في نوفمبر 1956، اقتحمت الدبابات السوفيتية بودابيست لسحق انتفاضة عمالية هناك. هذه لم تكن أول مرة يتم سحق حركة عمالية / ثورية من قبل الاتحاد السوفيتي باسم الاشتراكية. فمن قمع ماركسيين روس، إلى خنق الثورة الإسبانية وقتل قيادتها الماركسية المعترضة عن سيطرة الكريملين، (مثل أندريه نين وآخرين)، شارك الاتحاد السوفيتي في إجهاض محاولات كثيرة تنادي بالاشتراكية حول العالم.

رغم ذلك، ورغم قتله شيوعيين واشتراكيين ناقدين للتجربة بشدة، واضطهاده العمال والفلاحين داخل حدوده، وتفريغ آلة ديمقراطية عمالية مثل السوفييت (المجالس العمالية) من محتواه، كان يُعتبر الاتحاد السوفيتي من قبل جزء من اليسار الأوروبي واليسار العربي قلعة الاشتراكية العالمية ورأس حربة التقدمية ومناهضة الإمبريالية الغربية.

وهذا مفهوم في ذلك الوقت، بسبب هيمنة الكرملين آنذاك على الأحزاب الشيوعية الاشتراكية في العالم، بسبب البروباجندا، بسبب توحش وهيمنة الرأسمالية الغربية على دول الجنوب، بسبب انتصاره على النازية، بسبب أن الاتحاد السوفيتي كان يدعي أنه أول تجربة اشتراكية ناجحة في التاريخ، إلخ.

وعلى جانب الاتحاد السوفيتي، كانت هناك دولة أخرى تدعي أنها في طريقها إلى الاشتراكية منذ 1949، وهي الصين.
ومع انهيار الكتلة الشرقية بين عام 1989 و1991، أصبحت الصين –مع قيادة الحزب الشيوعي الصيني– وحيدة، ما زالت تقول إنها في طريقها إلى الإشتراكية.

هذا الإيمان باشتراكية الصين (أو أنها على طريقها إلى الاشتراكية) من قبل جزء من اليسار العربي (وغير العربي أيضاً)، يؤدي إصابة هذا الأخير أحياناً بما نسميه «الصينوفيليا»، أي الدفاع الشرس عن الصين كقلعة الاشتراكية الجديدة، ورأس حربة مناهضة الإمبريالية الغربية والأمريكية خصوصاً.

هذه «الصينوفيليا» تصل إلى ذروتها مع مقال الكاتب اللبناني عامر محسن في جريدة الأخبار، سبتمبر/أيلول 2021 بعنوان: «عن «النّظام الصيني»، أو لماذا نقف مع الصّينيّين؟».

وقبل أن نواصل، لابد أن نقول إن عامر محسن يقول إنه ماركسي، وعلى هذا الأساس يجب أن يتم تناوله. سوف نرى أن في مقاله تناقضات فكرية عديدة، بما في ذلك تناقضات مع الماركسية، رغم وصفه لنفسه بأنه ماركسي، وينتمي بالتحديد إلى الماركسية اللينينية. لذلك سوف نستخدم للرد على عامر محسن كتباً ومصادر ماركسية (من ضمن مصادر أخرى) حتى لا يتهمنا محسن –كما هو المعتاد مع معسكر «اليسار» القومي– بالعمالة للغرب والإمبريالية الغربية والصهيوأمريكية، إلا إذا كان أي نقد لتجارب الرأسماليات الوطنية هو تلقائياً عمالة للإمبريالية، مما ينهي أي مساحة للحوار والنقد من الأساس.   

ما هي الاشتراكية؟

حتى نعرف إذا كانت الصين اشتراكية أو في طريقها إلى الاشتراكية، لابد من تعريف الاشتراكية قبل المضي قدما. وبدون الدخول في تفاصيل معقدة ونظريات لا تنتهي، يمكن

نا تعريف الإشتراكية ببساطة بأنها نظام إجتماعي، اقتصادي وسياسي مبني على ملكية تشاركية لأدوات الإنتاج (المصانع، الشركات، الأرض) من قبل المنتجين أنفسهم (والمنتجون في الاشتراكية ليس الرأسمالي أو مالك الأرض، ولكن من ينتج حقيقةً، أي – في أغلبية الآراء – العامل والفلاح).

