نمط الحياة الذي يتحدد للفرد عن طريق تفردية نظام اقتصادي يصبح العامل الأول في تحديد بناء شخصيته الكلية، وذلك لأن الحاجة الملحة للحفاظ على الذات ترغمه على تقبل الظروف التي عليه أن يعيش في ظلهاهكذا رأى «إريك فروم» في كتابه «الخوف من الحرية» ، كما أنه حاول في كتابه تناول دور الفقر في تشكيل سيكولوجية المازوخي القابل للخضوع.صراعات عدة شهدتها الساحة المصرية خلال العقود الماضية منها صراعات علنية حظيت بدعم إعلامي وشعبي واسع النطاق، وبعضها منسية كتب لأحد أطرافها أن يقاوم منفردا سلطة السوط والسجن، هكذا يعيش ماراثون صراع الفلاح المصري مع هيئة الإصلاح الزراعي في عدد من قرى مصر آخرها قرية الكولة بمركز أخميم بسوهاج، بعدما أعادت الحكومة المصرية مصادرة أراضي الاستصلاح التي ينتفعون بها ويقومون باستصلاحها لأكثر من عشرين عاما وذلك بهدف إنشاء مدينة أخميم الجديدة.معاناة فلاحي الكولة ليست الأولى فقد شهت مصر العديد من النماذج المشابهة خلال الخمسة عشر عاما بشكل عام والعام ونصف الماضي بشكل خاص، حيث تزايدت فيه مثل تلك الحالات في عام 2015، فكيف أجهزت السياسات الحكومية على الفلاح المصري؟ ولماذا لا يثور الفلاح المصري؟


سياسات مشوهة

تُعرّف السياسات الزراعية على أنها منظومة متكاملة من الإجراءات والتشريعات التي تسنها الدولة بهدف تحقيق أهداف محددة تتضمنها الخطة التنموية الزراعية، ويشير البعض إلى أن السياسة الزراعية في مصر ارتبطت أيديولوجيا بالسلطة المهيمِنة؛ فقد اتخذت السياسية الزراعية ثلاث مراحل، هي: الاشتراكية الموجهة للداخل، ثم مرحلة الانفتاح الاقتصادي المحدود، تبعتها مرحلة التثبيت والتكيف الهيكلي والتوجهات الليبرالية. وبالرغم من محاولات تلك السياسات إعادة تقييم الإصلاح الزراعي؛ إلا أنها تتسبب في تعميق الفجوة الطبقية وإثقال كاهل الفلاح المصري وإضعاف الزراعة كعملية إنتاجية، وبالتالي ارتفع معدل الفقر والبطالة والجريمة في الريف.


ناصر: مكاسب وخسائر

بالرغم من تأسيس الحقبة الناصرية لسياسة الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي الزراعية وتحديد العلاقة بين المالك والمستأجر وتحديد حقوق العامل الزراعي؛ إلا أن قطاع الزراعة واجه العديد من المشكلات التي تمثلت في تدخل الحكومة في جميع مراحل الإنتاج الزراعي فتحكمت من خلال سياسة التسعيرة في أسعار المنتجات الزراعية مما أدى إلى الإضرار بعوائد الفلاحين، كما كان لتوجه عبد الناصر نحو التحديث والتصنيع تأثير سلبي على هذا القطاع وعدم قدرة الحكومة على الاستمرار في هذه السياسة، مما دفع إلى تبني عبد الناصر في نهاية حكمه سياسة متحررة معتدلة. ولكن يظل أن سياسة عبد الناصر الزراعية نجحت في تقليل نفوذ عناصر النظام القديم من البشوات، كما عملت على تحسين الأجور في المناطق الريفية.


