هذه المقالة هي مقدمة المترجم «مينا ناجي» لكتاب الفيلسوف السلوفيني ذائع الصيت «سلافوي جيجك» المعنون «ضد الابتزاز المزدوج»، وقد صدرت الترجمة حديثًا عن دار المرايا للإنتاج الثقافي.

في أكتوبر/تشرين الثاني 2017، قُرب نهاية محاضرة كان يلقيها جيجك بالجامعة الأوروبيّة في مدينة سان بيترسبيرج الروسيّة تحت عنوان «مثل اللص في الليل: تحقيق الشيوعيّة»، بعد تلقي عدد من أسئلة الحضور ذات طبيعة سياسيّة تخصّ موضوع المحاضرة، قام المصوّر الجالس خلف الكاميرا في الصف الأمامي برفع يده، وحين جاءه الميكروفون سأل جيجك: «ما معنى الحياة بالنسبة لك؟» ضجَّت القاعة بالضحك وعلّق منظِّم الحدث محاولاً رفع الحرج: «عظيم، سؤال قصير جدًا، على الجميع محاكاة ذلك!» ثم نظر إلى جيجك الذي لم يضحك أو حتى يبتسم، بل بجدية تامة بدأ الإجابة على السؤال مهتمًا بصياغتها من دون ألفاظ أو تراكيب صعبة قدر الإمكان، قائلاً إنه سيأخذ وقته في الإجابة على غير رغبة المنظّم. بعد الإجابة، أضاف بشكل اعتذاري للمصوّر أنه يعلم أن الإجابة غير مُرضية له لكنه باغته من دون أن يكون مُستعدًا.  

يتضمَّن هذا الموقف العابر- والمؤثر في الحقيقة- ثلاثة مواقف أو أدوار أساسيّة يتبناها السلوفيني سلافوي جيجك (1949): الموقف الأول هو أنه على الرغم من تعدُّد وتشعُّب ألقابه: منظِّر سياسي؛ باحث اجتماعي؛ محلِّل ثقافي؛ إلخ. فهو يعتبر نفسه، أولاً وأخيرًا، فيلسوفًا يستخدم مُنجز التحليل النفسي اللاكاني والفلسفة المثاليّة الألمانيّة والكتابات الماركسيّة والنقديّة والثقافة الشعبيّة كأدوات نظريّة وتحليليّة داخل حقل الفلسفة. بإجابته تلك على المصوِّر يؤكِّد جيجك دوره كفيلسوف بمعنى الانشغال بالأسئلة الكبرى: ماهية ومعنى الحياة والموت، والإنسان، الوجود، الخير والشر إلخ.. لذلك حين سأله المصوِّر سؤالاً عامًا وبعيدًا عن سياق النقاش والمحاضرة، لم يعتبر ذلك خروجًا عن النَص بل رجوعًا لدوره الأساسي كفيلسوف.

الموقف الثاني، هو أن جيجك يستعيد ويؤكِّد دوره كمُعلِم؛ ليس فقط بالمعنى الأكاديميّ كأستاذ جامعة في الفلسفة، بل بالمعنى الأوسع والأكثر أصالة؛ أي ناقل ومُضِيف للمعرفة الفكريّة بشكلها العمومي والأساسي فيما يخص سلوك حياة الإنسان كإنسان. هذا الموقف يتضمن تعقيدًا مُعاصرًا ينبغي توضيحه. فالإجابة الما بعد حداثيّة النموذجيّة الرائجة لسؤال المصوّر يمكن صياغتها بالشكل الآتي: «ومن يعرف ما معنى الحياة؟ كلنا ضائعون وغير قادرين على حصول على إجابة، أنا مثلك تمامًا لا أعرف شيئًا عن أي شيء وعليك قبول هذا الأمر ولا تجعل أحدًا يُملي عليك الإجابات» وهو ما لم يفعله جيجك، بل قام بدوره كمُعلِم من دون خجل، موضحًا أن هذا ما يراه من دون فرض إجابات أو ادّعاء بامتلاك الحقيقة. 

الموقف الثالث الذي يظهره جيجك في رده على المصوّر هو دوره كفرد مُتضامِن داخل جماعة أكبر هي الجماعة البشريّة، مُمثَّلة في غالبيتها من المقهُورين والمُهمَّشين والمَقمُوعين الذين يسعون للوصول إلى حياة كريمة وعادلة. كان يمكن أن يضحك ويسخَر، مثل جميع الحضور الذين ضجوا بالضحك، دون أن يلومه أحد، من الرجل الساذج والبسيط الذي يبدو أنه لا يفهم شيئًا عن الحوار الدائر، والذي وصل إلى عمره هذا من دون أن يتخذ موقفًا من سؤال أساسي ومحوري مثل معنى الحياة، إلا أن جيجك من البداية للنهاية عامله كند له، باحترام وجدّية، بصفته مُشتبِك في المجال العام ومُتضامِن في قضايا عامة تحتاج إلى تثقيف الآخرين ومعاملتهم كأنداد في ذات الوقت، دون التعالي عليهم بمعرفة أو ثقافة خاصة تحتفي بذاتها وتسعى فقط لمكانة فارغة أو مُكتسبات أنانيّة. 

