عادةً ما يتم النظر لممارسات الحركات الجهادية في العالم العربي والإسلامي، وكأنها بدع من التيارات والحركات المسلحة والانفصالية في العالم، حيث لا يتم تحليل دوافع نشأتها وأسباب ممارساتها في ضوء السياقات الاجتماعية والسياسية التي ظهرت خلالها، ومقارنتها بغيرها من الحركات المسلحة على المستوى الدولي، كما يتم تحليل أي حركة أو تيار آخر من هذا النوع في أي بقعة من العالم، وهو ما تسبب حتى اليوم في رد سبب مسلك تلك التنظيمات إلى مرجعيتها الدينية مباشرة، ومن ثم صار الإسلام هو المدان في كل مرة يقوم أي من تلك التنظيمات والحركات الجهادية بعمل مسلح أو تفجيري.

إلا أن هناك في المقابل العديد من التنظيمات المسلحة في العالم التي قامت وتقوم حتى اليوم بممارسات لا تختلف كثيرًا عما تقوم به تلك التنظيمات، وسنسعى في هذا التقرير إلى تسليط الضوء على بعض أبرز تلك النماذج.


المافيا الروسية

هناك عدة نماذج مقارنة يمكن من خلالها فهم ما جرى في العراق وسوريا خلال السنوات الأخيرة مهدت لظاهرة صعود تنظيم الدولة الإسلامية، ومن النماذج المفيدة وللمفارقة في هذا الصدد، نموذج المافيا الروسية التي تشكلت من ضباط المخابرات الروس المسرحين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وإعادة هيكلة مؤسساته وأجهزته الأمنية، حيث بعد ما صار هؤلاء الأخيرون بلا عمل وبلا دور في أوضاع سياسية واقتصادية جديدة، قاموا باستغلال خبراتهم المهنية السابقة بشكل جنائي وإجرامي، حيث هيأت أجواء الانفتاح الرأسمالي الأجواء لهؤلاء لاستغلال خبراتهم الأمنية في مجالات إجرامية كغسل الأموال والتهريب وتجارة المخدرات ومختلف الأنشطة غير القانونية المدرة للربح.

وتحمل تلك التجربة رغم التباعد والاختلاف بعض ملامح التشابه مع ما جرى في العراق الذي تم تفكيك مؤسساته الأمنية والعسكرية والاستخبارية، بحيث صار الضباط السابقون في تلك المؤسسات بلا عمل، وبلا مصدر دخل، وبلا دور بعد أن كانوا سابقًا هم الفئة التي لها اليد العليا والطولى داخل البلاد.

وبينما كانت الأجواء في روسيا وفي العديد من بلدان شرق أوروبا التي تتماثل تجربتها أيضًا مع التجربة الروسية في هذا الإطار، قد هيأت الأجواء لدفع ضباط المخابرات والأمن السري السابقين لنشاط الجريمة المنظمة، فقد قادت أجواء الاحتلال وتهميش السنة وحملات اجتثاث وملاحقة البعثيين السابقين في المقابل، إلى دفع الضباط والكوادر العسكريين والأمنيين المسرحين للبحث عن دور في عراق ما بعد الاحتلال، وهو ما لم يجدوه إلا في العمل السري المسلح، والذي لأسباب عديدة لم يكن من الممكن له النجاح بدون غطاء ديني، وبدون خطاب طائفي مغال تحديدًا.

وتجربة أجهزة المخابرات والأمن السوفييتية التي تم تفكيكها، والتي حدثت على نفس المستوى في العديد من بلدان أوروبا الشرقية التي عايشت تطورات اقتصادية وسياسية متشابهة، تبدو بالنهاية تجربة تاريخية عادةً ما تتكرر لدى أي تفكيك غير مدروس لأي مؤسسة أمنية وعسكرية، وهناك العديد من النماذج التاريخية القديمة جدًا في هذا الإطار، ومن أبرز تلك النماذج تجربة تفكيك طبقة الساموراي من المحاربين القدماء في اليابان في القرن التاسع عشر، التي أدت إلى تحول هؤلاء المحاربين إلى ما يعرف بالـ«رونين» أي المقاتلين بلا أسياد،الذين أصبحوا لاحقًا نواة المافيا اليابانية القائمة اليوم.