بعض اليساريين/الاشتراكيين العرب، والأوروبيون كذلك، يعرّفون الاشتراكية بتدخل الدولة في الاقتصاد لإدارته. فبالنسة لهم، تدخل الدولة يعني تلقائياً الاشتراكية، أو بداية الاشتراكية. ولكن هذا الفكر ينسى أن الاشتراكية كما قلنا هي تشاركية أدوات الإنتاج وتحكم المنتجين أنفسهم في وسائل الانتاج. لذلك، انتقد ماركس مثلاً في نقد برنامج جوتا أفكار لاسال التي كانت تشجع تدخل الدولة. فبالنسبة لماركس، تلك الأفكار التي ترى أن الدولة يمكنها أن تكون في خدمة البروليتاريا وبالتالي الاشتراكية في وجهة نظره كان لا بد من نقدها وقد سخر منها طوال الكتاب.

هذا أيضاً كان رأي إنجلز في موضوع تدخل الدولة وعلاقة ذلك بالاشتراكية، حيث يقول –في رسالة إلى برنشتاين، بتاريخ 12 مارس/آذار 1881:

إن وصف أي تدخل من قبل الدولة في المنافسة الحرة بأنه «اشتراكية» ليس أكثر من تمثيل زائف يخدم مصالح برجوازية مانشستر.

أيضاً، لاحظ المفكر الاقتصادي النقدي كارل بولانيي في كتابه «التحول الكبير» أن الرأسمالية بالأساس تحتاج ضرورياً إلى الدولة لإدارة رأس المال ككل، ولا وجود لـ«اقتصاد السوق» و«السوق الحر» وكل تلك المقولات الليبرالية والنيوليبرالية بشكل خالص، حيث إن الرأسمالية قد احتاجت تاريخياً إلى الدولة لأسباب عديدة. هذا أيضاً ما يقوله سمير أمين (الذي لا يمكن قطعاً اتهامه بالعمالة للإمبريالية الغربية والأمريكية) طوال كتبه. لذلك، فإن التأميمات وتدخل الدولة في الاقتصاد لا يعني في ذاته صعود «الاشتراكية» أو «خطوة جديدة من أجل الاشتراكية».

وعلى هذا الأساس، يمكننا القول إن الصين حالياً ليست اشتراكية كما يدعي عامر محسن. لأن أولاً، الاشتراكية هي سيطرة العمال على أدوات الإنتاج، وهذا لا يحدث الآن هناك. ولأن ثانياً، تدخل الدولة في الاقتصاد من خلال التأميمات مثلا وإدارة الأسواق لا تعني بمجردها أن هناك اشتراكية، بل بالعكس، يمكن أن يكون ذلك طريقاً للتراكم الرأسمالي أصلاً.

ونحن نسأل عامر محسن –الماركسي اللينيني– وأعوانه، أين تحديداً «سلطة العمال والفلاحين» في الصين؟ أي مؤسسة أو وزارة أو جزء من الفضاء العام يعبر فيه العاملون الصينيون عن آرائهم ويتخذون قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية؟ ألا يعرف عامر محسن أن الحق في الإضراب قد تمت إزالته من دستور جمهورية الصين الشعبية في عام 1982؟ ألا يَعتبر الإضراب حقاً وطريقة للتعبير عن مصلحة الطبقات العاملة؟ كيف يمكن لشخص يدعم نظاماً يسحق أبسط حقوق الطبقات العاملة أن يدعي أنه «ماركسي لينيني»؟ لو كان ماركس أو لينين يعيشون في الصين المعاصرة، فلن يدعموا بفخر الصين الحالية كما يفعل عامر محسن.

هل الصين ضد الإمبريالية الغربية حقاً؟

الحجة الأخرى التي يستخدمها معسكر عامر محسن هي أن الصين إذا لم تكن اشتراكية فهي على الأقل «في طريقها إلى الاشتراكية». ولكن عامر محسن يكتب بعض الحجج الفريدة من نوعها التي يجب الرد عليها أولاً، لأن الرد عليها بالتحديد سيساعدنا على مواصلة مقالنا وفهم إذا كانت الصين في «طريقها إلى الاشتراكية» أم لا.