على مدار سنوات نشاطه كان يبرز جيجك دوره الفلسفيّ والاجتماعيّ والسياسيّ بروح الرفاقيّة والتضامن والمساواة، وهذه المواقف/الأدوار يمكن رؤيتها مُنعكِسة في مقالات هذا الكتاب عن أزمة اللاجئين في أوروبا بعيد الثورات العربية وعلاقتها بالإرهاب المعاصر والاستعمار الجديد: نجد في مواضع عدَّة إصراره على ضرورة التفكير، العمليّ والنظريّ، ومناهضة المَيل العام المُلِح وقت الأزمات الكُبرى على “افعل ولا تفكر، لأنه لا وقت للتفكير”، الصيغة التي تستخدمها الأيديولوجيا المهيمنة لكي تستمر في هيمنتها والتشويش على أسباب وشروط حدوث تلك الأزمات والكوارث في المقام الأول، فيلحّ هو في الاتجاه المعاكس: “فكّر ولا تفعل”، ويجعل التفكير بنفس أهمية سرعة التصرُّف والنجدة، فهذا ما يعتمد عليه المُستقبل القريب والبعيد: أهمية التفكير بشكل نقدي وعميق فيما ينبغي فعله، أو “فيما العمل”، من دون خوف من كسر المَحظورات والأفكار الراسخة، على ضوء الضرورة المُلحَّة لإعادة التفكير واختراع مفهوم الشيوعيّة.

هذا من دون الإخلال بموقف التضامُن، فيصرّ عبر أجزاء الكتاب أننا جميعًا مسئولون عن حل الأزمة: ليس فقط لأننا جميعًا في نفس المركب وعلينا الوصول معًا إلى بر النجاة، بل لأن جميع الأطراف مسئولة عن حدوث هذه الأزمة بالأساس، سواء بسبب مواقف وتدخلات الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) في الشرق الأوسط، أو تطرف أيديولوجيا الإسلام السياسي الذي يسميه “الإسلام الأصولي”، أو سلطويّة الأنظمة العربيّة القوميّة. 

ما يلفِت في تلك المجموعة من المقالات هو شجاعة جيجك الكبيرة في قول ما ينبغي قوله، رغم ما يجلبه من مشاعر السخط والغضب عليه، سواء من اليسار الأوروبي والأمريكي الليبرالي لكسره المستمر لمحظورات يترنم بها جَوقة ذات مصالح أو مُنصاعة (وهو ما حدث فعلاً في السنوات الأخيرة الماضيّة من تضييقات عليه في الكتابة بالصحف البارزة وإلقاء المحاضرات في الجامعات الكُبرى التي يسيطر عليها هذا التيار)، أو من يمين شعبوي مُتطرِّف صعد مرّة أخرى على الساحة بشكل عنيف نتيجة لتوجُّه الفريق الأول، باعتباره شيوعيًا مخبولًا آخر. 

يتحدى جيجك كلا التيارين، بصفته واحدًا من صف اليسارين المخضرمين النقديين المعاصرين؛ جنبًا إلى جنب مع الفرنسي آلان باديو والإنجليزي تيري إيجلتون والأمريكي فريدريك جيمسون، إلخ.. على اختلافاتهم، في نقدهم الحاد لما بعد الحداثة، التي تحولت إلى دوجما شعبيّة مهيمنة يحمل لواءها يسار أجوف، ينبطح للابتزاز الهُوياتي، وينظر أسفل قدمه أثناء بحثه بالمُلقاط في قضايا فرعيّة على وسيلة للخروج من الورطة التي تشمل الجميع، متغاضيًا ومتجنبًا ما هو جذري وحاسم، ليقدم، نتيجة ذلك، دعمًا أيديولوجيًا وسياسيًا إلى الإسلام السياسي، وبالتالي الإرهاب العالمي والحروب الأهليّة وانهيار الدول بالمنطقة. أو نقدهم العنيف لأيديولوجيا اليمين التسطيحيّة والمُختزِلة وتبنيها التدخلات الاستعماريّة الجديدة، بسبب المطامع الاقتصاديّة والسياسيّة، عن طريق حروب الوكالة والحروب المباشرة والدعم الفج للطغيان الإسرائيلي، بجانب تبنيها العنصريّة والتمييز الجنسي ومعاداة الأجانب واللاجئين وتعزيز التفاوت الطبقي وتهميش الأغلبيّة.

رغم هذا، فتأثير جيجك صار أكبر وأوسع على أجيال جديدة من المفكرين والشباب من مختلف أنحاء العالم (لدرجة عمل مجموعات ساخرة وتداول نكات و”كوميكس” على لاكان وهيجل وماركس بفضله)، بما تتضمنه أحاديثه وكتاباته من تكرار ومُبالغة واستعراض، بل حيرة وتناقض. وترجمتي لهذا الكتاب الشجاع له تأتي من ضرورة وجوده بالعربيّة، ففيه يتناول فيلسوف مُعاصر مُهم ومؤثر ظواهر كبرى حدثت العقد الأخير في منطقتنا وتخصنا بالأساس، من وجهة نظر يساريّة مُتزِنة وعميقة ترى مشاكلنا وأزماتنا في سياق عالمي أوسع هو الرأسماليّة العالميّة الحاليّة.