السادات: بداية النزيف

بعد رحيل عبد الناصر ارتد السادات عن سياسة الإصلاح الزراعي التي اتبعها عبد الناصر، متبنيا سياسة الباب المفتوح فذهب إلى تبني عدة تشريعات تقلل من تدخل دور الدولة في الزراعة مثل « قانون 96 لعام 1974» والذي يلغي وصاية الدولة على الأراضي الزراعية ويشجع على مصادرة الاراضي التي استولى عليها عبد الناصر لإعادة توزيعها، كذلك رفع الحراسة عن كبار ملاك الأراضي الزراعية. عمل السادات أيضا على وضع أسس إدارية لإدارة الزراعة في مصر وهي هيئة الإصلاح الزراعي وجهاز الحراسة التابع لوزارة المالية وهيئة الأوقاف. مما دفع إلى اعتماد مصر على استيراد الحبوب، وتسببت في تدهور الميزان التجاري الزراعي، وانخفاض معدلات الاستثمار في مجال الزراعة، وربما كانت احتجاجات الغذاء في 77 من نتائج هذه السياسة.


مبارك: الانهيار الأكبر

ومع تولي مبارك مقاليد الحكم في مصر دفع إلى تبني سياسات التحرر الاقتصادي والتكيف الهيكلي تحت شروط البنك الدولي، فأصدر مجلس الشعب «قانون رقم 96 لسنة 1992» والذي عرف بقانون «المالك والمستأجر» حيث عمل هذا القانون على تحرير العلاقة بين الطرفين، وأعطى القانون خمس سنوات انتقالية لإعادة الأرض إلى ملاكها الأصليين، وقد آثار هذا القانون غضب الكثيرين من الفلاحين الذين اعتمدوا على الزراعة كمصدر وحيد للرزق، كما دفع هذا القانون إلى تزايد الفجوة بين كبار الملاك وصغار المزراعين وزادت من ارتفاع البطالة ومعدل الفقر. بالإضافة إلى ذلك عمل مبارك على نسف إصلاحات عبد الناصر من خلال إضعاف الجمعيات التعاونية وإنهاء الدورة الزراعية، وانتهي عصر مبارك بالعديد من قضايا تزاوج النفوذ السياسي والاقتصادي من خلال تخصيص الأراضي الزراعية للعديد من الشخصيات لإقامة مدن سياحية وعقارية وبعضها خاص بإقامة مدن عمرانية جديدة.


الثورة: معاناة وخطاب دعائي

هذا وقد ظل وضع الزراعة في مصر يعاني من نزيف وتدهور حاد نتيجة سياسات زراعية مشوهة قائمة على ركائز النيوليبرالية الجديدة، وحلم الكثيرون من فلاحي مصر بالتغيير خاصة في ظل ثورة شعبية أطاحت بهذه الركائز ودعت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن النخبة الحاكمة في مصر وجدت نفسها تتبع نفس سياسات مبارك الزراعية، فاتسمت سياسات النظم اللاحقة للثورة بكونها خطابية دعائية.وبعد وصول مرسي لسدة الحكم أكد دعمه لجميع الفئات العاملة في مصر، ومنها الفلاحين. وعمل على محاربة سوق الأسمدة السوداء التي ارتفعت أسعارها بمعدلات غير مسبوقة، وحمل خطابه نية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، كما أكد مساندته لرفع العبء عن الفلاح الصغير من خلال إسقاط ديون صغار المزارعين المتعثرين لدى بنك التنمية الزراعي، ومع ذلك لم يشهد الفلاح تحقيق أيًا من وعود مرسي خاصة فيما يتعلق بإسقاط الديون.شهدت هذه الفترة العديد من الأزمات التي واجهت الفلاح خاصة مع هيئة الإصلاح الزراعي التي راح رئيسها زكريا هلال بإصدار قرار «كتاب مديرية رقم 13 بتاريخ 25/2/2013» بإلغاء جميع عمليات البيع التي تمت من الهيئة للفلاحين ابتداء من تاريخ 14/11/2007، لإعادة تقييمها من جديد وبيعها مرة أخرى لهم، وهي الأراضي التي دفعوا من ثمنها أكثر من ستة أقساط، وهو ما أوقع الفلاحين في العديد من المشكلات حيث تراوحت فروق الأسعار بين 22 إلى 70 ألف جنيه.