وهناك أيضًا في هذا الإطار نموذج أقدم وأهم جرى في أوروبا أثناء القرون الوسطى، عندما تم تفكيك منظمة فرسان الهيكل العسكرية، حيث أدى تفرق أعضائها الناجين من حملات التصفية والاعتقالات في بلدان أوروبية بعيدة نسبيًا عن سلطة البابا في روما، بعد أن قاموا بتخبئة كنوزهم وثرواتهم التي كانت تفوق ثروات دول أوروبا الكبرى في ذلك الوقت، واختفائهم المزعوم كما يسود الاعتقاد تحت مسميات جديدة كأخوية البنائين الأحرار في اسكتلندا والجزر البريطانية، وأخوية الصليب الوردي في ألمانيا، وأخوية فرسان السيد المسيح في البرتغال، إلى نشوء حقبة تاريخية ممتدة من الغموض مستمرة إلى يومنا هذا، غذت منذ زمن بعيد جنون الارتياب لدى الكثيرين في أوروبا وحول العالم، وكانت السبب الأساسي لرواج العديد من نظريات المؤامرة في التاريخ الحديث.


حركات تحرير قومية

من خارج العالم الإسلامي تشبه تجربة داعش، في بعض الوجوه، تجربة الجيش الجمهوري الأيرلندي، فهو كذلك تنظيم مسلح ذو تكوين وطابع ديني مذهبي واضح، نشأ في إطار صراع سياسي وطائفي بين الكاثوليك الأيرلنديين الذين يؤيدون الاستقلال، وبين مواطنيهم البروتستانت المؤيدين لبريطانيا.

ويتشابه أسلوب عمليات الجيش الجمهوري الأيرلندي في استخدامه التفجيرات العشوائية الموجهة ضد المدنيين، وتبنيه لإعمال قتل هوياتية على أساس طائفي، عمليًا، مع تنظيم الدولة الإسلامية الذي يقوم بنفس الممارسات، ولكن بشكل أكثر دموية وأوسع نطاقًا بطبيعة الحال.

ويلاحظ كذلك في هذا الإطار أن الجيش الجمهوري الأيرلندي كان يبالغ أيضًا في تصوير وتسمية نفسه، فهو بالأساس كان مجرد منظمة سرية مسلحة وليس جيشًا نظاميًا حقيقيًا، وهذا قريب مما قام به تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أطلق على نفسه في مرحلة مبكرة اسم دولة العراق الإسلامية، في الوقت الذي كان فيه لا يزال مجرد تنظيم مسلح سري يعمل تحت الأرض، وهو يمارس نفس السلوك من المبالغة الآن أيضًا بإعلان نفسه كدولة خلافة لكل المسلمين، بينما هو في خضم حرب ضارية في العراق و سوريا لم تحسم نتائجها بعد.

ومن اللافت للانتباه بطبيعة الحال في سياق هذه المقارنة، وجه التشابه القائم بين العلاقات المذهبية المتشابكة مع السياسة في كلا النموذجين، حيث يبرز في كليهما علاقة طرف اجتماعي وديني معين، في كل من الحالتين، مع الجار صاحب الإمبراطورية التاريخية الذي يتمتع بنفوذ تقليدي في مختلف البلدان المجاورة له، من خلال العلاقات الدينية والمذهبية، التي يتم تجييرها سياسيًا في كلا النموذجين.


جيش الرب الأوغندي

في هذا الإطار تشبه تجربة داعش تجربة جيش الرب الأوغندي، من بعض الأوجه أيضًا، وجيش الرب هو حركة تمرد مسيحية تأسست في شمال أوغندا، خلال عام 1986 على يد سيدة تدعى «أليس أوما» وتلقب بـ«لاكوينا» أي المتنبئة. وقد تولى ابن أخيها جوزيف كوني رئاسة التنظيم منذ 1987، ويسعى عمومًا ذلك الجيش إلى الإطاحة بالنظام الحاكم في أوغندا، وإقامة حكم ديني يتأسس على الكتاب المقدس، العهد الجديد والوصايا العشر.