أولاً، يتهم محسن المحللين السياسيين بالرؤية التبسيطية في ما يخص الصين، حيث يقول: «هذه النظرة التبسيطية تفترض وجود بلدين فقط في النظام العالمي، كأنهما مصارعان في حلبة… فالنظام الدولي مكوّن من تحالفات عسكرية وتكتلات متداخلة في طوله وعرضه. مقارنة بلدين بمعزل عن ذلك لا يصح إلا لقياس عدد الميداليات التي يحوزونها في الأولمبياد»، ثم يستكمل قائلاً: «بدلاً من أن تقارن حجم اقتصاد أمريكا بالصين، عليك أن تنظر إلى أكبر عشرين اقتصادًا في العالم. جئ بلائحة بهذه البلاد العشرين مثلاً، وهي تختزل مجتمعة أكثر التجارة الدولية، وأكثر الرساميل والتكنولوجيا والقوة العسكرية في العالم، وستجد أن 16-17 منها سيقف، بوضوح ومن غير شك، في معسكر الولايات المتحدة».

ونحن يمكننا القول أيضًا إن عامر محسن له نظرة تبسيطية للأمور. فهو إذ يقول إن «النظام الدولي مكون من تحالفات عسكرية وتكتلات متداخلة»، فنحن لا نفهم لماذا يقتصر ذلك على الغرب. فهل ينسى الكاتب أن الصين – الذي يشعرنا محسن بأنها الفليبين أو الفيتنام أو ليبريا (أي بلد فقيرة تسيطر عليها الإمبريالية الأمريكية/الغربية بالكامل) – هي صاحبة أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية على حسب بعض المحللين، وهو مشروع «حزام واحد طريق واحد» أو «خط الحرير الجديد»؟ وأن الدول الغربية (التي في رؤية عامر محسن «تحارب» الصين) شريكة في هذا المشروع العملاق مثل ألمانيا الداعمة للصهيونية وفرنسا التي تمارس سياسات نيو-استعمارية في أفريقيا؟ بالتأكيد، النظام الرأسمالي مليء بالتناقضات والصين ليست استثناء في ذلك. فكل دولة تبحث على مصلحة رأسماليتها في كل هذه التعقيدات وكل هذه التناقضات، وهذا طبيعي.

فمثلًا، فرنسا التي يراها كثير من الفرنسيين تحت سيطرة رأس المال الأمريكي والأوروبي (خصوصًا الألماني)، دخلت في أزمة دبلوماسية مع أمريكا بسبب أزمة الغواصات مع أستراليا. هل هذا يعني مثلًا أن فرنسا ضد رأس المال الأمريكي وضد «الإمبريالية الأمريكية»؟

والبلاد الغربية الرأسمالية الإمبريالية تستثمر في الصين «الاشتراكية» (أو «التي تسير إلى الإشتراكية» إذا أردتم)، ومن ضمنها «معسكر الشر» – الولايات المتحدة – التي عرفت انفجار استثماراتها مع الصين بين 2000 و2020. الأمر نفسه هو حال كوريا الجنوبية واليابان وغيرها من البلدان التي تعتبر قواعد للإمبريالية الأمريكية في آسيا، فقد نقلت شركة سامسونج (كوريا الجانوبية) أعمالها بالكامل في مجال صناعة أجهزة الكمبيوتر إلى الصين (ديفيد هارفي، A brief history of neoliberalism، ص139).

إذًا، هل هذا يعني أن الصين حليفة أمريكا وأوروبا؟ لا. هل هم أعداء أيضًا؟ لا. هم شركاء في إدارة الرأسمالية العالمية والتجارة العالمية، فهذا يعني أنهم يتفقون في بعض الأوضاع عندما يكون لهم مصالح مشتركة، ويختلفون عندما تختلف المصالح. والخلاف الأكبر الآن هو إدارة تلك الرأسمالية العالمية ومكانة كل دولة في تلك الرأسمالية. ولكن ليس هناك عداوة/خلاف على المبدأ نفسه.