ما بعد مرسي: أحلام متأزمة

وبعد عزل مرسي حلم الفلاحون بالتغيير مرة أخرى في تصحيح أوضاعهم مع بنك التنمية وهيئة الإصلاح الزراعي، ولذلك ساندوا النظام الجديد طامحين في تقنين أوضاعهم وأن يدفع بالزراعة إلى الأمام، كما أن تصدر الجيش للمشهد السياسي في مصر أعاد إلى أذهانهم حكم عبد الناصر ودعمه للإصلاح الزراعي مما جعلهم من الجماهير الغفيرة المؤيدة للنظام الجديد خاصة بعد أن حمل الخطاب السياسي الجديد بارقة أمل للفلاحين.حيث حمل العديد من السياسات منها تطبيق منظومة التأمين الصحي للمزراعين، وتسليم عقود منتفعي الإصلاح الزراعي، وإنشاء أول شركة قابضة للتسويق الزراعي، وتطبيق منظومة الحيازة الزراعية الإلكترونية الموحدة بالمحافظات، وتنمية 30 قرية، كما أكد على وضع مشروع المعاش الشهري لصغار المزارعين. وتوازى مع ذلك تبني السيسي مشروع استصلاح مليونًا ونصف المليون من الفدادين ضمن المشروعات القومية التي تقوم بها الحكومة.ومع ذلك لم تتوقف معاناة الفلاح التي تزايدت نتيجة إلغاء قرار إسقاط الديون، والارتفاع الجنوني لأسعار الأسمدة والمبيدات والتقاوي، وأسعار العمالة والكهرباء والسولار نتيجة توجه النظام لرفع الدعم تدريجيا عن الطاقة، كما اتجه النظام إلى رفع الدعم عن القطن في يناير 2015، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار تأجير أراضي طرح النهر والتي يستفيد منها أكثر من أربعة مليون فلاح وكان معدل الزيادة غير متوقع فارتفع من 15 إلى 175 جنيه للقيراط الواحد ليصل سعر تأجير الفدان إلى 4000 جنيه سنويا.


هل يثور الفلاح؟

دفعت معاناة الفلاحين إلى إيجاد مقاومة سائلة غير هيكلية وقابلة للتجديد والتغيير كرد فعل على سياسات النظام، ولكنها لم ترقَ إلى الفعل الثوري بقدر كونها تحركات حقوقية للدعم والمناصرة.لم تواجِه سياسات عبد الناصر والسادات ردود فعل عنيفة من قِبَل المزارعين المتضررين جراء تطبيق تلك السياسات، على النقيض من سياسات مبارك التي واجهت مقاومة عنيفة في بعضها فيما يتعلق بقانون 96 لسنة 92، والذي نص على تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر، ليشهد عام 97 العديد من الاحتجاجات العنيفة من قبل الفلاحين في عدد من المحافظات مثل بني سويف وكفر الشيخ والدقهلية رفضا لتسليم الأراضي لملاكها، مما دفع السلطة إلى مواجهة تلك الاحتجاجات بالاعتقالات الأمنية في عدد من القرى مثل قرية العطاف بالمحلة الكبرى، وقرى مطاى وسمالوط بالمنيا، وسراندو بالبحيرة، وتسبب ذلك في سقوط عدد من القتلى.بالبرغم من مقاومة الفلاحين خلال العقدين الماضيين إلا أن تحركات الفلاحين أنفسهم الميدانية لا ترقى إلى الاحتجاج الفاعل في السياسات الحكومية، وإنما تتسم بالتحرك البطيء في المطالبة بالحقوق ولم تشهد مصر احتجاجات فاعلة سوى في حالة سلب ومصادرة الأرض من مجموعة من الفلاحين.