وقد تعهد المدعو جوزيف كوني آنف الذكر – في حال نجاحه – أن يجعل من أوغندا دولة دينية مسيحية تستند قوانينها إلى الوصايا العشر التي ورد ذكرها في الأناجيل، وعلى تقاليد وأعراف قبيلة أشولي التي ينتمي إليها. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عام 2005 أمرًا باعتقال جوزيف كوني نظرًا لبشاعة ووحشية أعمال الميليشيا التي يقودها، متهمة إياه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من بينها قتل عشرة آلاف شخص وخطف أكثر من 75 ألف طفل وتشريد نحو 200 ألف أوغندي وممارسة الرق ضد سباياه من البنات واستغلالهن جنسيًا والإبادة الجماعية للمدنيين والنهب والسلب وبتر أيدي أسراه وسمل أعينهم وقطع آذانهم،وهى ممارسات غني عن الذكر أنها لا تختلف كثيرًا عن الممارسات التي يقوم بها تنظيم داعش في العراق وسوريا.


أنظمة سياسية مزجت القومية بالدين

ويقترب التفكير القومي المتداخل مع الدين والمتأثر بالخلفية العسكرية في تجربة داعش، بشكل أو بآخر مع نظام الإنقاذ في السودان، الذي تسببت سياسته في شطر ذلك البلد إلى نصفين، وتسببت كذلك في تدويل قضية النزاع في دارفور، فضلًا عن بوادر الانفصال التي تظهر كل فترة في جزء مختلف من السودان.

وفى هذا السياق تتقارب كذلك التجربة الباكستانية بحكم النشأة على الأقل، حيث تأسست الدولة عبر عملية «ترانسفير» ديموجرافي بين الهندوس والمسلمين، وهو ذات ما فعلته وتفعله داعش اليوم في ساكنة العراق وسوريا من الشيعة والعلويين والإيزيدين والمسيحيين الآشوريين والكلدان في العراق، وكما هو معروف في هذا الإطار كذلك، يتداخل أيضًا بقوة الفكر القومي بالفكر الديني لدى الكثير من رجال الدولة الباكستانية،بحكم صراعهم الجيوإستراتيجي التاريخي مع الهند.


نموذج عقدة استوكهلم

بجانب النماذج التحليلية المقارنة لظاهرة داعش التي سبق ذكرها، يمكننا أن نضيف نموذجًا آخر من داخل إطار علم النفس هذه المرة، وهو نموذج متلازمة استوكهلم للتماهي النفسي والسلوكي بين الضحية والجلاد،وهو يصلح في استخدامه لتفسير سلوك السلفيين الجهاديين من غير العسكريين السابقين في الكثير من الحالات، حيث تماهت الشخصية السيادية والمتسلطة لجلادي الإسلاميين من رجال الأمن في الدول العربية مع نفسية وسلوك وأنماط تفكير بعض الجهاديين في الكثير من الحالات، وانطوت من خلال رد الفعل المستبطن على تسلط وقسوة مماثلة لتلك التي يتمتع بها عادةً رجال الأمن.

ومن ثم تحولت تلك الصفات مع الوقت إلى سمات شخصية ونفسية وسلوكية لديهم بصورة عامة، ولكن نموذج متلازمة استوكهلم في الحقيقة، يربكه الواقع في عراق ما بعد الاحتلال هذه المرة، حيث تخطى الواقع فى الحالة العراقية النموذج النظري التحليلي نفسه، وحدث تماه أغرب، فمن خلال تجربة سجن بوكا، تماهت الضحية مع جلادها السابق ليس بشكل نفسي وسلوكي فقط هذه المرة، بل بشكل حقيقي وعملي على أرض الواقع، حيث التقى البعثيون السابقون وضباط الأمن والاستخبارات بالسلفيين الجهاديين وتجاوروا بالزنازين، وكأبناء مشتركين لنفس الطائفة المذهبية المضطهدة، ليتحول ذلك القهر المشترك الذي مارسه الاحتلال على الفئتين لعامل صهر بينهما، وخلق بيئة مثالية للتلاقح الذهني والتأثير السلوكي المتبادل بين الطرفين.