الطريق إلى الاشتراكية

كما قلنا من قبل، كان مفهومًا أن يعتبر بعض اليساريين/الاشتراكيين العرب والغربيين، الاتحاد السوفيتي، قلعة الاشتراكية ومحاربة الإمبريالية، خصوصًا أنها كانت تعتبر تجربة فريدة من نوعها و«تجربة أولى» في العالم. ولكن من الغريب أن تقول بفخر، كما يقول عامر محسن: «تخيّلوا إذاً أين ستكون الصّين، وكيف سيكون شكل المجتمع الصيني وإنجازاته، حين يصل دخل الفرد فيها إلى 50 أو 60 في المئة من دخل الأمريكي، حتى لا نقول يوازيه؟ هنا تكمن المقارنة الحقيقيّة وهذا رهان المستقبل، ولهذا السّبب ــ أحاجج ــ تمثّل الصين اليوم إحدى الآمال القليلة للإنسانية في تصور مستقبلٍ مختلف. وبالمثل، إن تمكنت أمريكا من ضرب الصّين أو عزلها، فإننا – الكوكب بأكمله – سندخل في مرحلة جديدة مظلمة من انتصارية الرأسمالية الليبرالية، وقد يكون تأثيرها، بشرياً وسياسياً وفكرياً، أثقل من كلفة انهيار الاتحاد السوفياتي‬».

قبل كل شيء، تستوقفنا كلمة محسن: «انتصارية الرأسمالية الليبرالية»، وهذه بالنسبة لنا زلة قلم غريبة من كاتب يدعي أنه «ماركسي». فوضع وصف «ليبرالية» لكلمة «رأسمالية» يوحي بأن المشكلة في ليبرالية الرأسمالية وليس في الرأسمالية نفسها. فما نعرفه أن الماركسي ضد الرأسمالية وناقد حاد لكل أشكالها وليس مرحلتها/شكلها الليبرالي. إنها تفصيلة صغيرة للغاية تكشف في الواقع عن فكر هذا المعسكر السياسي. فهو ضد مرحلة الليبرالية في الرأسمالية وليس ضد نمط الإنتاج نفسه، أو يوحي بذلك في المقال. لذلك نستغرب من ادعائه «الماركسية» رغم هذا التناقض الفج.

لنستمر.

هل يمكننا اعتبار الصين من «أحد الآمال القليلة للإنسانية في تصور مستقبل مختلف» وأن من دونها «سندخل مرحلة جديدة مظلمة من انتصارية الرأسمالية الليبرالية ؟».

سوف نرد على هذا السؤال في ثلاثة أجزاء: نتناول هنا الجزء الأول، وهو رأس المال الصيني وعلاقته بالخارج الخارج، بينما نتناول في المقالة القادمة الوضع الداخلي في الصين وحقيقة الصراع الطبقي فيها.

رأس المال الصيني والخارج

كما قلنا، يستخدم عامر محسن ألفاظًا غريبة عن «الماركسية» و«الماركسية اللينينية»، ومن الغريب أيضًا أن تقول إن الصين تحارب الإمبريالية الأمريكية كأنها فنار الإنسانية، وتتهم الآخرين بالتبسيط، وعندما تدعم الصين كأنها «نظام اشتراكي» أو «متجه إلى الاشتراكية» والنظام الصيني متصل مع العولمة الرأسمالية ورأس المال العالمي بشكل لم تعرفه الكتلة الاشتراكية/الشرقية قط في تاريخها.

بدأ الأمر من الأساس مع زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون إلى الصين في عام 1972، وذلك ليس في عهد تشي جيبينج بل في عهد ماو نفسه الذي طرد الإمبريالية الغربية واليابانية. وكان من ضمن أهداف تلك الزيارة أن تستخدام الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع الصين كأداة ضغط في التعامل مع السوفييت، لا سيما في ما يتعلق بقضية فيتنام في إطار الخلاف الصيني السوفيتي الشهير آنذاك. على العموم، كانت أهداف الزيارة مختلفة، ولكنها تثبت على الأقل أن الصين أرادت أن تنفتح للعالم «الرأسمالي» ولأكبر إمبراطورية في التاريخ.

ثم، بعد سقوط «عصابة الأربعة» أو «مجموعة الأربعة» (وهي مجموعة سياسية يسارية مؤلفة من أربعة مسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني) وبعد موت “ماو” في عام 1976، وصعود دينج شياوبينج، بدأ ما يسمى «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، أو كما يسميها المفكر الماركسي ديفيد هارفي: «النيوليبرالية ذات الخصائص الصينية».