شبكات مقاومة سائلة

لم تتوقف ردود فعل الفلاحين الغاضبة من تلك السياسات عند حد الاعتراض على قانون 96 بل ولدت مقاومة جديدة استمرت مع تفاقم الأوضاع الزراعية خاصة مع تبني إستراتيجية «والي» الزراعية ومحاولته مصادرة الأراضي الزراعية وسلبها لتنفيذ مشروعات سياحية وإنشاء مدن جديدة كما حدث في قرية « المريس» بالأقصرفي الفترة ما بين 2007 و2009، واتخذت هذه الاحتجاجات شكلا متطورا من الشبكات الاجتماعية، والتي قام بتشكيلها أصحاب الحيازات الصغيرة والمعدومين. وكانت هذه الشبكات غير هيكلية وقابلة للتجديد والتغيير، وتهدف إلى التصدي لمحاولات سلب ونزع ملكية الأراضي الزراعية والإضرار بها، كما وجدت في عدد من منظمات المجتمع المدني والشبكات الهيكلية التي تم تأسيسها من قبل اليسار المصري للدفاع عن حقوق الفلاح نصيرا داعما لمقاومة سياسات الزراعة المجحفة ومن هذه المنظمات « لجنة التضامن الفلاحي اليسارية واللجنة الوطنية غير الحزبية للدفاع عن المزارعين ومركز الأرض لدراسات حقوق الإنسان» واعتمدت هذه الشبكات على التضامن القانوني وتوفير آليات الدعم المناصرة لتحقيق ضغط شعبي على السلطات المصرية.استمرت تلك المقاومة بعد ثورة يناير 2011 مع تعقد مشاكل الفلاحين نتيجة توجه هيئة الإصلاح الزراعي إلى مصادرة بعض الأراضي بناء على القرار الصادر في 2013 وإعادة بيعها للفلاحين بأسعار مرتفعة كما حدث في قرى «عزبة العرب بالمعمورة وكوم المناصير بالبحيرة ومراشدة نجع حمادي والسلاموني بأخميم سوهاج، وفلاحي عزبة الأشراك بشبرا خيت، والكولة بسوهاج وسرسو بالدقهلية»، واستخدمت القوة الأمنية كوسيلة لمصادرة أراضي الفلاحين في هذه الحالات خلال عام 2015.


إذن؛ لماذا لا تثور الفؤوس؟

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه؛ لماذا لا يثور الفلاحون؟! ولماذا لا تثور الفؤوس؟! تتعدد الأسباب التي تجيب على هذا السؤال من خلال كونها أسبابًا سيكيولوجية واقتصادية واجتماعية وأمنية، فالفقر المقدع الذي أحاق بالفلاحين وبطشِ الدولة البوليسية وإغلاق المجال العام أمام الفئات المختلفة وتضييق الخناق على منظمات الدعم والمناصرة؛ من الأسباب الرئيسية وراء غياب تحركات للطبقات المنسية فاعلة في قرارات الحكومة، إضافة إلى ذلك عقيدة الفلاح السياسية وإيمانه بعدالة المؤسسة العسكرية تجعله يرفض أي شكل من أشكال الاحتجاج، كما أن غياب تنظيم فاعل مثل النقابات أدى إلى تراجع المنسيين في إحداث تغيير حقيقي في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

المراجع
  1. التركيبة الاجتماعية والأوضاع الراهنة في الريف، الخولي سالم ابراهيم، مركز الأرض لحقوق الإنسان،يوليو 2013.
  2. أسباب فشل السياسات الزراعية العربية في تحقيق الأمن الغذائي، محمد محمد الأمين، الجزيرة نت.
  3. نحو سياسة زراعية بديلة في مصر، موقع جدلية، مايو 2014.
  4. كيف مهد السادات الأرض للارتداد عن السياسات الناصرية .. في الزراعة
  5. الفلاحون انحياز ناصر و " سراندو" مبارك وآمال الحاضر، أحمد السيد النجار، الأهرام، سبتمبر 2014.
  6. من نجيب للسيسي.. مصر بعد 63 اصلاح زراعي، معاذ رضا، موقع مصر العربية، سبتمبر 2011.