحمد بن راشد حاكم الإمارة التي يشكل الأجانب 90% من سكانها وتشكل 5% فقط من أرض الإمارات، يقع بين شقي رحى، فمن ناحية يحتاج بشدة إلى البقاء في حالة توازن مريح داخل الاتحاد، وذلك لحاجته لدعم أبوظبي المالي من جهة، ومن جهة أخرى لافتقاده للملف العسكري الذي تستحوذ عليه أبوظبي، في الجهة الأخرى فإن مغامرات ابن زايد تكلف اقتصاده الكثير، وتجعله متململًا من الوضع الاقتصادي الموشك على الانهيار.

لكن على أي حال لا نتوقع تغيُّرًا شاملًا داخل التحالف المهمين هناك، طالما ما زال الوضع الاقتصادي لا يزال مقبولًا، مع تنظيم دبي لإكسبو 2020، الحدث الذي سيؤثر بشكل إيجابي في مؤشرات اقتصاد دبي، لكن إن تصاعدت حدة السيطرة المالية لأبوظبي وتبعتها بسياسات إخضاع لدبي، فربما نجد موقفًا آخر وإن كان مستبعدًا – كما أكدنا – في الوقت الحالي.


الهوامش:-[1] مكتب التطوير هو صندوق مالي أُنشئ عام 1965، واختصاصه تطوير وتنمية البنية التحتية للإمارات وربطها ببعضها، وقد تأسس بجهود بريطانية وبتنفيذ من مجلس الإمارات المتصالحة. نشأ بعد محاولة جامعة الدول العربية وجمهورية مصر العربية احتواء الإمارات المحتلة وقطر والبحرين، ولكي تقطع بريطانيا تلك الجهود قامت بإنشاء المكتب، الذي ستتولد فيه عمليًّا فكرة اتحادية الإمارات التسع، قبل انسحاب قطر والبحرين منه عام 1971. راجع كتاب بريطانيا والأوضاع الإدارية في الإمارات المتصالحة، منى الحمادي.