ومن الأشياء المثيرة في هذا الانفتاح الصيني للرأسمالية، هو انفجار الاستثمارات الأجنبية في الصين من أغلب رأسماليات العالم. وهذا بدأ مع اتصال الصين مع العالم الرأسمالي ومع بدأ ربط علاقات وشبكات مع الرأسمالية العالمية. فكما يقول ديفيد هارفي: «شكلت التجارة الخارجية 7 في المائة فقط من الناتج القومي الإجمالي للصين في عام 1978، ولكن بحلول أوائل التسعينيات، ارتفعت إلى 40 في المائة، وظلت عند هذا المستوى منذ ذلك الحين. وارتفعت حصة الصين من التجارة العالمية الرباعية خلال نفس الفترة. بحلول عام 2002، كان الاستثمار الأجنبي المباشر يمثل أكثر من 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين (وشكل التصنيع نصفه)» (ديفيد هارفي، A brief history of neoliberalism، ص144).

وبما أن “محسن” يحب الطعام ويفتخر بالمطاعم الصينية حيث يقول: «تنتشر كلّ أنماط المطاعم في البلد بشكلٍ كثيف، من العربات التي تبيع الوجبات في الشارع للموظّفين…»، نعطيه هنا قائمة الطعام في ماكدونالدز الصيني. ونسأله وهو يختار الوجبة، ألم  يعرف أن أول مطعم غربي/أمريكي فتح في الصين كان عام 1987 وكان مطعم دجاج كنتاكي؟ من الواضح أن الصين فنار مقاومة الإمبريالية الغربية حتى في الطعام.

ومن ناحية الاستثمارات الخارجية الصينية نفسها والاتصال بالرأس المال الخارجي، فقد وصلت في 2020 إلى 133 مليار دولار في العالم. ولكن العام المهم بالنسبة لرأس المال الصيني كان عام 2015 عندما تجاوز الاستثمار الأجنبي المباشر للصين للتو الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد للصين. فبالنسبة لبعض الماركسيين (ونحن لا نؤيد ولا نعارض هذه الفكرة الآن)، تعتبر الصين منذ هذا الحين إمبريالية بالمعنى اللينيني حيث إن «لينين» (الذي لا يمكن اتهامه بالعمالة للإمبريالية وللرأسمالية) يعطي أهمية قوية للاستثمار الخارجي ونقل رؤوس الأموال كمعيار أساسي في تكوين دولة إمبريالية حيث يقول: «فالإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى» (الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية. الفصل الثامن).

ومن ضمن الأمثلة على التوسع الصيني هو شراء شركات غربية، مثل الشركة الفرنسية Asteelflash التي اشترتها مجموعة الشركات الصينية Universal scientific industrial في عام 2020 بـ395 مليون يورو. ومثال حديث آخر عن اتصال رأس المال الصيني بالعالم هو ما حدث مع العطل العالمي لفيسبوك وخسارة مليارات الدولارات من قبل بعض المليارديرات. فيتضح أن أكثر 10 رأسماليين خسروا أموالًا في العالم جميعهم أمريكان إلا رأسمالي واحد. وهو ليس يابانيًا أو ألمانيًا أو فرنسيًا بل هو صيني: ما هواتينج، من شركة تينسينت، الذي خسر 966 مليون دولار. أين هنا الاشتراكية/ الطريق إلى الاشتراكية؟

وبالطبع، يأتي مع هذا التوسع للرأس المال الصيني صراعات مع ما يسمى «الإمبرياليات القديمة». ولكن هذا ليس بسبب أي قطيعة مع الرأسمالية العالمية بل بالعكس بسبب توغل رأس المال الصيني في العالم. فعلى سبيل المثال، تتصارع الصين مع اليابان على الأسواق في أمريكا اللاتينية، حيث أعلنت الصين في عام 2013 شراءها طائرات Embraer بقيمة 3.2 مليار دولار وفتح خط ائتمان بقيمة 5 مليارات دولار لشركة Vale، شركة متخصصة في خام الحديد. أما في الأرجنتين، فتعهد ثاني أكبر اقتصاد في العالم باستثمار 7.5 مليار دولار في الطاقة والنقل. كما تراقب الصين باهتمام فول الصويا الأرجنتيني. وفي كوبا، تم التوقيع على 29 اتفاقية، بما في ذلك لتمويل أبحاث النفط في خليج المكسيك.

وهي تتصارع في آسيا الشرقية مع دول الصناعية القديمة – خصوصًا أمريكا – في التحكم في ما يسمى معادن الأراضي النادرة التي تستخدم في التصنيع التكنولوجي، بما يؤدي إلى تدمير البيئة، رغم محاولات الحكومة لتقليل هذا الدمار بحسب بعض المصادر (بالطبع، كل رأسماليات العالم تدمر البيئة والأمر لا يخص فقط الصين، ولكن تلك الأخيرة تلوث بشكل رهيب الكوكب).

نرى نفس الصراع في أفريقيا بين رأسماليات أمريكا وأوروبا والصين في أفريقيا، فالصين لديها علاقات تجارية قوية مع القارة، أكثر من الولايات المتحدة. ففي عام 2013، بلغ إجمالي التجارة بين أفريقيا والصين 210 مليارات دولار أي أكثر من ضعف التجارة بين الولايات المتحدة والقارة (85 مليار دولار). وقد أسست قاعدة عسكرية في إثيوبيا في 2016 من أجل الحفاظ على مصالحها هناك، وتتصارع من أجل الموارد في القارة مثل الخشب من الكاميرون، الكروم من زيمبابوي، بحسب هذا المصدر (Chinese imperialism).

الصراع بين رأس المال الصيني ليس فقط مع الدول الصناعية الغربية القديمة، ولكن أيضًا مع رأسماليات «نامية» مثل الهند التي تحاول تحجيم مشروع «طريق الحرير الجديد» الصيني بتأسيس مشروعها الخاص وهو «ممر النمو بين آسيا وأفريقيا» (م. برونو: L’Eurasie. Continent, empire, idéologie ou projet، 2018).

وكما قلنا من قبل، «طريق الحرير الجديد» هو أكبر مشروع تأسيس بنية تحتية في تاريخ البشرية بحسب أغلب المحللين، حيث إنه يريد ربط الصين بأوروبا وأفريقيا ببنية تحتية قوية. وهذا غير متضارب مع الرأسمالية بل بالعكس، حيث إن أساسًا من أسس الرأسمالية هو بناء بنية تحتية قوية لتسريع تنقل رأس المال ككل وتنقل البضائع والعاملين. هذا ما يسمى «رأس المال العام». فحتى الليبراليين يعترفون بأن رأس المال يحتاج استثمار الدولة في البنية التحتية (من ضمن أشياء أخرى) لتسريع وتقوية دورة رأس المال ككل. فتحسين وتوسيع البنية التحتية من قبل الدولة ليس في ذاته اشتراكية، بل في الغالب هو لتسريع تراكم رأس المال. أما من ناحية ضخامة المشروع وعدد المشاركين فيه، فنحن لا نعرف لماذا يريد محسن أن نشعر بأن الصين هي مثل الفيتنام أو الفيليبين؟ ألم يسمع عن هذا المشروع؟

أما على مستوى المؤسسات الدولية الغربية، فقد دخلت الصين مثلًا (التي تعتبر «آخر آمال الإنسانية» بحسب كلام عامر محسن) في عام 2001 مؤسسة التجارة الدولية، وتعاونت رسميًا مع صندوق النقد الدولي في عام 1980 (أي بعد عامين من الانفتاح الاقتصادي)، حيث أصبحت ثالث أكبر عضو داخل المؤسسة بحسب الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي نفسه.

ولكن الصين – لأنها من الواضح تسير نحو الاشتراكية– لم تعد تحتل مكانًا متزايدًا في النظام الاقتصادي العالمي وفقط، ولكنها تؤسس بنفسها بنوكًا اسثتمارية ومؤسسات دولية مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (الذي تم تأسيسه في عام 2014) الذي تشارك فيه (من ضمن بلاد أخرى) انجلترا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا (وهي أنظمة معروفة باشتراكيتها!).

إذًا نرى أن رأس المال الصيني متصل بشدة بالرأسمالية العالمية، بشكل لم تعرفه أبدًا الكتلة الشرقية قبل ذلك. وهذه بعض الأمثلة الصغيرة عن هذا الاتصال العضوي برأس المال العالمي، ولا نستطيع إعطاء أمثلة أخرى، لأن هذا الموضوع وحده يحتاج إلى كتب.

ولكننا نسأل عامر محسن، أين الاشتراكية في كل ذلك، أين حتى «السير نحو الاشتراكية»؟ فمن الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية إلى الدخول في مؤسسات رأسمالية غربية وشراء شركات ومصانع في العالم، مرورًا بتدمير الطبيعة واستغلال العمالة الخارجية، أين إذًا «المستقبل المختلف»؟

ولكن الأمر يزداد غرابة عندما تستخدم جملة «مستقبل مختلف» ونربطها بالوضع الداخلي الصيني نفسه كما سنرى في المقالة المقبلة.